الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين وأسلوب المعاملة:
حاولت المجتمعات الإنسانية منذ ميلادها، أن تضع لها أسلوبا للمعاملة يكفل لها الأمن والتضامن والمحبة، وحرص أهل الرأي والفكر فيها أن يبينوا الحدود التي يقف عندها الفرد، ليكون مقبولا من الآخرين ووضعوا الموازين والقيم التي يجب أن تسود في المجتمع ليتعاطف معه الفرد، ويشعر بالولاء له التفاني في خدمته. ولهذا تنوعت القيم الأخلاقية والسلوكية بتنوع الأمم وتعددها. حتى جاءت الأديان السماوية فخرجت هذه القيم من صناعة الإنسان ورغباته، إلى أوامر الإله وتشريعاته. وكانت بعض الأمم متفهمة للأوامر الإلهية متبعة لها فحصلت على حياة فاضلة ومجتمعات سعيدة راقية. والبعض الآخر ما لبث أن غير وبدل فيما جاءت به الرسل والأنبياء فضلت مجتمعاتهم وتاهت في دروب من الظلم والقسوة والاستعباد. وقد جاء الإسلام إلى الأرض وأهلها يعيشون على هذه الصورة الأخيرة من ذل واستعباد وقهر وجبروت.
فساوى بين الناس، الغني والفقير، المرأة والرجل، الصغير والكبير، الحاكم والمحكوم. جميعهم في الإسلام متساوون. لا عصبية ولا حسب ولا جاه ولا سلطان. الكل أبناء آدم وحواء وإن اختلفوا في الموطن والبيئة والشكل. فلا تفاخر بالأنساب ولا تباهي بالألقاب. إنما الجميع أمام الله سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى وفعل الخيرات
يقول تعالى في سورة الحجرات:
وتحديد الإسلام للمساواة بين الناس يحقق أقصى درجات العدالة الاجتماعية. فهو يرى أن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات. وإن دماءهم وأعراضهم وأموالهم مصانة الحق بدرجة واحدة، بصرف النظر عن مكانتهم الاجتماعية وحسبهم ونسبهم. ساوى بينهم في عملية القصاص {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} على عكس ما كان سائدا قبل الإسلام من التغالي في الدماء والجور في الأحكام. يقول تعالى في سورة المائدة:
والمتتبع لتاريخ الأمم القديمة، كالإغريق والرومان والفرس واليهود، يجد أنها جميعا كانت تعترف بالعبودية وتؤمن بتفاضل الدماء، فلما جاء الإسلام وألغى العبودية وحرص على الحرية وحرم العصبية القبلية وجعلها من علامات الجاهلية المنفرة يقول صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى عصبية فليس منا". واتبع المسلمون ذلك النهج في حياتهم الخاصة ومع الأمم التي عاشت معهم. ومن العجيب أننا بعد هذا التاريخ الطويل نرى بعض الإمم ما زالت تعتبر أفرادها من جنس مفضل على الأجناس الأخرى. وأن أصلها يرتقي على أصول الآخرين. وقصة التفرقة العنصرية السائدة في بعض بلاد العالم الآن من أمثال زنوج أمريكا وجنوب إفريقيا وروديسيا وغيرها تمثل تلك الردة الجاهلية التي قضى عليها الإسلام ومجها منذ أربعة عشر قرنا.
وقد حرص الإسلام على توجيه الناس دائما إلى أوجه الخير، فدعا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل ذلك واجبا على كل مسلم ومسلمة ليوجد بذلك المحبة بين الناس ويزيل أسباب العداوة والبغضاء من قلوبهم؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم في المجتمع مقام الوقاية من الأمراض في جسم الإنسان، وقد تحقق ذلك في صدر الإسلام، فعلى الرغم مما كان عليه المجتمع العربي قبل الإسلام، من انحلال أخلاقي، وتفكك اجتماعي، نراه بعد الإسلام تحول تحولا جذريا، فبعد أن كان قبائل متنافرة، أصبح أمة تحررت عقولها من الأوهام ونفوسها من الشهوات. ومن البغي والعدوان والظلم، واستطاعت أن تفرض وجودها على العالم، وكانت عند الله خير أمة قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
لم يكتف الإسلام بدعوة الناس إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل شرح لهم أساليب المعاملة التي تحقق هذه الغاية فقال تعالى في سورة المائدة:
وفي سورة الأنعام:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}
وفي سورة النساء:
وتحقيقا لأقصى درجات المحبة في المجتمع الإسلامي، نادى القرآن باتباع أساليب معينة في التعرف على الحقائق، واجتناب الظلم وقول الزور والتجسس والسعي بالغيبة والنميمة بين الناس. يقول تعالى في سورة الحجرات:
وليس هناك ما يفرق بين الناس، ويوقع العداوة في قلوبهم أكثر من سوء التعامل المادي، سواء أكان عن طريق البيع والشراء، أم عن طريق الإجارة والقرض. وليحمي الإسلام مجتمعاته من ذلك، وجه المسلمين إلى قواعد العدل في المعاملة فقال تعالى في سورة الأنعام:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}
وفي سورة الأعراف:
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}
وفي سورة الإسراء:
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} .
وفي سورة الرحمن:
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
وفي سورة يونس:
والتعاون في الإسلام هو من أوفى أساليب التعاون التي تعمل الدول الآن -على مختلف عقائدها واتجاهاتها- على تحقيقه، وتقيم لذلك المنشآت والجمعيات والمؤسسات الضخمة، وتحرص على أن تضع لها الأسس والمبادئ التي تكفل
لها النجاح في تآلف المجتمع والمحافظة عليه من الغش والخداع والمضاربة. ودعوة الإسلام تعتبر أقدم دعوة تعاونية في تاريخ البشر؛ لأن المجتمعات الأوروبية لم تعرف النظام التعاوني إلا في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر. أي: بعد مضي ثلاثة عشر قرنا على دعوة الإسلام للتعاون. والتعاون معناه وجود مجموعات متآلفة متحابة تعمل في الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو المعمار أو غير ذلك من أوجه الحياة. وقد وضح ذلك القرآن الكريم في أرقى صوره يقول تعالى في سورة المائدة آية "2":
وفي سورة آل عمران:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .
وفي سورة البقرة:
والرسول صلى الله عليه وسلم، يوضح أسس المجتمع المتعاون القائم على الرحمة والمودة والحب فيقول في وصية لمعاذ بن جبل:
"أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد وأداء الأمانة، وترك الخيانةن وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح"، وينادي بالصفاء والمودة قائلا:
"لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".
"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
"إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا".
ويحث على العفو والتواضع، وعدم ظلم الناس واحتقارهم فيقول:"ما نقصت صدقة من مال. وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".
"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
ودعوته إلى الحب والإخاء في المجتمع بلغت حد تحريم الهجر بين المتشاحنين فوق ثلاث ليال.
يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ السلام". وحرم إيذاء الجار ودعا إلى التعاون معه حتى لكأن الجار شريك جاره في رزقه وماله يقول: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه": "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
تلك نبذة عن أساليب المعاملة في الإسلام، وهي الأساليب التي غيرت كل شيء في جزيرة العرب، وفي البلاد الإسلامية التي دخلها نور الله، ومستها يد الهدي الإسلامي وبها تطهرت النفوس من العدوات والأحقاد، ومن الشرك الظاهر والخفي ومن النقائص التي كانت فاشية في كل ربوع الدنيا. وصار المسلمون أمة واحدة متراحمة. بعد أن كانوا قبائل وشعوب متعادية. وأصبح التراحم بينهم صفة غالبة في أقوالهم وأفعالهم، فرفع الله
ذكرهم، وأعلا شأنهم، وعلت كلمتهم ومكانتهم بين الأمم.
وصدق قول الله في سورة التوبة: