الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} من سورة البقرة.
وقد بينا ذلك في موضوع الدين وأسلوب المعاملة.
ب-
الدين والمؤسسات السياسية:
تتألف الدولة كما يرى الفقه السياسي الحديث من عناصر ثلاثة: أرض وشعب وحكومة، وهي في نظر الإسلام تتكون من هذه العناصر الثلاثة مشمولة بكيان روحي يرفع من قيمة الإنسان فيها؛ لأن الإنسان مركب من مادة وروح، والدول والأمم مجموعات من الناس فإذا لم تقم في بنائها على العنصرين معا -المادي والروحي- كانت غير متوازنة في أمورها؛ لأن الإنسان لا يستقيم أمره إلا إذا توازن هذان الجانبان فيه: جانب الغرائز الفطرية التي غرسها الله فيه لعمارة الأرض، وجانب الضوابط الروحية التي تحول دون انقلاب هذه الغرائز إلى معاول مدمرة للإنسان والمجتمع1. وهذا ما تغرسه العقيدة الإسلامية في وجدان كل مسلم، وهو ما تقوم عليه الدول الإسلامية بناء وتطبيقا، وتتبعه في تكوين مؤسساتها السياسية والاجتماعية، فالإسلام يأمر بأن تقوم في كل مجتمع هيئة تتولى زمام تنظيمه السياسي {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} و"المعروف" الذي يجب أن تدعو له جماعة من جماعات المسلمين هو ذلك المنهج الإسلامي الذي يتصل بالأصول الكلية التي فرضها الإسلام لصالح المجتمع الإسلامي، وكل ما يترتب عليها من أحكام ومواقف و"المنكر" هو كل ما نهت عنه هذه الأصول الكلية، وكل ما يقاس عليها في إلحاق الأذى بالمجتمع. وفي الغالب تكون هذه الهيئة هي المسئولة عن نظام الحكم وما يتصل به من شئون السياسة والاقتصاد،
1 انظر نظام الحكم في الإسلام جـ2 ص12 وما بعدها للدكتور محمد عبد الله العربي.
وتكوينها في الإسلام يقوم على الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فالمجتمع الإسلامي يجب أن يستشار في تكوين هذه الهيئة. في كل ما يتصل ببنيانها ونظامها ووظائفها وأهدافها، وفي كل ما يتفرع عن الأصول الكلية التي أتى بها الإسلام وليس لهذه الهيئة سيادة على المجتمع بالمعنى المعروف في الفقه الغربي بل السيادة لله وحده. والناس جميعا سواسية، لا سيد ولا مسود فالأمة وحدها مصدر السلطات، والحاكم ملتزم بما تراه الأمة في شئون الحكم؛ لأن الشورى أثرها إلزامي في كل ما يقام من نظم حكومية، والأمة وحدها صاحبة السيادة في ذلك. وإذعان أفرادها لما يصدر عن الهيئة الحاكمة إنما هو إذعان لأمر المجتمع، الذي هو في حقيقته النائب وحده عن الله، وهو في إذعانه هذا يذعن بطريق غير مباشر لأمر الله.
فالسيادة في الإسلام كما يقول الدكتور محمد عبد الله العربي1 "لله وحده لا لملك أو رئيس من البشر على عكس ما زعمه بعض الغربيين من ثيوقراطية الدولة الإسلامية. وليس أدل على ذلك من أن النبي نفسه وهو الذي يلتقى الوحي، ولا ينطق عن الهوى أمره الله بالاستشارة في شئون الدنيا التي يحرص على إسعاد البشر فيها؛ لأنها مزرعة الآخرة إنفاذا لفلسفة الإسلام الشاملة في التوفيق بين المادية والروحية في الإنسان. فقال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 2 {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2.
وقد اتبع المسلمون هذه المبادئ في إقامة الدولة الإسلامية، فرأينا العالم ينصح الجاهل والكبير يرشد الصغير، والمرءوس يوجه الرئيس، والحاكم يعلم
1 انظر النظم الإسلامية جـ2 نظام الحكم في الإسلام ص37 وما بعدها للدكتور محمد عبد الله العربي.
2 سورة آل عمران.
3 سورة الشورى.
المحكوم، والقوي يلين للضعيف. كل ذلك بقلوب مطمئنة، ونفوس راضية تحقيقا لدعوة الحق "بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وساروا في كل أمورهم على الشورى، فلم تعرف دولة الإسلام في أول أمرها حكما صدر من مركز السيادة والقيادة، بل كان الرسول نفسه وهو الملتقي الوحي عن الله لا يبرم أمرا من أمور الدنيا إلا إذا جمع أكبر عدد من الصحابة وقلب الأمر بينهم، فإذا ما أجمعوا على شيء نفذ رأيهم ولو كان مخالفا لما يراه هو، وكثيرا ما جاء القرآن الكريم مؤيدا لآراء الصحابة فيما رأوه متصلا بأمور دنياهم، وكان ذلك تأكيدا من الله لنبيه وللناس من بعده، أن جماعية الرأي بعد التشاور والبحث والتقصي تعصم الأمم من الزلل وتحميها من الوقوع تحت رغبات ماجن أو عابث أو مجنون أو مضلل، وقد صان هذا المبدأ الدولة الإسلامية في عصر النبي وعصور الخلفاء الراشدين من بعده. واستطاعت في فترة قليلة من الزمن أن يمتد سلطانها الروحي والفكري في ربوع المشرق والمغرب. وكان الناس في الأمم الأخرى يدخلون إلى الإسلام عن اقتناع ويقين، أن هذا هو الدين الحق، وأن مبادئه هي التي تكفل لهم الأمن والاستقرار، وترفع عن كاهلهم تسلط السادة واستبداد الحكام.
ولم تستطع أمة النيل من المسلمين إلا بعد أن تركوا هذه المبادئ وتفشت فيهم رذائل شهوات الحكم، وتغلب عليهم الهوى الشخصي، ووجد الحكام المستبدون، وضعفت روابط الإيمان في قلوبهم فقل شعورهم بالمسئولية، ونظر بعضهم إلى بعض كوحدات مبعثرة لا يربطها رابط، وابتعد أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن ميادين الحياة، إما خوفا وإما يأسا من اتباع ما يقولون وحق على الجميع قول الله تبارك وتعالى:
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود الآية: 116]
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من هذا اليوم فقص عليهم قصة بني إسرائيل قائلا: لما وقع بنو إسرائيل في المعاصي ودخل النقص عليهم في دينهم نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ولم يمنعهم العصيان عن مخالطتهم، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ففرق كلمتهم وأذلهم وشتت شملهم. ثم قرأ:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة الآيتان: 78، 79]
ولكن المسلمين بعد عصر الخلفاء ما لبسوا أن تناسوا هذه التحذيرات والأوامر الإلهية، وتكالبوا على الحكم والسلطان، واتخذوا من شهواتهم وأهوائهم مادة بها يتفاخرون ويتكاثرون، وترك أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمتهم وانصرفوا إلى مادية الحياة ينغمسون فيها كغيرهم، فضعفت دولة الإسلام، وتداعت الأمم عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ورأينا في عصرنا كل دول الإسلام محتلة من الأجنبي. تنتهبها أفكار غريبة على الإسلام وأهله، وتحركها مبادئ وقوانين تتنافى مع مبادئ الشرع وقوانيه، وسقطت هيبة المسلمين بسقوط حكامهم وعلمائهم وفقهائهم في متاهات الشهوات والرغبات. ولن تعود هيبة المسلمين ويقوى سلطانهم إلا بعودتهم مرة أخرى إلى نظام الحكم الإسلامي القائم على العدل والشورى والمساواة. ذلك النظام الذي يعاتب فيه النبي، ويحاسب ذو الجاه ويخشى الحاكم المحكوم، ويمتثل الظالم لأمر المظلوم.
وكم هي واضحة الدلالة تلك الحادثة التي وقعت مع رسول الله حين اتبع رأيه
ورأي أبي بكر بشأن أسرى بدر، وخالف رأي عمر ومن وافقه من جمهور الصحابة، فنزلت آيات من الله تعاتب النبي، وتقسو عليه في أنه لم يأخذ برأي الآخرين، وهو كما علم الله أوفق بحالة المسلمين في ذلك العصر قال تعالى في سورة الأنفال1:
وقد اتبع أبو بكر الخليفة الأول نهج الرسول فكان يستشير الصحابة فيما يعرض له من شئون الأمة، وكان يأخذ برأي الجماعة. وأحيانا برأي غيره حين تبدو آيات الحق في جانبه، وكان عمر يجمع كبار الصحابة بالمدينة ويمنعهم من الخروج منها ليتمكن من استشارتهم في أمور الدين والدنيا. وكم هو عظيم ذلك الحاكم الذي يقف ليخطب الناس في الجمعة فترده امرأة فيقول على الملأ: أصابت امرأة وأخطا عمر. والحادثة أشهر من أن تروى. وقد كانت ولاية هؤلاء الخلفاء بعد رسول الله بالبيعة العامة، ولا يمكن لأحد أن يدعي حقا في ولاية المسلمين بغير البيعة، التي هي في مصطلح العصر الحديث "الانتخابات الحرة". ولا يستطيع الحاكم الاستمرار في حكمه إلا إذا امتثل لرأي أصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمثلهم في عصرنا الحديث ممثلو الشعب في مجالس "الأمة والنواب والشعب" وغيرها من هذه المسميات وهما معا "الحاكم، والنواب" لا يمكنهم الاستمرار في إدارة أمور الدولة إلا إذا كانت الغالبية العظمى من أفراد الأمة تؤيدهم وتؤازرهم؛ لأنه لا مصدر للسلطة العامة
1 الآتيان 66، 67.
في الإسلام غير الأمة. ولا مرجع فيه للمسئولية العامة غير الأمة أيضا، وتنظيم هذه الهيئات الحاكمة قد ترك عاما في الإسلام، حيث عهد به إلى جهود العمل الإنساني يمضي فيه باجتهاده ليصطفي أكثر الأوضاع ملاءمة لاحتياجات الزمان والمكان، على ضوء المبادئ العامة التي يستخرجها عقل الإنسان نفسه من كتاب الله وسنة رسوله الكريم وأحوال الصالحين من السلف.
وليس أولوا الأمر، الذين أمر المؤمنون بطاعتهم كما يقول الشيخ شلتوت1 "هم الرؤساء والحكام كيفما كان شأنهم، وما سلب المسلمين مبدأ الشورى سوى هذا التخريج الذي اتخذ في كثير من الفترات سبيلا لإخضاع الأمة للحاكم ولو كان غاشما ظالما، أو جاهلا مفسدا، وكذلك ليس "أولو الأمر" خصوصا المعروفين في الفقه الإسلامي باسم "الفقهاء أو المجتهدين" الذين يشترط فيهم أن يكونوا على درجة خاصة من علوم اللغة وعلوم الكتاب والسنة، فإن هؤلاء -مع عظيم احترامنا لهم- لا تعدو معرفتهم في الغالب هذا الجانب، ولم يألفوا البحث في تعرف كثير من الشئون العامة، كشئون السلم والحرب والزراعة والتجارة والصناعة والإدارة والسياسة، نعم، هم -كغيرهم- لهم جانب خاص يعرفونه حق المعرفة وهم أرباب الاختصاص وأولوا الأمر فيهم وهو ما يتصل من التشريعات العامة بأصول الحل والحرمة في دائرة ما رسم القرآن من قواعد تشريعية وتشريعات جزئية".
والحقيقة أن الإسلام قد كرم العقل الإنساني، وأطلق حريته في الإبداع وتصور ما يتفق مع متطلبات الحياة في كل عصر ومكان واستطاع فقهاء الإسلام بناء على هذه القاعدة أن يستخلصوا من كتاب الله وسنة رسوله معايير عامة يهتدى بها في تفصيل جميع تعاليم الإسلام الكلية من خلقية واقتصادية وحكومية، واستطاعوا أن يضعوا الأسس الصالحة للمجتمع الإسلامي،
1 انظر الإسلام عقيدة وشريعة ص464 وما بعدها للشيخ محمد شلتوث.
متفقين فيما رأوه مع العقل والمنطق، مستنيرين بما أمر الله به، وبما ثبت باليقين عن الرسول والصحابة من بعده، واتخذوا من القياس والاستحسان ما أعطى آراءهم المرونة والقدرة على مواجهة كل جديد في أحداث الحياة غير المحدودة وتطوراتها غير المتناهية، ولم يعد للمسلم في مجال العبادات غير الامتثال والتنفيذ وأما في المجالات الأخرى، فإجماع الأمة على شيء منها لا يخالف نصا من نصوص الشريعة يعد حكما صالحا قابلا للنفاذ والامتثال له.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} من سورة آل عمران.