الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطفل بين البيت والمدرسة
في البيت
…
الطفل بين البيت والمدرسة:
أ- في البيت:
تعد الأسرة عبر عصور التاريخ القديمة والحديثة مؤسسة تربوية، تتعهد الطفل جسدا ونفسا، علما وعملا. فهي ترعاه وتسهر عليه جسديا، وتحميه وتصونه نفسيا وتعلمه طرائقها في الحياة، وتنقل إليه خبرتها ومعارفها ومهارتها.
وقديما كان الطفل يرث مهنة الأب، وتكفي الأسرة ذاتها بذاتها، ويعرف كل فرد فيها مهمة منوطة به في نظام اجتماعي دقيق، ينحدر من شيخ القبيلة حتى يصل إلى الأب والبيت الذي يسيطر سيطرة تامة على الطفل، ولا ينازعه منازع في ذلك إلا العشيرة أو القبيلة فيما بعد. وتتولى هذه الجماعة الأسرية أيضا الناحية الروحية الدينية. ومن هنا كانت أهمية الأسرة من الوجهة التربوية بالغة حيث لا ينازعها منازع ولا يتحكم في أمور الطفل سواها إلا بعض التقاليد القبلية السائدة. وحين استقر الإنسان وزرع الأرض وبنى القرى والمدن، وتطورت المجتمعات المدنية إلى ما هي عليه اليوم، تغير الحال، وتغيرت تبعا لذلك وظائف الأسرة التربوية. فتخلت عن الكثير من وظائفها وأعمالها وواجباتها لمؤسسات أخرى كالمدرسة والمسجد والنادي والمسرح والسينما ومنظمات الشباب وغير ذلك من المؤسسات، حتى لقد تساءل علماء التربية عما إذا كانت أهمية الأسرة قد تضاءلت من وجهة تربوية أم إنه بقي لها من الأهمية الشيء الكثير؟
ونحن نرى أن وظائف الأسرة التربوية ما زالت قائمة، وإن كانت قد تخلت عن الكثير من الوظائف بسبب انشغال الأب والأم بأمور الحياة التي أصبحت تفرضها عليهما مسئوليات العصر الحديث، ولاعتمادها أيضا على
دور الحضانة ورياض الأطفال، التي دعت ظروف عمل الأب والأم ترك أولادهم فيها أكبر فترة من فترات الطفولة المبكرة. ولكننا مع هذا نلاحظ اهتمام الأسر بأطفالهم أكثر مما كانوا يفعلون في الماضي. وأن الطفل لم يعد كما كان مهملا لا يشعر الأبوان به إلا عندما يريدان توفير الطعام والشراب والكساء له. وإنما أصبح عنصرا هاما من عناصر الأسرة، وصارت الأمهات والأباء يعنون عناية شديدة بتعليم الأولاد وتربيتهم. وفي البلاد المتقدمة أصبحت الأبوة والأمومة علماء وفنا يتعلمهما الأباء والأمهات في المدرسة وفي المؤسسات المختصة. وازداد التعاون نتيجة لذلك بين البيت والمدرسة. وصارت المدرسة في الدول المتقدمة تدار من قبل أولياء أمور الطلاب. وبلغ التعاون بين الأهل والمعلمين مبلغا أصبح معه الأهل كلمة مسموعة في وضع المناهج واختيار البرامج وتنظيم خطط الدراسة وتنسيق الفاعليات المدرسية بين العلم والعمل. وهكذا أصبح دور الأسرة في تربية الأبناء أكثر اتساعا وأبعد عمقا مما كان سائدا في المجتمعات البدائية والمتأخرة.
ولذلك اهتم علم النفس بدراسة الطفل ومشاكله وحاجاته الأسرية، وبين أن الطفل دائما في حاجة إلى أن يحب ويحب، في حاجة إلى العطف والرعاية، وإن كثيرا من الاضطرابات العقلية والنفسية التي يصاب بها الطفل إنما ترجع إلى افتقاده للمحبة والعطف. فليس يكفي أن تطعم العائلة وليدها وأن تكسوه وأن توفر له حاجياته المادية، وإنما لا بد لها أولا وقبل كل شيء أن توفر له الحنان والعطف اللذين لا يستطيع أن يحيا بدونهما، والطفل في حاجته للمحبة شديد الحساسية، شعوره بالعدل مرهف، وشعوره بأقل المظالم يتصف بالمرارة، لا فرق في هذا أن يكون حرمانه من العطف على حساب أخيه الأصغر أو الأكبر، على حساب شقيقه أو شقيقته بل وحتى
على حساب أحد والديه. ولقد دلنا علم النفس التحليلي على أن الطفل يغار من أمه وأبيه. من أخته وأخيه ومن الطفل الضيف فهو يطالب بحقه من المحبة والعناية والرعاية، ويحرص على أن ينالها كاملة غير منقوصة. ولقد ثبت أن الكثير من تصرفات الطفل المرضية التي تبدو وكأنها مردودة إلى أسباب جسدية، إنما أصلها في الواقع نفسي ويعود بالذات إلى غيرة الطفل. إلى شعوره بالإهمال، إلى افتقاده للمحبة. وميل بعضهم إلى العناد، والبكاء، والغضب والتخريب يرجع إلى حاجتهم للمحبة وشعورهم بافتقادها. ولا شك أن الجو العائلي وما يكتنفه من نوعية العلاقات كاضطراب الجوالبيتي. أو اضطراب علاقات الأب بالأم أو العكس، أو اضطراب علاقات الأخوة، أو اضطراب علاقات الأسرة بغيرها من الأسر. له علاقة كبيرة بجنوح الأطفال وتمردهم، كما أن افتقاد الطفل للمحبة يدفعه إلى الخروج على مجتمعه وميله إلى الانتقام منه. وليس هناك شيء يجعل الطفل مستقيم الطبع معتدلا في انفعالاته ورغباته، كانتظام الأسرة ورعايته بالمحبة والعطف1.
وعلينا أن نعلم أن الطفل يعتمد في كل شيء على مجتمعه، سواء كان مجتمع الأسرة أو المجال المحيط به، وأنه في حاجة إلى من يعينه على التمييز بين الخير والشر بين الصحيح والخطأ، بين الأخلاقي وغير الأخلاقي ويبين له ما يسمح به الدين والعادات والتقاليد وما تنهى عنه. إنه محتاج إلى تكوين شخصيته وتهذيب طباعه وبناء ذاته بناء يمكنه من أن يميز هو نفسه بين ما يجوز وما لا يجوز. وأن يقرر هو نفسه واجباته ويعرف حقوقه ويتصرف بوحي من ضميره. أي: يستطيع التحرر من معونة الآخرين. وهذا ما يمكن أن نسميه بالتربية الاستقلالية. التي تجعل من الطفل في مستقبل أيامه إنسانا قادرا
1 انظر معالم التربية من ص53 إلى ص82 للدكتور فاخر عاقل.
على الاعتماد على نفسه. وخوض الحياة بلا خوف ولا عقد، والتي تجعل منه إنسانا اجتماعيا قادرا على الإسهام في بناء مجتمعه والعمل على رقيه وتقدمه، ومهما يصنع الآباء لأولادهم من ثروة أو جاه أو سلطان، لا ينفعهم ذلك كما ينفعهم اعتمادهم على أنفسهم، وقدرتهم على تدبر الأمور الحياة وتخطي عقباتها.
والتربية الإسلامية تهتم بالطفل منذ ميلاده؛ لأنها ترى فيه الفطرة الإنسانية التي تنزع إلى الدين والإيمان، وأن أبواه هما اللذان يؤثران فيه عملا وقولا، وفي الحديث:"كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . وقد خلق الله الإنسان متدينا لسليقته وفطرته، ولكن الأسرة هي التي تملي عليه إرادتها وفكرها فينطلق بهما إلى الحياة مؤمنا أو كافرا أو جاحدا أو زنديقا،
والدين عند الأطفال له جوانب خاصة بهم، حيث تجاربهم محدودة، ومعرفتهم قاصرة، وليس في استطاعتهم إدراك الأحكام العقلية، ولكن في استطاعتهم إدراك الأمور المحسوسة. فإذا كان جو الأسرة جوا دينيا تعلموا منه أمور الدين ومواقفه الإنسانية والاجتماعية، وإن كان غير ذلك نزعوا إلى أمور أخرى أبعدتهم عن فطرتهم. ومع ذلك يظل الطفل يفكر في الله سبحانه وتعالى بالطريقة التي تتفق مع فكره ومدركاته، ومن هنا كان دور المدرسة هاما ومؤثرا في تعليم الدين والتمسك به؛ لأنها تعوض النقص الذي قد يوجد في بعض البيوت، ويسبب للطفل صراعا بين فطرته وما يشاهده في بيئته التي يعيش فيها. ذلك الصراع الذي يصفه هوبكنز1 فيقول:
1 انظر النفس المنبثقة في المدرسة والبيت ص514.