الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا فصل عَن ابْن خَفِيف يتَضَمَّن رحلته إِلَى الشَّيْخ أَبى الْحسن الأشعرى رحمه الله رضى عَنهُ)
قَالَ الإِمَام الْجَلِيل ضِيَاء الدّين الرازى أَبُو الإِمَام فَخر الدّين رحمهمَا الله فى آخر كِتَابه غَايَة المرام فى علم الْكَلَام حكى عَن الشَّيْخ أَبى عبد الله بن خَفِيف شيخ الشيرازيين وإمامهم فى وقته رحمه الله أَنه قَالَ دعانى أرب وَحب أدب ولوع ألب وشوق غلب وَطلب ياله من طلب أَن أحرك نَحْو الْبَصْرَة ركابى فى عنفوان شبابى لِكَثْرَة مَا بلغنى على لِسَان البدوى والحضرى من فَضَائِل شَيخنَا أَبى الْحسن الأشعرى لأستسعد بلقاء ذَلِك الوحيد وأستفيد مِمَّا فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ من ينابيع التَّوْحِيد إِذْ حَاز فى ذَلِك الْفَنّ قصب السباق وَكَانَ مِمَّن يشار إِلَيْهِ بالأصابع فى الْآفَاق وفَاق الْفُضَلَاء من أَبنَاء زَمَانه واشتاق الْعلمَاء إِلَى اسْتِمَاع بَيَانه وَكنت يَوْمئِذٍ لفرط اللهج بِالْعلمِ واقتباسه والطمع فى تقمص لِبَاسه أختلف إِلَى كل من جلّ وَقل وأستسقى الوابل والطل وأتعلل بعسى وَلَعَلَّ فَأخذت إِلَيْهِ أهبة السّير وخفقت إِلَيْهِ خفوق الطير حَتَّى حللت ربوعها وارتبعت ربيعها فَوَجَدتهَا على مَا تصفها الألسن وتلذ الْأَعْين لَطِيفَة الْمَكَان طريفة للسكان ترغب الْغَرِيب فى الاستيطان وتنسيه هوى الأوطان فألقيت بهَا الجران وألفيت أَهلهَا الْجِيرَان فَلَمَّا أنخت بمعناها وتنسيه هوى الأوطان فألقيت بهَا الجران وألفيت أَهلهَا الْجِيرَان فَلَمَّا أنخت بمغناها الخصيب فَأَصَبْت من مرعاها بِنَصِيب كنت أرود فى مسارح لمحاتى ومسابح غدواتى وروحاتى أحدا يشفى أوامى ويرشدنى إِلَى مرامى حَتَّى أدتنى خَاتِمَة المطاف وهدتنى فَاتِحَة الألطاف إِلَى شيخ بهى منظره شهى مخبره تعلوه حمرَة متحبب إِلَى زمرة فلمحته ببصرى وأمعنت فِيهِ نظرى فرحت بِهِ فرحة الحبيب
بالحبيب والعليل بالطبيب لما وجدت مِنْهُ ريح المحبوب كَمَا وجد من قَمِيص يُوسُف يَعْقُوب على مَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف) فناجانى فكرى بالإقدام إِلَيْهِ وتقاضانى قلبى بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فاهتززت لذَلِك اهتزاز المحبين إِذا التقيا بعد الْبَين وحييته تَحِيَّة مُحْتَرز عَن القدرى واستخبرته عَن مغنى أَبى الْحسن الأشعرى فَرد على السَّلَام بأوفر الْأَقْسَام وأجزل السِّهَام وأجابنى بِلِسَان ذلق وَوجه طلق كَهَيئَةِ الْمُفِيد مَا الذى مِنْهُ تُرِيدُ فَقلت قد بلغنى ذكرَاهُ تقت أَن أَلْقَاهُ لأحيا بمحياه وَأطيب برياه وأستسعد بلقياه وأستفيد نفائس أنفاسه جداه وجدواه واحر قلباه وواشدة شوقاه عَسى الله أَن يجمعنى وإياه فَلَمَّا رأى الشَّيْخ أَن شغف الْحبّ زادى فى سفرى وعتادى فى حضرى وَملك خلدى واستنفد جلدى وَأَن الشوق قد بلغ المدى واللوع قد جَاوز الحدا قَالَ ابتكر إِلَى مَوضِع قدمى هَاتين غَدا فبذلت القياد وَفَارَقت على الميعاد وَبت أساهر النُّجُوم وأساور الوجوم وَمَا برح الْحبّ سمير ذكرى ونديم فكرى يستعر استعارا ويلتهب بَين ضلوعى نَارا إِلَى أَن نضى اللَّيْل جلبابه وسلب الصُّبْح خضابه فَلَمَّا رَأَيْت اللَّيْلَة قد شابت ذوائبها وذابت شوائبها وذر قرن الغزالة وَثَبت وثبة الغزالة وبرزت أنْشد للشَّيْخ البهى وأتوسم الْوُجُوه بِالنّظرِ الجلى فَأَلْفَيْته فى الْمقَام الْمَوْعُود متنكرا وَاقِفًا لى منتظرا فدلفت إِلَيْهِ لأقضى حق السَّلَام عَلَيْهِ فَلَمَّا رآنى سبقنى بِالسَّلَامِ
وحفى للأقدام فَقضيت الذمام وقرنت رد جَوَابه بالاستلام وَقلت حييت بالإكرام وحييت بَين كرام ثمَّ استصحبنى وَسَار فتبعته مُتَابعَة الْعَامَّة أولى الْأَبْصَار حَتَّى انْتهى إِلَى الْمَقْصد وَدخل دَار بعض وُجُوه الْبَلَد وفيهَا قد حضر جمَاعَة للنَّظَر فَلَمَّا رَآهُ الْقيام تسارعوا إِلَى الْقيام واستقبلوه إِلَى الْبَاب وتلقوه بالترحاب وبالغوا بِالسَّلَامِ وَمَا يَلِيق بِهِ من الْإِكْرَام ثمَّ عظموه وَإِلَى الصَّدْر قدموه وَأَحَاطُوا بِهِ إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر ثمَّ أَخذ الْخِصَام يتجاذبون فى المناظرة أَطْرَاف الْكَلَام وَكنت أنظر من بعيد مُتكئا على حد سعيد حَتَّى التقى الْجمع بِالْجمعِ وقرع النبع بالنبع فَبَيْنَمَا هم يرْمونَ فى عمايتهم ويخبطون فى غوايتهم إِذْ دخل الشَّيْخ دُخُول من فَازَ بنهزة الطَّالِب وفرحة الْغَالِب بِلِسَان يفتق الشُّعُور ويفلق الصخور وألفاظ كغمزات الألحاظ والكرى بعد الاستيقاظ أرق من أَدِيم الْهَوَاء وأعذب من زلال المَاء وَمَعَان كَأَنَّهَا فك عان وَبَيَان كعتاب الكعاب وَوصل الأحباب فى أَيَّام تفِيد الصم بَيَانا وتعيد الشيب شبانا تهدى إِلَى الرّوح روح الْوِصَال وتهب على النُّفُوس هبوب الشمَال وَكَانَ إِذا أنشا وشى وَإِذا عبر حبر وَإِذا أوجز أعجز وَإِذا أسهب أذهب فَلم يدع مشكلة إِلَّا أزالها وَلَا معضلة إِلَّا أزاحها وَلَا فَسَادًا إِلَّا أصلحه وَلَا عنادا إِلَّا زحزحه حَتَّى تبين الحى من اللى والرشد من الغى ورفل الْحق فى أذياله واعتدل باعتداله وَأَقْبل عَلَيْهِ الْخَاصَّة والعامة بإقباله فَلَمَّا فرغ من إنْشَاء دلَالَته بعد جولانه فى هيجاء البلاغة عَن بسالته حَار الْحَاضِرُونَ فى جَوَابه وتعجبوا من فصل خطابه وَعَاد الْخُصُوم كَأَنَّهُمْ فرَاش النَّار وخشاش الْأَبْصَار وأوباش الْأَمْصَار عَلَيْهِم الدبرة
وعَلى وُجُوههم الغبرة قلت لبَعض الْحَاضِرين من المناظرين من هَذَا الذى آثر اختلاب الْقُلُوب ونظم على هَذَا الأسلوب الذى لم ينسج على منواله وَلم تسمح قريحة بمثاله أجابنى وَقَالَ هُوَ الباز الْأَشْهب والمبارز الأشنب وَالْبَحْر الطامى والطود السامى والغيث الهامى وَاللَّيْث الحامى نَاصِر الْحق وناصح الْخلق قامع الْبِدْعَة ولسان الْحِكْمَة وَإِمَام الْأمة وقوام الْملَّة ذُو الرأى الوضى والرواء المرضى ذُو الْقلب الذكى وَالنّسب الزكى السرى ابْن السرى والنجد الجرى والسند العبقرى أَبُو الْحسن الأشعرى فسرحت طرفى فى ميسمه وأمعنت النّظر فى توسمه مُتَعَجِّبا من تلهب جذوته وتألق جلوته دَعَوْت لَهُ بامتداد الْأَجَل وارتداد الوجل فَبينا أَنا فِيهِ إِذْ شمر للانثناء بعد حِيَازَة الثَّنَاء وشحذ للتحفز غرار عزمته وَخرج يقتاد الْقُلُوب بأزمته فتبعته مقتفيا كخدمه ومنتهجا مواطئ قدمه فَالْتَفت إِلَى وَقَالَ يَا فَتى كَيفَ وجدت أَبَا الْحسن حِين أفتى فهرولت لالتزام قده واستلام يَده وَقلت
(ومسحل مثل حد السَّيْف منصلت
…
تزل عَن غربه الْأَلْبَاب والفكر)
(طعنت بِالْحجَّةِ الغراء جيلهم
…
ورمح غَيْرك مِنْهُ العى والحصر)
لَا قَامَ ضدك وَلَا قعد جدك ولافض فوك وَلَا لحقك من يقفوك فوالذى سمك السَّمَاء وَعلم آدم الْأَسْمَاء لقد أبديت الْيَد الْبَيْضَاء وسكنت الضوضاء وكشفت الغماء ولحنت الدهماء وَقطعت الأحشاء وقمعت الْبدع والأهواء بِلِسَان عضب
وَبَيَان عذب آنس من الرَّوْض الممطور والموشى المنشور وأصفى من در الأمطار وذر الْبحار وجررت ذيل الفخار على هَامة الشعرى وقدما قيل إِن من الْبَيَان لسحرا بيد أَنه قد بقى لى سُؤال لما عرانى من الْإِشْكَال فَقَالَ اذكر سؤالك وَلَا تعرض عَمَّا بدا لَك فَقلت رَأَيْت الْأَمر لم يجر على النظام لِأَنَّك مَا افتتحت فى الْكَلَام ودأب المناظر أَلا يسْأَل غَيْرك وَمثلك حَاضر قَالَ أجل لكنى فى الِابْتِدَاء لَا أذكر الدَّلِيل وَلَا أشتغل بِالتَّعْلِيلِ إِذْ فِيهِ تسبب إِلَى الجاء الْخصم فى ذكر شبهه بطرِيق الِاعْتِرَاض وَمَا أَنا بالتسبب إِلَى الْمعْصِيَة رَاض فأمهله حَتَّى يذكر ضلالته ويفرد شبهته ومقالته فَحِينَئِذٍ نَص على الْجَواب فأرجو بذلك من الله الثَّوَاب
قَالَ الراوى فَلَمَّا رَأَيْت مخبره بعد أَن سَمِعت خَبره تيقنت أَنه قد جَاوز الْخَبَر الْخَبَر وَأَن مقَالَته تبر وَمَا دونه صفر قد بلغ من الدّيانَة أَعلَى النِّهَايَة وأوفى من الْأَمَانَة على كل غَايَة وَأَنه هُوَ الذى أَوْمَأ إِلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة بحيازة هَذِه الْمِنَّة فى نصر الْحق ونصح الْخلق وإعلاء الدّين والذب عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فشاذ لى من الِاعْتِدَاد بأوفر الْأَعْدَاد وأودع بَيَاض الوداد سَواد الْفُؤَاد فتعلقت بأهدابه لخصائص آدابه ونافست فى مصافاته لنفائس صِفَاته وَلَبِثت مَعَه بُرْهَة أستفيد مِنْهُ فى كل يَوْم نزهة وأدرأ عَن نفسى للمعتزلة شُبْهَة ثمَّ ألفيت مَعَ علو دَرَجَته وتفاقم مرتبته كَانَ يقوم بتثقيف أوده من كسب يَده من اتِّخَاذ تِجَارَة للعقاقير معيشة والاكتفاء بهَا عيشة اتقاء الشُّبُهَات وإبقاء على الشَّهَوَات رضَا بالكفاف وإيثارا للعفاف