الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين والتربية الأخلاقية:
حرص الفكر الإنساني منذ أقدم العصور على البحث عن العوامل التي ترفع من قيمة الإنسان. وتجعله سويا أمام نفسه ومجتمعه الذي يعيش فيه ومن خلال هذا الفكر ظهر علم النفس وعلم الاجتماع، ولكل منهما وجهة يحاول أن يحقق من خلالها تلك الغاية التي أشرت إليها، فعلماء النفس يرون أن الشعور الفردي ذو أثر هام في حياة الإنسان، وأن المرء محدود بمزاجه وطبيعته، فلا يستطيع أن يفعل ما يفعل إلا وفق ما يقدر له استعداده وغرائزه، ونادوا بمراعاة الفروق الفردية والعناية في تربية الشواذ بدراسة غرائزهم وعواطفهم في تربية الممتازين على استخراج مواهبهم وتغذيتها عن طريق التسابق والدفع والإغراء والمكافأة والتقدير.
وقال علماء الاجتماع إن المجتمع هو كل شيء، والفرد لا تظهر قيمته ولا تتحدد أخلاقه إلا مع الجماعة؛ لأن الإنسان لا يتصف بأنه ذو أخلاق أو بأنه مجرد منها إلا إذا انغمس مع جماعة من الجماعات. وإن المواهب الفردية، طبيعية أو مكتسبة، لا تظهر آثارها إلا في الجماعة.
ومن خلال هذه الدراسات النفسية والاجتماعية ظهر "علم النفس الاجتماعي" محاولا أن يوفق بين النظريتين: الفردية والاجتماعية. فهو
يهم بالخصائص الفردية من الذكاء والمواهب إلى جانب الخصائص الاجتماعية التي تستمر في عمل دائب محاولة جذب الأفراد الذين يتمتعون بالقيم الفردية من التفوق والنبوغ ليعملوا مع الجماعة ولخيرها. سواء أكان تفوق الفرد من الوراثة الفردية أو الاجتماعية. ويرى علماء النفس الاجتماعي أن الفرد الممتاز إنما هو نتاج الجماعة. ومحصلة قيمها الأخلاقية والفكرية والاجتماعية.
وليست هذه النظريات التي أشرت إليها في إيجاز شديد وليدة إبداع فكر الغرب كما يدعون، وإنما ترجع في أصولها إلى القرآن الكريم ومبادئه الأخلاقية التي جاء يخاطب بها "الإنسان" في مواضع كثيرة {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} كما يخاطب بها الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَه} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} وبعد أن يحرك الشعور الفردي والجماعي بمخاطبة الفرد والجماعة يخص المؤمنين بالنداء تلو النداء الذي يدل على أهمية هؤلاء وامتيازهم وسط المجتمع الإنسان كله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} ، والقرآن حين يخاطب "الإنسان" لا يريد إنسانا من جماعة معينة، وإنما يريد كل إنسان على الأرض يحمل صفات الإنسانية وسماتها، فدعوته حتى وهي في مظهرها فردية، في حقيقتها جماعية؛ لأنها إنما تخاطب الإنسان أيا كان شكله أو لونه أو منهجه، فهو يدمج الفرد في الجماعة ويدمج الجماعة في الفرد بحيث يشعر الفرد أنه جزء من كل، ويشعر الكل أنه مؤلف من أجزاء متماسكة "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" فالإسلام يربي المؤمنين على التماسك، ويدعوهم إلى الرحمة والمودة ويوجد
بينهم الرباط النفسي والمادي الذي يجعلهم كمجموعة من الأعصاب تتأثر ببعضها وتختل باختلال إحداها. ومع رعايته للجماعة وتقريره الدائم لأثرهما الفعال لا يهمل الفروق الفردية، التي يعتمد عليها "علم النفس الاجتماعي" فمن مبادئه "خير الناس أنفعهم للناس""لأن يهدي الله بك قوما أحب إليك من حمر النعم" ومن مبادئه أن المواهب القوية عليها أمانات تؤديها للناس عملا صالحا تبقي آثاره ويدوم نفعه، فالمؤمن الحق من كان خيره للناس علما وعملا. ونحن نستطيع أن نقول بغير تردد ولا خوف أن النظريات الأخلاقية التي تطورت في عصرنا الحديث هي أثر من آثار ما جاء في القرآن الكريم من المبادئ والأخلاق، وأن العلوم الإنسانية الحديثة أخذت الكثير من القرآن ولم تضف إليه شيئا. وحين يربي القرآن الفرد أخلاقيا، نراه يضع الإنسان أمام نفسه، مبينا ما فيها من خير وشر، محللا للدوافع التي تكمن بينهما وتحث عليهما، ففي الإنسان من دوافع الخير ما يدعوه إلى الطاعة وعمل الصالحات، وفيه من دوافع الشر، ما يسوقه إلى العصيان والتمرد وارتكاب السيئات وله من الإرادة والحرية والعقل ما يحميه من الوقوع في مهاو تنقله من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان، وبه من الشهوات والنزوات ما ينحدر به إلى هذا العالم، وقد منحه الله ميزة العقل وكرمه على كل مخلوقاته، ليكون هذا العقل هو الحكم بين الخير ونزعات الشر ووساوس الشياطين ويتضح ذلك في قول الله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} . فحرية الفرد في الإسلام واضحة كل الوضوح، حيث إن الغرائز فيه، يقابلها العقل وهو بينهما قادر على تمييز الصالح من الفاسد وله أن يختار. وعلى هذا الاختيار يحاسب وتكون مكانته الإنسانية والاجتماعية، ومن المعلوم أنه لا تكليف من غير اختيار {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} .
والطفل في نظر التربية الإسلامية عنده من الاستعدادات الطبيعية ما يهيؤه لتقبل الصفات الأخلاقية والأنماط الاجتماعية، وإن على الأباء والمعلمين إلزامه بهذه الأشياء في سن السابعة، فإذا قام بها فإنه يكون قد سلك طريقه في الحياة على مبادئ صحيحه، وإلا ضرب على تركها ضربا غير مبرح وهو في العاشرة. وقد أمر الرسول الكريم بذلك فهو يقول "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر" وعلى المربي أن يستعين بما في الطفل من ميول وعواطف يثيرها لتحرك هذه الأخلاق الإلزامية إلى غايتها الصحيحة، وتعاليم الإسلام ليست منافيه لتكوين الطفل، فالإسلام دين الفطرة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} لذلك كان تقبله لتلك التعاليم سهلا ميسرا، والأمر في ذلك متروك إلى الأسرة أولا ثم المعلم ثانيا ثم المجتمع ثالثا فكل طفل يولد وهو صفحة بيضاء خالية من كل رجس. وآباؤهم هم الذين يحولونوهم إلى هذه الصورة التي نرى عليها المجتمع من اختلاف في الطبائع والسلوك والفكر. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -أي: كاملة- هل تحسون فيها من جدعاء" أي: مقطوع بعض أجزائها.
وهكذا اعتبر الإسلام الطفل بريئا طاهرا بالفطرة، غير شرير ولا وارث للخطيئة بل هو خير بطبيعته مستهدف لكل فضيلة، واعتبر المساؤئ التي تأتي من الإنسان في مراحله المختلفة إنما مرجعها إلى أصل التربية، سواء أكانت تربية منزلية أو مدرسية أو غير ذلك.
ويرى علماء التربية أن سن العاشرة فيها تمييز بين النافع والضار والحسن والقبيح. فإهمال الطفل في هذه السن إهمال لإرادته المميزة، لذلك حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على ضربهم في العاشرة إذا لم يصلوا، وبالتالي إذا لم يمتثلوا للمبادئ الأخلاقية والمثل الاجتماعية.