الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحَنَّة، يذكرون أن فيها قبر حَنَّة أُمِّ مريم، صارت في الإسلام دارَ عِلم، وهي المعروفة بالمدرسة الصلاحية، بالقرب من باب الأسباط، وله بالقدس - أيضًا - خانقاه، وهي المعروفة بدار البطرك، مركبة على ظهر كنيسة قمامة، وبيمارستان بالقرب من قمامة، وغير ذلك من الأوقاف والخيرات.
ثم رحل السلطان عن القدس؛ لخمسٍ مضين من شوال، ودخل إلى دمشق يوم الأربعاء، لخمس بقين من شوال، سنة ثمان وثمانين وخمس مئة، وفرح الناس به؛ لأن غيبته كانت عنهم مدة أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وفرق العساكر، وودَّعه أقاربه، وتوجه كل إلى وطنه.
ومحاسن السلطان صلاح الدين رحمه الله ومناقبه كثيرة لا يمكن حصرها.
*
ذكر وفاة السلطان صلاح الدين وبعض سيرته:
فحصل للسلطان توعُّك، وهو أنه لحقه ليلةَ السبت سادس عشر صفر كسلٌ عظيم، وغشيه نصفَ الليل حُمَّى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وحدث به في السابع رعشة، وغاب ذهنه، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناسَ من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن شرحه، واشتد به المرض ليلة الثاني عشر من مرضه، وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة، وهي المسفِرة عن نهار
الأربعاء سنة تسع وثمانين وخمس مئة، بعدَ صلاة الصبح.
وغسله الفقيه الدولعي خطيبُ دمشق، وأُخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجًّى بثوب، وجميع ما احتاجه من الثياب في تكفينه، أحضره القاضي الفاضل من جهة حِلّ عَرَفَه، وصلى عليه الناس، ودفن في قلعة دمشق، في الدار التي كان مريضاً فيها، وكان نزوله إلى قبره وقت صلاة العصر من النهار المذكور.
وأرسل الملك الأفضل الكتبَ بوفاة والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الظاهر غازي بحلب، وإلى عمه العادل أبي بكر بالكرك.
ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع، وكانت داراً لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء، سنة اثنتين [وتسعين] وخمس مئة، ومشى الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، وأُدخل الجامع، ووضع قُدَّام النَّسْر، وصلى عليه القاضي محيي الدين ابن القاضي زكي الدين، ثم دفن، وجلس ابنه الملكُ الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ستُّ الشام بنتُ أيوبَ أختُ السلطان في هذه النوبة أموالاً عظيمة.
وكان عمر السلطان حين وفاته قريباً من سبع وخمسين سنة.
وكانت مدة ملكه للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه الشام قريباً من تسع عشرة سنة.
وكان له سبعةَ عشرَ ولداً ذكراً، وبنتاً واحدة.
وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي بن يوسف، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمس مئة، وكان العزيز عثمان أصغر منه بنحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل صاحب مصر.
ولم يخلِّف السلطان صلاح الدين في خزائنه غير سبعة وأربعين درهماً، وصورياً واحداً ذهباً، وهذا من رجل له الديارُ المصرية والشام وبلاد الشرق واليمن دليلٌ قاطع على فرط كرمه، ولم يخلِّف داراً ولا عقاراً، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب، أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة.
وكان إذا عزم على الأمر، توكل على الله، وكان كثير سماع الحديث النبوي، وقرأ مختصراً في الفقه تصنيف سُلَيم الرازي، وكان حسن الخلُق، صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلمه بذلك، ولا يتغير عليه.
وكان يوماً جالساً، فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة، فأخطأته، ووصلت إلى السلطان، فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى؛ ليتغافل عنها.
وكان طاهر المجلس، فلا يُذكَر أحدٌ في مجلسه إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما يولع بشتم قط.