المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين والمؤسسات الاقتصادية - طرق تدريس التربية الإسلامية نماذج لإعداد دروسها

[عبد الرشيد عبد العزيز سالم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الفصل الأول: مراحل الطفولة - وتعاليم إسلامية

- ‌تطور الشعور الديني عند الطفل:

- ‌الطفل وعملية الميلاد والخلق:

- ‌الطفولة والخير والشر:

- ‌الطفولة المتأخرة والروحانية:

- ‌الدين وإشباع الحاجات:

- ‌الطفل بين البيت والمدرسة

- ‌في البيت

- ‌ في المدرسة:

- ‌الجو المدرسي وأثره في التربية الدينية:

- ‌الدين وعملية الضبط الاجتماعي:

- ‌الدين من أبرز عناصر الثقافة:

- ‌الدين والشخصية المتوازنة:

- ‌الدين والقيم:

- ‌الإسلام والإنسان:

- ‌الإسلام والمجتمع:

- ‌الدين ومشكلات الفكر والاعتقاد والحياة:

- ‌الدين والتربية الأخلاقية:

- ‌الدين والإيمان:

- ‌الدين والعلم:

- ‌الدين وأسلوب المعاملة:

- ‌‌‌الدين والمؤسسات الاقتصاديةوالسياسة

- ‌الدين والمؤسسات الاقتصادية

- ‌ الدين والمؤسسات السياسية:

- ‌الفصل الثاني: طرق‌‌ تدريس القرآن الكريموالعبادات

- ‌ تدريس القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌الحفظ وأهميته:

- ‌تلاوة القرآن الكريم:

- ‌القرآن والضمير:

- ‌أثر العبادة في تربية الإنسان:

- ‌العبادات وآثارها النفسية والاجتماعية:

- ‌العبادات:

- ‌الصلاة من الوجهة الدينية والنفسية والجسدية والاجتماعية:

- ‌الزكاة من الوجهة الدينية والنفسية والجسدية والاجتهادية

- ‌مدخل

- ‌مقادير الزكاة:

- ‌من تصرف لهم:

- ‌كيف تدرس الزكاة في المرحلة الابتدائية:

- ‌الصوم: من الوجهة الدينية والنفسية والجسدية والاجتماعية

- ‌الحج من الوجهة الدينية والنفسية والجسدية والاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌أركان الحج:

- ‌كيف ندرس الحج لتلاميذ المرحلة الابتدائية:

- ‌الفصل الثالث: نظرة في العقائد

- ‌مدخل

- ‌طرق تدريس السيرة:

- ‌أهداف تدريس السيرة:

- ‌أساليب تدريس السيرة:

- ‌التهذيب:

- ‌تدريس التهذيب:

- ‌أهداف التهذيب:

- ‌طرق تدريس التهذيب:

- ‌تدريس الحديث:

- ‌أثر الوسائل المعينة في تدريس الدين

- ‌الإسماع ووسائله:

- ‌لمحات تربوية إسلامية:

- ‌القيم والاتجاهات وأهمية تركيز المعلم عليهما

- ‌الفصل الرابع: نماذج لإعداد دروس التربية الإسلامية بالمرحلة الابتدائية

- ‌نظرة حول طرق التدريس

- ‌أهداف تدريس القرآن

- ‌مدخل

- ‌تدريس سورة النصر:

- ‌إعداد درس في القرآن الكريم:

- ‌دروس العبادات:

- ‌درس في الوضوء والصلاة:

- ‌إعداد درس في الصوم

- ‌إعداد درس في الزكاة

- ‌الحج

- ‌تدريس العقائد:

- ‌تدريس السيرة

- ‌مدخل

- ‌إعداد درس في السيرة على الطريقة العرضية:

- ‌إعداد درس في التهذيب

- ‌أهم المراجع:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الدين والمؤسسات الاقتصادية

‌‌

‌الدين والمؤسسات الاقتصادية

والسياسة

الدين والمؤسسات الاقتصادية

الدين والمؤسسات الاقتصادية والسياسية:

أ- الدين والمؤسسات الاقتصادية:

المؤسسات الاقتصادية في أبسط صورها البدائية، وأعقد صورها العصرية، لا تخرج عن أعمدة الحياة الثلاث: التجارة، والزراعة، والصناعة، والوسائل المستخدمة لتطوير وتقدم هذه الأعمدة، تدخل ضمن هذه المؤسسات. سواء كانت شركات، أو معامل، أو معاهد، أو بنوك.

ولو أردنا تتبع نظرة الدين -في إيجاز- إلى هذه المؤسسات فإننا نرى أن الإسلام يدعم وجودها، ويدفع المرء إلى العمل فيها، ويوضح أسس العدالة التي يجب أن تسود في كل منها، حيث إنها عماد الحياة ومدار التكاليف الشرعية التي يقوم عليها، فمن أحسن فيها حسن دينه ومن أساء فسد دينه "إنما الدين المعاملة". وكلما كانت معاملة الإنسان قائمة على الصدق والوفاء والاجتهاد والصبر والتضحية كلما كان الإيمان الحق أقرب وألصق. وكلما كان على غير ذلك، كلما بعد عن الإيمان وأفسده شيطانه، فلا يجني إلا الخسران والضياع، وتركبه الهموم والأثام، ولا يجد لذة في دنياه وإن كان له مثل مال قارون سعة وعظمة.

والإسلام لم يمنع معاملة بين الناس تنفعهم وتخلو من الضرر بهم والغبن بغيرهم. وإنما منع إجحاف الناس حقوقهم والضرر بهم، لذلك رأيناه يحل

ص: 91

البيع ويحرم الربا. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وحل البيع مقرونا بما يجب على المتابعين من صدق في المعاملة، ووضوح في الشيء المباع حتى لا يقع غش ومخادعة بين طرفي البيع والشراء. والرسول عليه الصلاة والسلام قال:"من غشنا فليس منا" وآيات القرآن الكريم واضحة في ذلك

{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [سورة الأعراف: 85]

وتحريم الربا في الإسلام جاء من منطلق العدالة، التي تحرم على الغني أن يستأثر بماله وأن يحرم الفقير من العون والمساعدة على مواجهة مشاكل حياته، أو أن يغل يده عن المساهمة في إقامة المصالح العامة، فلا يقدم ماله للفقير أو للدولة إلا نظير زيادة على رأس ماله الذي أقرضه إياهم. وهذا الفعل إنما يؤدي إلى أن يزداد الفقير فقرا، والغني غنا، وأن تكون المجتمعات مليئة بالأحقاد والفتن والاضطرابات، والإسلام يبني المجتمع على أسس من العدالة والمحبة كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في موضوع "الدين وأسلوب المعاملة".

لذلك حرم الربا تحريما قاطعا. والله تعالى يقول:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} [سورة البقرة الآية: 275]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُون} [سورة البقرة الآيتان: 278، 279]

ولا شك أن تحريم الإسلام للربا، قضى على كثير من منابع الشر التي

ص: 92

كانت منتشرة في مجتمعات ما قبل الإسلام. تلك المجتمعات التي كان يأكل فيها قويهم ضعيفهم، ويستغل غنيهم فقيرهم ولا فضل للغني إلا أنه ذو مال، ولا ذنب للفقير سوى أن ظروف حياته لم تساعده على كسب المال وتوفره. وحل الجشع مكان الرحمة، فتقاضى الأغنياء ممن يداينونهم زيادة على رءوس أموالهم نظير تأجيل قضاء ديونهم. ومن هنا نشأت جماعات الثروة الفاحشة. وتكونت الرأسمالية الباغية، التي كان من نتيجتها الاستعباد والاسترقاق والإذلال بمختلف صنوفه وأخذت كل طائفة تتربص بالأخرى، فالغني يتربص بالمحتاج ليسلبه حريته ووجوده، والمحتاج يتربص بالغني ليسرقه أو يقتله أو يفسد عليه حياته، وأصبح المجتمع أشبه بغابة ليس فيها إلا الناب والظفر والتربص والغدر. وكان لا بد من القضاء على ذلك، ليحل محله التعاون والتراحم، فحرم الإسلام الربا بكل أشكاله وألوانه كما حرم كل كسب -فيه شبهة- يحصل عليه الإنسان، وبذلك نقل المجتمع إلى صورة العدالة والمحبة والإخاء تلك الصورة التي تتضح كاملة في قول الله تعالى:{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} . [سورة الروم الآيتان: 38، 39]

وأحب أن أشير إلى أن الربا محرم أيضا في اليهودية والمسيحية، وقد جاء ما يدل على ذلك في الكتب المنسوبة إلى موسى عليه السلام، ففي الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية.

"لا تقرض أخاك ربا. ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا".

ص: 93

وظل هذا التحريم عاما لليهود وغير اليهود حتى عصر "نحميا" الذي قال في الإصحاح الخامس من كتابه.

"إن بكت العظماء والولاة وقلت لهم إنكم تأخذون الربا كل واحد من أخيه" وكأنه يريد أن يقول إن اليهودي لا يتعامل بالربا مع اليهودي، ولكنه يتعامل بالربا مع غير اليهودي.

وكذلك نسب اليهود إلى موسى عليه السلام في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية قوله: "للأجنبي تقرض بالربا ولكن لأخيك لا تقرض بالربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك".

وهذا من صنع اليهود الذين يبيحون لأنفسهم ما يحرمون على غيرهم. ويرون أنهم شعب الله المختار، فلهم أن يفعلوا ما لا يجوز لغيرهم أن يفعله. ومن هنا نجد تفسيرا واضحا لسيطرة اليهود على البنوك ورءوس الأموال في العالم، وتكالبهم على التعامل بالربا، والسعي الدائب لجعله نظاما للمؤسسات الاقتصادية في معظم بلاد الدنيا.

والإسلام يرفض كل هذه النظم التي تدخلها شائبة الربا، ويدعو إلى أن يكون التعامل مع البنوك والمؤسسات الاقتصادية قائما على نظام الربح والخسارة. بمعنى المشاركة والمساهمة لتقوم تلك البنوك أو الشركات أو غيرها بالاتجار لحسابها وحساب الآخرين، والعائد مهما عظم أو قل يكون من نصيب المساهمين. وبهذا ينتفي الربا وتتحقق العدالة.

وفي المسيحية أيضا ظل الربا محرما منذ عهد المسيح عليه السلام حتى جاء "مارتن لوثر" فشدد في تحريمه وبين الكثير من الوجوه التي يحرم فيها في رسالته عن "التجارة والربا" وهو يقول: "إن هناك أناسا لا تبالي ضمائرهم أن يبيعوا

ص: 94

بضائعهم بالنسيئة في مقابل أثمان غالية تزيد على أثمانها التي تباع بها نقدا، بل هناك أناس لا يحبون أن يبيعوا شيئا بالنقد ويؤثرون أن يبيعوا سلعهم جميعا على النسيئة

وإن هذا التصرف مخالف لأوامر الله مخالفته للعقل والصواب".

وجاء الإسلام ليمنع كل كسب ينطوي على استغلال الآخرين، وكان تحريمه للربا؛ لأن فيه استغلال الضعف الإنساني من جانب، وانعدام المجهود البشري في تحصيل الماء من جانب آخر. والربا مع أنه استغلال لضعف ذي الحاجة، فإنه يحيل الإنسان إلى مستهلك فقط بدل أن يكون منتجا في الأصل ومستهلكا تبعا لذلك. وهذا مما يشيع البطالة ويقلل الإنتاج البشري ويؤدي في النهاية إلى انقراض المجتمع وفنائه.

والإسلام أصلا يرى أن المال مال الله، وأن الناس مستخلفون عليه، فعليهم أن يبتعدوا عن كل شائبة في تحصيل المال وإنمائه. وأن ينظروا إلى "امتلاك المال" على أنه وظيفة اجتماعية يسخر فيها المال لخدمة الجماعة.؛ لأن مرد المال في النهاية إلى مالكه الأصيل خالق الفرد والجماعة معا.

والله تعالى يوضح ذلك في مواضع كثيرة من القرآن ففي سورة البقرة آية 29 يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} .

وفي الأنعام آية 165:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} .

وفي الأعراف آية 10:

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} .

ص: 95

بضائعهم بالنسيئة في مقابل أثمان غالية تزيد على أثمانها التي تباع بها نقدا، بل هناك أناس لا يحبون أن يبيعوا شيئا بالنقد ويؤثرون أن يبيعوا سلعهم جميعا على النسيئة

وإن هذا التصرف مخالف لأوامر الله مخالفته للعقل والصواب".

وجاء الإسلام ليمنع كل كسب ينطوي على استغلال الآخرين، وكان تحريمه للربا؛ لأن فيه استغلال الضعف الإنساني من جانب، وانعدام المجهود البشري في تحصيل الماء من جانب آخر. والربا مع أنه استغلال لضعف ذي الحاجة، فإنه يحيل الإنسان إلى مستهلك فقط بدل أن يكون منتجا في الأصل ومستهلكا تبعا لذلك. وهذا مما يشيع البطالة ويقلل الإنتاج البشري ويؤدي في النهاية إلى انقراض المجتمع وفنائه.

والإسلام أصلا يرى أن المال مال الله، وأن الناس مستخلفون عليه، فعليهم أن يبتعدوا عن كل شائبة في تحصيل المال وإنمائه. وأن ينظروا إلى "امتلاك المال" على أنه وظيفة اجتماعية يسخر فيها المال لخدمة الجماعة.؛ لأن مرد المال في النهاية إلى مالكه الأصيل خالق الفرد والجماعة معا.

والله تعالى يوضح ذلك في مواضع كثيرة من القرآن ففي سورة البقرة آية 29 يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} .

وفي الأنعام آية 165:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} .

وفي الأعراف آية 10:

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} .

ص: 96

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}

وهو يدعو الإنسان أن يكون منفقا لماله في وجوه الخير عن رضا واختيار، لا عن جبر وقهر، ويعتبر الإنفاق عن طريق الإلزام كأن لم يكن، يقول تعالى في سورة التوبة آية 54.

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}

وقد أطلت الحديث حول موضوع الربا؛ لأنه من القضايا الهامة في الإسلام التي تتعلق بالمال وطرق استعماله في وجهه الصحيح، وأحب أن أعرض هنا رأيا للأستاذ العقاد رحمه الله يتعلق بهذا الموضوع يقول1: "ونحن لا نريد أن نقارن هنا بين الإسلام والديانات الكتابية في قضية الربا بأنواعه، ولكننا نريد أن نقارن بينه وبين المذاهب الاقتصادية التي يظن أصحابها أنهم يحيطون بحكمة التشريع العامة في جميع العصور؛ لأنهم حسبوا أن فترة من فترات الزمن تستوعب هذه الحكمة وتفرغ منها على نحو لا يقبل المراجعة والتعديل. فإذا خيل إليهم في وقت من الأوقات أن الحضارة مرهونة بنظام معلوم في المصارف والشركات خطر لهم أن يفرضوا هذا النظام بعجره وبجره على الماضي والحاضر والمستقبل في المشرق والمغرب وبين جميع الملل والأقوام، وطلبوا إلى أصحاب العقائد أن ينسخوها وإلى أصحاب الشرائع أن ينقضوها، وإلى أصحاب المبادئ الخلقية والفكرية أن يقتلعوها من جذورها، واجترءوا على من يناقضهم وينظر إلى مما فوق أنوفهم فاتهموه بالجمود والنكسة، وألقوا عليه تبعة الفساد والرجعة بالعقول إلى الوراء.

وها هي ذي قواعد الحضارة التي يتعللون بها تتطلب اليوم من نظم الاقتصاد ما لم تكن تتطلبه قبل خمسين سنة، وسوف تتطلب بعد خمسين سنة

1 انظر حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص186 وما بعدها للأستاذ العقاد.

ص: 97

ما لم تتطلبه اليوم، فما هو الميزان العادل الذي تصح فيه الموازنة بين هذه المذاهب وبين الدين؟ هل نبيح لهذه المذاهب المتقلبة أن تفرض سلطانها على الذي لا مزية له إن لم تركن من ضمائر الأمم إلى قرار مكين ثابت على تقلب الزعازع والأحوال؟ هل ننتظر من الدين أن يعرقل هذه المذاهب ويأخذ الصواب منها بذنب الخطأ فيحرم الصواب والخطأ على السواء.

لا هذا ولا ذاك:

بل يمضي كل مذهب إلى مداه المقدور، ويتسع الدين لأحداث الزمن فلا يتصدى لها في مجراها ولا يمنعها أن تذهب إلى مداها، وأن تضطرب اضطرابها لمستقر لها تمحصه الأيام".

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} سورة الرعد.

وفي حديث الإسلام عن "الزراعة" حث للإنسان على النظر والتأمل وإدراك أن كل ما ينبت من الأرض، إنما هو من صنع الله الخالق المبدع، وأنه على الرغم من مجهود الإنسان وتفننه في الأعمال الزراعية، فإنه هو وحده الذي ينزل الماء ويسوقه عيونا وأنهارا فيشفق الأرض ويخرج النبت. ويبعث فيه الحياة. وعلى الإنسان أن يعمل ونظره على مبدع الكون ومصرفه. فلا يبخل، ولا يستأثر بما منح الله وأعطى، وأن يكون أمينا على ما رزقه الله، فيخرج زكاته، ويطهره بالصدقة ويصونه بالإنفاق في وجوه الخير.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} سورة البقرة.

ص: 98

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [سورة عبس الآيات: 24-32] .

وفي كتب الفقه الإسلامي تفصيل أوفى عن نظم الإيجار والمشاركة والعمل والعمال في الزراعة. فمن أراد التعمق فليرجع إليها. أما عن الصناعة وهي من أقوى الأسس في بناء الأمم وتقدمها، فقد أشار القرآن الكريم إلى موادها الأساسية، مبينا أهميتها للناس والحياة، فهو يقول عن الحديد عصب الصناعة {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 1 وعن الملابس وما يرتديه الإنسان قال:{قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا} 2.

وفي البناء والمعمار {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير} 3. وهي وإن كانت إشارات عابرة في القرآن الكريم، إلا أنها تدل على احتواء القرآن للأعمدة الثلاثة للحياة من تجارة، وزراعة، وصناعة.

ومسلك المسلمين في تطبيقها إنما يقوم على الأخلاق الإسلامية التي وضحتها في مسلك الفرد والجماعة في غير موضع من هذا الكتاب. وللفكر الإنساني في نظمها وأوجه العمل فيها كامل الحرية كما هو شأن الإسلام في كل أمور الدنيا، بشرط أن يظل منطق الحق والعدالة هو الحكم في سلوك المرء فيه، وأن يكون القصد منها تنمية المصالح العامة وعمارة الكون، لا الاستئثار واكتناز الأموال واستغلال الآخرين.

1 سورة الحديد الآية 25.

2 سورة الأعراف الآية 26.

3 سورة النمل الآية 44.

ص: 99