الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوم: من الوجهة الدينية والنفسية والجسدية والاجتماعية
الصوم في الإسلام رياضة روحية يدل عليها الضمير، ذلك الحارس الوحيد الذي يجعل من هذه الرياضة حقيقة واقعة بين العبد وربه. وهو مرتبط بالحاسة الخفية في الإنسان، تلك الحاسة التي تميز الحق من الباطل والزائف من الصحيح، وترتقي بالإنسان فوق رغباته وشهواته، ليدخل طائعا في منطقة الروح حيث الطهر النابع من حريتنا الداخلية العميقة الباطنة، التي أراد الخالق أن تكون طليقة من كل قيد من قيود الهوى، وحفظها من كل دنس، وجعلها مركز الثقل في صاحبها، يحيى بها، ويموت من غيرها، تلك المنطقة هي "روح الإنسان" حيث سريرته، ومناط تفكيره، ومنبع ضميره، ومحور أعماله، وهي مركز المساءلة التي عن فعلها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ، والله وحده هو الرقيب عليها، يعلم سرها، ويدرك بعدها ويعرف كل صغيرة وكبيرة من فعلها. لهذا كان الصيام عبادة هامة؛ لأنها تنبع من هذا السر وتتصل به، وتدل عليه وكانت قيمتها عند الله عظيمة حيث يقول في الحديث القدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
وكما أن للصوم فوائد تتعلق بالروح، فإن له فوائد تتعلق بالجسد لذلك كانت فرضيته عامة على الأغنياء والفقراء معا، فليس المراد من الصوم إشعار
الأغنياء بحاجة الفقراء حين يحسون بمرارة الجوع والحرمان فحسب، وإنما المراد هو تطهير النفس وترقيتها، وتنقية الجسد من علائق كثيرة تتراكم عليه من تتابع الطعام كل يوم، ويقول الأستاذ عبد الرزاق نوفل في معرض حديثه عن الصيام1: "تقول أحدث نظريات علم الصحة أنه من الواجب -لا سيما على المتقدمين في السن- أن يصوموا يوما على الأقل كل أسبوع
…
أو أسبوعا كل شهر، والأفضل شهرا كل عام.... إذ قد ثبت أن الإنسان غالبا ما يصاب ببعض البؤرات الصديدية التي تتكون داخل جسمه، وتصب إفرازاتها السامة في الدم
…
ولا يشعر الإنسان بها إلا إذا زاد ذلك الإفراز.. فإذا الإنسان يمرض فجأة بأمراض قد يكون التسمم أقلها
…
وقد عرف أن الصوم خير وسيلة لتجنب الإصابة بهذه البؤرات
…
إذ عندما تقل المواد الغذائية في الجسم يبدأ الجسم في استهلاك أنسجته الداخلية
…
وأول ما يستهلكه منها الخلايا المصابة التي تكون قد ضعفت نتيجة الالتهاب كما يذهب الصيام أية أورام صغيرة في أول تكونها
…
ويمنع تكوين الحصوات والرواسب الجيرية
…
إذ يحللها أولا بأول. وفي ذلك يقول الدكتور روبرت بارتولو: "لا شك في أن الصوم من الوسائل الفعالة في التخلص من الميكروبات وبينها ميكروب الزهري لما يتضمن من إتلاف للخلايا ثم إعادة بنائها من جديد".
والصوم عبادة قديمة فرضها الله على الأمم السابقة على الإسلام قال تعالى في سورة البقرة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وقد ثبت أن بعض الحيوانات تصوم أيضا "كالجمل" الذي يعرف الكثير من خواص صيامه من يقوم بتربيته والعناية به سواء كان من أهل البادية أو من
1 انظر الإسلام والعلم الحديث ص174.
الفلاحين أو غيرهم وصيامه يؤدي إلى زيادي قوته وقدرته على العمل، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن أثر الصوم الطبي الذي أشرنا إليه إنما يتعدى من الإنسان إلى الحيوان أيضا. والوثنيون يعرفون الصوم طريقا من طرق الرياضة النفسية، وبه يتدربون على مقاومة الشهوات وتربية الروح وترقية الوجدان، وصوم الزعيم "غاندي" الشهور الطوال ليس بخاف على أحد، ولست مغاليا إذا قلت أن الصوم معروف عند كل كائن حي حتى النبات فالأرز مثلا له فترة "يصوم فيها عن الماء" ولو فرض وأصابه ماء في هذه الفترة قل الإنتاج إن لم يتلف نهائيا، وكذلك القمح وغير ذلك مما هو معروف لدى علماء النبات والحيوان. وهذه حكمة إلهية اقتضتها تعادلية الكون، واتساق بنائه وتكوينه. وفي يقيني أن الصوم عملية فطرية يشعر المرء بالحاجة إليها في فترات مختلفة
…
وقد أخذت بها أشهر مصحة في العالم الآن "مصحة الدكتور هنريج لاهمان في درسدن في سكسونيا" حيث يقوم العلاج فيها بالصوم.
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن الصوم أحد أركان الإسلام الأساسية عبادة إنسانية راقية تقوي الجسد، وتصلح النفس وتهذب الروح، وتساعد على غرس الأمانة في نفوس النشء، وإن كانت التربية الحديثة تعمد إلى طرق عملية في تعويد الطفل الأمانة، فليست هناك طريقة تماثل الصوم، حيث يترك طعامه وشرابه بوحي من ضميره، ووازع من نفسه يجعله يخشى الله في كل ما يقول ويعمل؛ لأنه بالصوم يتعلم أن الرقيب الأسمى على كل شيء إنما هو الله خالق الكون ومانحه العافية والقدرة.
وصوم المسلمين ليس هو الإمساك عن الطعام والشراب والجنس، وإنما هو الإمساك عن كل ما يخالف الإيمان والفضيلة والخلق وما لا يتفق وفضيلة
التقوى ومراقبة النفس قولا وإرادة وعملا.
فالذي يتجه إلى غير الله كما يقول الشيخ شلتوت1: "بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يفكر في الخطايا ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد، ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين لا صوم له. والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض
لجمع كلمة الموحدين، والعمل على تفريقهم، وإضعاف سلطانهم لا صوم له. والذي يحابي الظالمين، ويجامل السفهاء ويعاون المفسدين لا صوم له. والذي يستغل مصالح المسلمين عامة ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية، ورغباته وشهواته، لا صوم له، وكذلك من يمد يده أو لسانه أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله أو إلى انتهاك حرمات الله لا صوم له، فالصائم ملاك في صورة إنسان، لا يكذب ولا يرتاب ولا يشي ولا يدبر في اغتيال أو سوء. ولا يخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل". وفي حديث رسول الله بيان ذلك كله فهو يقول:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وقوله: "ليس الصيام من الأكل والشرب. وإنما الصيام من اللغو والرفث". ذلك هو صيام المسلمين. الصيام الذي يخلق في المرء الصبر، ويعلمه القدرة على مواجهة الشدائد والمحن ويسلب من بين أنيابه غرائز الشر، ويرفعه فوق ترابيته ليرتقي درجة في عالم الروح، والصبر فضيلة يتعود عليها الإنسان فإن استعملها أصبح قادرا عليها، وبقدرته عليها تهون كل أمور الدنيا؛ لأنه ليس أيسر على الصابر من الحياة نفسها، ولا نعرف شيئا يعادل صبر الإنسان على الجوع والعطش والشهوة، يرى كل هذه الأشياء بين يديه وهو في حاجة إليها، ولكنه لا يقربها إيمانا
1 انظر الإسلام عقيدة وشريعة ص137.
بالله وامتثالا لأوامره وثقة في عزيمته وإرادته ذلك هو صوم المسلمين ولا صوم يعدله.
وقد جاءت آيات الله بفرضية الصوم واضحة كل الوضوح في أوقاته ونظامه وعلى من يجب، ولمن يجوز الإفطار مع القضاء قال تعالى في سورة البقرة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
والآيات تبين أن صوم شهر رمضان مقصود بذاته؛ لأنه الشهر الذي بدأ فيه نزوله القرآن، وأن هنالك صوم تطوع في غير شهر رمضان يثاب به العبد وينتفع صحة وتربية وخلقا. وبينت أن للمريض والمسافر الإفطار في رمضان وعليه القضاء في أيام الصحة والإقامة، والمقصود بالإقامة هنا: الإقامة في بلده الذي سافر منه، أو المكان الذي يقصده بالسفر، بمجرد وصوله إليه يعود إلى الصوم؛ لأن رخصة الإفطار إنما هي للمشقة والمشقة تزول بزوال سببها وهو السفر نفسه. وتيسيرا من الله على عباده أباح للمقيمين والأصحاء الذين يشق عليهم الصوم ويسبب لهم جهدا شديدا، أو يعرضهم للخطر، كالشيوخ والحوامل والمراضع، الإفطار في رمضان، وعليهم أن يطعموا مسكينا واحدا عن كل يوم يفطرونه. وهذا هو المفهوم من قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ومعنى "يطيقونه" يتحملونه بشدة ومشقة،
حيث إن الإطاقة لا تكون إلا في الشيء الصعب، فلا يقال فلان يطيق الاستحمام في بيته ولكنه يقال يطيق عبور المانش مثلا. وإن كان الصوم كله أمانة بين العبد وربه فمرجع المشقة أو عدمها إنما هو مسئولية الفرد وحده، وله أو عليه تقع التبعة والله تعالى يقول:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كمال قال سبحانه تماما: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهذا شأن الدين الإسلامي دائما، يحرر الإرادة ويطلق العقل، ويعلم الحرية، وبها يحاسب، وعليها مدار التكليف. ولا نجده أبدا في فرض من فرائضه أو حكم من أحكامه يقصد الإرهاق أو العسر، وإنما يقصد التقوى والتطهير وصلاح الفرد والمجتمع، والصوم في أدائه ورخصه مثال على ذلك.
كيف ندرس الصوم في المدارس الابتدائية:
لكي نعرف كيف نعلم أطفالنا فريضة الصوم تطبيقا ومعنى وأثرا، فإنه يجب أن يدرس المعلم الانفعالات الخاصة بالطفل، وأثرها على تقبله لنوع من المعلومات، وكذلك معرفة حاجات التلاميذ ومشكلاتهم؛ لأن هذه الأشياء لها تأثير كبير في عمل المخ الإنساني ووظائفه، وكذلك في الجهاز العصبي بكل تعقيداته، فإذا أدرك المعلم أثر هذه الانفعالات وتبين حاجات التلاميذ ومشكلاتهم أمكنه اختيار الوقت المناسب لينقل لهم لونا ما من ألوان المعرفة يتفق مع انفعالاتهم ومشاكلهم.
وتلميذ المرحلة الابتدائية غالبا ما يكون عند دخوله المدرسة في سن السادسة ويستمر بها حتى سن العاشرة أو الثانية عشرة على حسب النظام التعليمي السائد في المجتمع، فقد تكون المرحلة الابتدائية أربع سنوات، وقد تكون ستا. ولكن معظم البلاد، ترى أن سن السادسة أو السادسة والنصف هي السن
الملائمة لبدء الطفل تعلم المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب وبعض المعارف الدينية. لذلك كان بدء المرحلة الابتدائية هو في هذه السن، وفكرة التلميذ عما حوله في هذا العمر تدور حول خبراته السابقة في دور الطفولة ورياض الأطفال، ويستطيع تحديد المدركات الكلية، وتزداد قدرته على هذا مع انتقاله في صفوف المرحلة، حتى إذا ما وصل إلى نهايتها عرف بصورة ما النظام والمساواة والحرية والحق والواجب، وأدرك معنى كلمة الدين والفرض والسنة، واستطاع أن يفرق بين أمر يأتيه من قبل إنسان وأمر مركزه السلطة الإلهية، وعرف أبعاد الطاعة والمعصية، ومعنى التقرب من الله أو الابتعاد عنه، وتتكون لديه قدرة على الاستيعاب والفهم وحل المشكلات، كما يستطيع أن يدرك شيئا من العلاقات بين الأشياء، وتتكون له ميول محددة أكثر موضوعية، كما يميل إلى الاهتمام بالعالم الخارجي، والتعرف على كثير مما يجري فيه، وبخاصة على أشياء معينة تستهويه ويميل إلى معرفتها وينتج من هذا كله الإطار العام لبناء شخصية هذا الطفل الذي نعلمه في المدرسة الابتدائية، لذلك يجب على معلم الدين أن يعمل جهده لمساعدة تلاميذه على إعلام دوافعهم، والسيطرة عليها وتكوين ما يسمى بالضمير الخلقي عندهم. وأن يوجه ميولهم نحو الدين، وأن يعمل على تنمية هذه الميول بالمثل الصالح والتطبيق الفعلي في سلوكه ومنطقه وتصرفه.
والصوم كرياضة روحية عالية يجب أن يعالج بطريق المناقشة، وأن يهتم المعلم بتوضيح حكمة الصوم، وآثاره الدينية والخلقية وأن يذكر الآيات الكريمة المتعلقة به، موضحا مفهومها في إيجاز، وكلما كان درس الصوم في شهر رمضان كلما كان أوقع وأثبت في نفوس التلاميذ، حيث يكون المدرس نفسه صائما وحيث يكون بعض التلاميذ صائمين وعندئذ يمكنه أن يناقشهم
في أحاسيسهم بالصوم وآثاره في نفوسهم وفي أجسامهم. وعليه أن يشير إلى بناء الأخلاق والسلوك وأهمية الصوم في هذه العملية، وأن يقوم بدور التوجيه والإصلاح بين المتخاصمين أو المتنازعين من تلاميذه في هذا الشهر بالذات، مبينا لهم أن الصائمين لا يتشاتمون ولا يتخاصمون؛ لأنهم في صومهم يرتقون إلى درجة الملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتنازعون. وينتقل معهم من حالة المعرفة بالصوم وأحكامه ومبطلاته إلى بيان الحالة الروحية التي يمر بها الصائم. تلك الحالة التي تمنح المؤمنين القدرة على التأمل والصبر، وتدعوهم إلى التخلص من أخطائهم والسعي نحو الكمال وإرضاء ربهم في الفعل والقول. ولا يتم ذلك مهما حاول المعلم إلا إذا كان قدوة لهم واعيا بآمالهم وأحلامهم. مدركا لانفعالاتهم ومشكلاتهم العاطفية والوجدانية.
ويجب أن يكون التمهيد للدرس شاملا لبيان:
أ- قدرة الله ووحدانيته.
ب- حتمية الإيمان، وضرورة التسليم لخالق الكون ومبدعه.
جـ- أثر الفرائض في الربط بين العبد وربه.
د- أهمية الصوم في نقاء النفس، وطهارة القلب، وسلامة الجسد.
هـ- كمال العقيدة في السر والجهر؛ لأن الصائم لا يطلع عليه إلا خالقه وحده.
و الحث على مراقبة الله في كل شيء.
وأما بالنسبة لعرض الموضوع. فيرجع إلى المعلم ومهارته في إدارة الحوار والمناقشة مع تلاميذه، ليصل إلى الأهداف التي ينشدها، والمعاني السامية التي تتضمنها فريضة الصوم عقيدة وعملا.