المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله: (ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة - فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سيرتها، فضائلها، مسندها - رضي الله عنها - - جـ ٣

[إبراهيم بن عبد الله المديهش]

فهرس الكتاب

- ‌ أفرد عددٌ من المحدِّثين والمؤرِّخين باباً خاصاً في تزويج فاطمة

- ‌ صفة علي رضي الله عنه الخَلْقِيَّة:

- ‌المبحث الثاني:مهرها رضي الله عنها

- ‌لابن تيمية رحمه الله فتوى طويلة محررة عن الصداق

- ‌المبحث الثالث:تجهيزها رضي الله عنها

- ‌المبحث الرابع:البناء بها رضي الله عنها

- ‌ لباسها حين البناء بها

- ‌وقت البناء:

- ‌البيت الذي ابتنى به عليُّ فاطمة رضي الله عنهما

- ‌المبحث الخامس:وليمة عرسها رضي الله عنها

- ‌الفصل الثالث: حالها مع زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفيه خمسة مباحث:

- ‌المبحث الأول:غبطة(1)الصحابة علي بن أبي طالب؛ لزواجه بفاطمة رضي الله عنهم

- ‌المبحث الثاني:افتخاره بها رضي الله عنهما

- ‌ لم يثبت شئٌ في أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاخَر بزوجه

- ‌المبحث الثالث:أنها أحد ركنيه رضي الله عنهما

- ‌المبحث الرابع:وقوع المغاضبة بينها وبين زوجها أحيانا رضي الله عنهما

- ‌المبحث الخامس:خدمتها لزوجها، وصبرها على ضيق العيش رضي الله عنهما

- ‌عملُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند اليهودي

- ‌ لماذا لم يُعطِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنتَه فاطمةَ خادِماً

- ‌الفصل الرابع: حالها مع ابنيها: الحسن والحسين رضي الله عنهم وفيه أربعة مباحث:

- ‌المبحث الأول:ولادتهما رضي الله عنهم

- ‌فائدة: الولادة بلا دم، والحيض بدم يسير جداً دون اليوم والليلة

- ‌قبل الولادة:

- ‌تاريخ الولادة:

- ‌ جعلت الرافضة لِـ السِّقْطِ: «محسِّن» شهادات! وأحاديث وعبر! ، وهو آية من آيات اللَّه…إلخ

- ‌أثناء الولادة:

- ‌ مكان الولادة

- ‌بعد الولادة:

- ‌المبحث الثاني:العقيقة والصدقة عنهما رضي الله عنهم

- ‌المبحث الثالث:ملاطفتها لهما رضي الله عنهم

- ‌المبحث الرابع:طلبها من أبيها صلى الله عليه وسلم أن يورثهما

- ‌لم يصح في المبحث حديث

- ‌الفصل الخامس: وفاتها رضي الله عنها وفيه ثلاثة مباحث:

- ‌المبحث الأول:وقت وفاتها رضي الله عنها

- ‌المبحث الثاني:وصيتها رضي الله عنها

- ‌يُلحظ أنَّ لأسماءَ بنتِ عُميس مع فاطمة رضي الله عنهما وروداً في موضِعَين مُشكَلَين:

- ‌المبحث الثالث:الصلاة عليها ودفنها رضي الله عنها

- ‌لا يصح في الباب أثر أنَّ أبا بكر صلَّى على فاطمة رضي الله عنهما

- ‌أولاً: قبل وفاتها1.الإخبار بأنها أول أهله لحوقاً:

- ‌ مُدَّةُ مَرَضِهَا، ومَن مَرَّضَهَا:

- ‌ نوع مرضها:

- ‌ وصيَّتُهَا، ومَن غَسَّلهَا

- ‌ أوصَتْ أن تُدفن ليلاً

- ‌ثانيا: وفاتها

- ‌ عمرها عند وفاتها

- ‌ثالثاً: بعد وفاتها وتغسيلها

- ‌ مَن صلَّى عليها

- ‌ أول من غُطِّي نعشُها

- ‌ دُفنت ليلاً

- ‌ مَنْ نزَلَ قبرَها

- ‌ مكان قبرها

- ‌لا دليل على تخصيص صيغة معينة للسلام على فاطمة

- ‌نحنُ مُتعبَّدُون بطاعة اللَّهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم بفَهمِ سلف هذه الأمة في القرون المفضلة

- ‌الكتابة على قبر فاطمة رضي الله عنها

- ‌ لا يدخل شيعي قبة أهل البيت بالبقيع إلا إذا دفع خمسة قروش

- ‌ مكحلة فاطمة، ورحى فاطمة

- ‌«بستان فاطمة»

- ‌والراجح ـ واللَّه أعلم ـ أنه لا يمكن لأحدٍ ـ الآن ـ أن يَعرِف قبراً معيناً من قبور آل البيت والصحابة والتابعين، لأنه لم يكن السلف الصالح يعتنون بها ويشيدون المعالم عليها

- ‌تعليق ختامي مهم حول القباب التي أُحدثت على قبور…آل البيت وغيرهم، ومن ذلك قبر فاطمة رضي الله عنها

- ‌قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله: (ولَمْ أرَ قبورَ المهاجرين والأنصار مجصَّصَة

- ‌هدم القباب المحدثة على القبور في بقيع الغرقد وغيره

- ‌ هُدمت القباب في البقيع مرتين في عهد الدولة السعودية الأولى والثالثة

- ‌ هدم القباب في مكة

- ‌صور القباب في البقيع

الفصل: ‌قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله: (ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة

ثانياً: لم يكن تجصيص القبور، والبناء عليها موجوداً في القرون الثلاثة المفضَّلَّة.

قال ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: (وإنما المتبع في إثبات أحكامِ اللَّهِ: كتابُ اللهِ، وسُنَّةُ رسُولِه صلى الله عليه وسلم، وسبيلُ السابقين الأولين؛

لا يجوز إثبات حُكمٍ شرْعِي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصَّاً واستنباطَاً بحَالِ).

(1)

‌قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله: (ولَمْ أرَ قبورَ المهاجرين والأنصار مجصَّصَة

ص: 564

وقد رأيتُ من الولاةِ مَن يهدِم بمكة ما يُبنى فيها، فلَمْ أرَ الفقهاء يعِيبون ذلك

).

(1)

وسبقَ قولُ السمهودي (ت 911 هـ): (وإنما أوجبَ عدم العلم بعين قبر فاطمة رضي الله عنها وغيرها من السلف، ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها، مع ما عرض لأهل البيت رضي الله عنهم من معاداة الولاة قديماً وحديثاً .. إلخ).

(2)

وقال السمهودي أيضاً: (وفي «مدارك عياض»

(3)

عن مالك: أنه مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف، وباقيهم تفرقوا في البلدان.

وقال المجد

(4)

: لا شك أنَّ مقبرة البقيع محشوةٌ بالجمَّاء الغفير من سادات الأمة، غير أنَّ اجتناب السلف الصالح من المبالغة في تعظيم القبور وتجصيصها أفضى إلى انطماس آثار أكثرهم، فلذلك لا يُعرف قبر معينين منهم إلا أفراداً معدودة.

قلت ـ السمهودي ـ: وقد ابتنى عليها مشاهد:

ثم ذكرها).

(5)

(1)

«الأم» (2/ 631).

(2)

«وفاء الوفاء» (3/ 906). وفي مسألة المعاداة قارن بِـ «النصب والنواصب» د. بدر العواد (ص 236، 290، 302).

(3)

«ترتيب المدارك» (1/ 46).

(4)

هو الفيروز آبادي العالم اللغوي (ت 817 هـ)، وكلامه في «المغانم المطابة» ـ ط. المدينة ـ (2/ 617) ـ وقد سبق نقله ـ.

(5)

«وفاء الوفاء» (3/ 916).

ص: 565

ثم حدثَتْ المشاهدُ بعد القرون المفضلة، حينما ضعفت الدولة العباسية، وزاد نشاط العُبيديين الباطنيين الذي يدَّعُون ـ كذباً ـ أنهم فاطميون، فاستولوا على الحرمين وأحدثوا فيها الفساد؛

(1)

وقد وافَقَ بناء القباب بعد

(1)

ذكر الذهبي في كتابه «الأمصار ذوات الآثار» (ص 16 و 20) أنَّ العِلمَ في المدينة النبوية كان وافراً بها في زمن الصحابة والتابعين، وصغار التابعين، ومَن بعدهم، قال: ثم تناقص العلم جداً بها في الطبقة التي بعدهم، ثم تلاشى .... وذكر أنه في المئة الثالثة تناقص علم الحرمين، وكثُر بغيرهما.

علَّق السخاوي (ت 902 هـ) في «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التوريخ» ــ ط. الصميعي ــ (ص 448) على قول الذهبي بقوله: (سيِّما وقد سكنها جماعة من الروافض، وتحكَّموا بها، وغلَبَ أمرُهم عليها، ولكن نشأ بها في القرنين الثامن والتاسع أفرادٌ من العلماء في غالب المذاهب والفنون، انتفع بهم أهل السُّنَّة، وفيهم ممن صنَّف عددٌ يسير، والسُّنَّةُ بحمد اللَّه الآن معتضدة بمَن شاء اللَّهُ من فضلاء أهلها، من قضاتها وغيرهم، نفعني اللَّه ببركاتهم). ا. هـ.

وذكر د. صالح بن أحمد الضويحي في كتابه «أحوال المجتمع الحجازي من بداية القرن الخامس الهجري وحتى نهاية النفوذ الفاطمي» (ص 229) بدع المقابر في الحجاز من الصوفية المتأثرين بالشيعة الباطنيين العبيديين. وفي (ص 233 ـ 236) مجالس الصوفية في الحجاز ومخالفاتهم العقدية.

وفي الجانب السياسي في الحرمين في القرن الخامس والسادس، ومنه يُعرف الاضطرابات انظر:«أحوال المجتمع الحجازي من بداية القرن الخامس الهجري وحتى نهاية النفوذ الفاطمي» د. صالح بن أحمد الضويحي (ص 21 ـ 24، 157، 192).

ص: 566

القرون المفضَّلة رغبةَ طوائف الصوفية، وفيهم: فقهاء، وعبَّاد، وغيرهم، فاجتمع الصنفان: الرافضة والصوفية على بناء

المشاهد على القبور، وتعظيمها.

(1)

من أدلة ذلك ـ والأدلة كثيرة ـ أن الكتب التي وَصفَت الحرمين، في القرون الأولى الصالحة الخيِّرة لم تذكر شيئاً من القباب، فانظر مثلاً للقاضي المؤرِّخ: وكيع، واسمه: محمد بن خلف (ت 306 هـ) رحمه الله في كتابه:

«الطريق» وصَفَ الحرمين والطريق إليهما وبينهما وما فيهما وصفاً دقيقاً

(1)

ينظر: «تاريخ الدولة الفاطمية» لمحمد جمال سرور (ص 192)، و «التشيع السياسي في الحجاز من القرن الرابع حتى القرن السابع الهجري» د. أحمد النادي (ص 264 ومابعدها)، (ص 268 ـ 270) ، (ص 303 ـ 310)، (ص 348، 366، 367)،

و «موقف ابن تيمية من الصوفية» د. محمد العريفي (1/ 581 ـ 592)، «مقدمة ابن خلدون» (2/ 809)، «الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة» لعلي بن بخيت الزهراني (1/ 294)، «العلاقة بين الصوفية والإمامية» د. زياد الحمام (ص 353) ـ مهم ـ، «الولاية والإمامة الروابط الخفية بين الشيعة والصوفية» د. هيام عباس، «الصلة بين التصوف والتشيع» د. كامل الشيبي، «أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد» د. ناصر القفاري (2/ 453 ـ 483)، «أهل البيت في مصر» عبدالحفيظ فرغلي (ص 39) وعنه:

[د. خالد بابطين في «دراسات في أهل البيت النبوي» (ص 47)]. «التناقضات العقدية في مذهب الشيعة الاثني عشرية» د. عزيزة الأشول (2/ 505) ـ مهم ـ، «الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار» لعلي الصلابي (1/ 516).

ص: 567

عجيباً، ولم يذكر شيئاً من القباب على القبور، فلا شك أنها محدثة بدعة بعد القرون المفضلة.

ثم كثُرَتْ المشاهد على القبور إلى زماننا هذا

(1)

، ولها أثرٌ عظيمٌ على عقيدة المسلمين، وهي السببُ الأول لضَعفِهِم وهَوَانهم.

(2)

قال ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: (فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمَروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، محتجِّين بأنه لا تُصلى الجمعة والجماعة إلا خلفَ المعصوم.

(1)

يُنظر زيادة على ما سبق: ابن جبير (ت 614 هـ) في «رحلته» ـ ط. صادر ـ (ص 174) فقد ذكر وصفاً عجيباً لكثرتها والإضافات الغريبة عليها ـ ولا حول ولا قوة إلا باللَّه ـ، وابن بطوطة (ت 779 هـ) في «رحلته» ـ ط. الأكاديمية المغربية ـ (1/ 361)، وعنهما:«مكة والمدينة في القرنين السابع والثامن الهجريين في كتابات الرحالة المسلمين» د. أحمد هاشم بدر شيني (ص 71، 163، 164، 225).

(2)

ينظر: «كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داوود بن جرجيس» للشيخ العلامة: عبدالرحمن بن حسن بن محمد ابن الإمام محمد بن عبدالوهاب (ص 258 ـ 262)، «الآثار والمشاهد وأثر تعظيمها على الأمة الإسلامية» د. عبدالعزيز الجفير (ص 91 ومابعدها)، «الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة» لعلي بن بخيت الزهراني (1/ 271 وما بعدها)،

«غربة الإسلام» للشيخ: حمود بن عبداللَّه التويجري (1/ 216 ـ 267)، وغيرها كثير.

ص: 568

ورَوَوا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجِدْ مثله فيما وقفتُ عليه من أكاذيب أهلِ الكتاب؛ حتى صنَّف كبيرُهم ابنُ النعمان كتاباً في «مناسك حج المشاهد» وكذَبوا فيه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأهلِ بيته أكاذيبَ بدَّلوا بها دينَه وغيَّروا مِلَّتَه، وابتدعوا الشركَ المنافي للتوحيد، فصاروا جامِعِينَ بين الشرك والكذب، كما قرن اللَّهُ بينهما في غير موضع كقوله: {

وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}

الحج: 30 - 31).

(1)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: (وأوَّلُ مَن وضعَ هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور هُم أهلُ البدع مِن الروافض ونحوِهم، الذين يُعطِّلُون المساجد ويُعظِّمونَ المشاهد، يَدَعُون بيوتَ اللَّهِ التي أمرَ أنْ يُذكَرَ فيها اسمُه، ويُعبدَ وحدَه لا شريك له، ويُعظِّمونَ المشاهدَ التي يُشرك فيها، ويُكذَبُ فيها، ويُبتَدَعُ فيها دِيْنٌ لم يُنزِلُ اللَّهُ به سلطانَاً؛ فإنَّ الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد، كما قال تعالى:

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الأعراف: 29، وقال:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} الجن: 18، وقال:

(1)

«مجموع الفتاوى» (27/ 161).

ص: 569

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} التوبة: 18، وقال:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187، وقال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} البقرة: 114، وقد ثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:«إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجد، ألا فلا تتَّخِذوا القبور مساجدَ فإني أنهاكم عن ذلك» . واللَّه تعالى أعلم).

(1)

قال الذهبي (748 هـ) رحمه الله: (أول مَن دسَّ على المسلمين بدع المقابر: العبيدية في مصر، والقرامطة، والشيعة).

(2)

(1)

«الإخنائية» (ص 150)، «مجموع الفتاوى» (27/ 191)، «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (5/ 291) و (27/ 224).

(2)

«سير أعلام النبلاء» (10/ 16).

ومن دسائس العُبيديين ومَن شابههم من جهلة الصوفية في القبور:

أن الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (10/ 106) ترجمَ للسيدة المكرمة الصالحة: نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 208 هـ) - رحمها الله -.

قال عنها: صاحبة المشهد الكبير المعمول بين مصر والقاهرة.

وذكر أنها تحوَّلَتْ من المدينة إلى مصر مع زوجها الشريف: إسحاق بن جعفر بن محمد الصادق ـ فيما قيل ـ ثم توفيت بمصر، في شهر رمضان، سنة ثمان ومئتين.

قال: ولم يبلغنا كبيرٌ شيء من أخبارها.

ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف ولا يجوز، مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية. انتهى.

وقال ابن خَلِّكان (ت 681 هـ) في «وفيات الأعيان» (5/ 424): (وكان للمصريين فيها اعتقادٌ عظيمٌ، وهو إلى الآن باقٍ كما كان).

علَّق ابنُ كثير «البداية والنهاية» (14/ 171 ـ 172) على قول ابن خلِّكان، فقال:

(قلت: وإلى الآن، وقد بالغَ العامةُ في أمرها كثيراً جداً، ويُطلقون فيها عبارات بشعة فيها مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظاً كثيرة ينبغي أن يعرفوا بأنها لا تجوز إطلاقها في مثل أمرها، وربما نسبَها بعضهم إلى زين العابدين، وليسَتْ مِن سُلالته، والذي ينبغي أن يعتقد فيها من الصلاح ما يليق بأمثالها من النساء الصالحات.

وأصلُ عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطَمْسِها.

والمغالاة في البشر حرام. ومَن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة اللَّهِ فهو مُشرِكٌ. - رحمها الله - وأكرمَها، وجعلَ الجنة منزلها).

ص: 570

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: (وكذلك الرافضةُ غلَوا في الرسل، بل في الأئمة، حتى اتخذُوهُم أرباباً مِن دون اللَّه، فتركوا عبادةَ اللَّه وحدَه لا شريكَ له التي أمرَهُم بها الرُّسُلُ، وكذَّبُوا الرسولَ فيما أخبرَ بِه من تَوبَةِ الأنبياء واستغفارِهِم، فتَجِدُهُمْ يُعطِّلُونَ المساجدَ التي أمرَ اللَّهُ أن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فيها اسمُه، فلا يُصلُّونَ فيها جُمعةً ولا جَماعَةً، ولَيس لها عندَهم كبيرُ حُرْمَةٍ، وإنْ صلَّوا فيها صلَّوا فيها وِحدَاناً؛ ويُعظِّمونَ المشاهدَ المبنِيَّةَ على القبور، فيَعكُفُونَ عليها مشابهةً للمُشرِكِين، ويَحجُّونَ إليها كما يحجُّ الحاجُّ إلى البيت العتيق، ومنهم مَن يجعلُ الحجَّ إليها أعظمَ من الحج

ص: 571

إلى الكعبة، بل يسبُّون مَن لا يستغني بالحج إليها عن الحج الذي فرَضَهُ اللَّهُ على عبادِه، ومَن لا يستغني بها عن الجمعة والجماعة.

وهذا من جنس دين النصارى والمشركين الذين يُفضِّلون عبادةَ الأوثان على عبادة الرحمن.

وقد ثبت في الصِّحَاح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذُوا قبور أنبيائهم مساجد» .

وقال قبل أن يموت بخمس: «إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» . رواه مسلم.

وقال: «إنَّ مِن شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» . رواه الإمام أحمد، وابن حبان في «صحيحه» .

وقال: «اللَّهم لا تجعل قبري وثناً يُعبَد، اشتَدَّ غضبُ اللَّهِ على قومٍ اتخذُوا قبور أنبيائهم مساجد» . رواه مالك في «الموطأ» .

وقد صنَّفَ شيخُهم ابنُ النعمان، المعروف عندهم بالمفيد ـ وهو شيخ الموسوي والطوسي ـ كتاباً سمَّاهُ:«مناسك المشاهد» جعل قبورَ المخلوقين تُحج كما تُحجُّ الكعبة البيتَ الحرام الذي جعله اللَّهُ قياماً للناس، وهو أوَّلُ بيتٍ وُضِعَ للناس، فلا يُطافُ إلا به، ولا يُصلَّى إلا إليه، ولم يأمر اللَّهُ إلا بِحَجِّهِ.

وقد عُلِمَ بالاضطرار مِن دين الإسلام أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر

ص: 572

بما ذكرُوهُ مِن أمْرِ المشاهد، ولا شرَعَ لأمَّتِهِ مناسكَ عِندَ قُبورِ الأنبياءِ والصالحين، بلْ هذا مِن دِينِ المشركين الذين قال اللَّه فيهم:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} نوح:

23 قال ابن عباس وغيره: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح لما ماتوا عكفوا على قبورهم، فطال عليهم الأمد، فصوَّرُوا تماثيلهم ثم عبدوهم.

وقد ثبتَ في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» .

وقد ثبت في «صحيح مسلم» ، وغيره، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليُّ بنُ أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثَني عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ لا أدعَ قبراً مُشْرِفَاً إلا سوَّيتُه، ولا تمثَالاً إلا طمَسْتُهُ» . فقَرَنَ بين طَمس التماثيل وتَسوِيةِ القبور المشرِفَةِ؛ لأنَّ كِلَيْهما ذريعةٌ إلى الشرك كما في «الصحيحين» أنَّ أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأينَها بأرض الحبشة، وذكرتَا مِن حُسْنِهَا وتصاويرَ فيها، فقال:«إنَّ أولئك إذا ماتَ فيهم الرجلُ الصالحُ بنَوا على قبرِهِ مسجداً، وصوَّرُوا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللَّهِ يوم القيامة» .

واللَّهُ أمرَ في كتابِه بعمارَةِ المساجد، ولم يذكُرِ المشاهدَ. فالرافضةُ بدَّلُوا دينَ اللَّه! فعَمَرُوا المشاهد، وعطَّلُوا المساجد، مضَاهَاةً للمشركين، ومخالفةً للمؤمنين.

ص: 573

قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: 29، لم يقل: عند كلِّ مشهد.

وقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} التوبة: 17 - 18، ولم يقل: إنما يعمر مشاهدَ اللَّهِ، بل عُمَّارُ المشاهِدِ يخشونَ بها غيرَ اللَّه، ويَرجُون غيرَ اللَّه.

وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} الجن: 18، ولم يقل: وأنَّ المشاهد للهِ.

وقال:

{وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} الحج: 40 ولم يقل: ومشاهد.

وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} النور: 36 - 37

وأيضا فقد عُلِمَ بالنقل المتواتر، بَلْ عُلِمَ بالاضطرار مِن دينِ الإسلام، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شرعَ لأمَّته عِمارَةِ المساجد بالصلوات، والاجتماعِ للصلوات الخمسِ، ولصلاة الجمعة، والعيدين، وغير ذلك، وأنَّه لم يشرع لأمتِهِ أنْ يبنوا على قَبرِ نَبِيٍّ، وَلا رَجُلٍ صَالِحِ، لا مِن أهلِ البيتِ ولا

ص: 574

غيرِهم، لا مَسجِداً ولا مَشهَدَاً.

ولم يكن على عهدِهِ صلى الله عليه وسلم في الإسلام مَشهدٌ مَبنِيٌّ على قَبر، وكذلك على عَهدِ خُلَفَائِهِ الراشدين أصحابِه الثلاثةِ وعليِّ بنِ أبي طالب ومعاويةَ، لم يكن على عهدِهِمْ مَشْهَدٌ مَبنِيٌّ لا عَلى قَبرِ نَبِيٍّ وَلا غَيرِهِ، لَا عَلى قَبرِ إبراهيم الخليل، ولا عَلى غَيْرِهِ).

(1)

وعن غلو الرافضة، قال ابن تيمية رحمه الله:(وفيهم ـ أي الرافضة ـ من الشرك والغلو ما ليس في سائر طوائف الأمة؛ ولهذا أظهر ما يوجد الغلو في طائفتين: في النصارى والرافضة. ويوجد أيضاً في طائفة ثالثة من أهل النسك والزهد والعبادة الذين يغلون في شيوخهم ويشركون بهم).

(2)

وقد أورد ابن تيمية إجابة على اعتراض قد يرد من الرافضة بأن ما وصفتموه من غلو الرافضة في القبور والمشاهد موجود عند بعض أهل السنة، فردَّ شيخ الإسلام رحمه الله على ذلك وبيَّن أن هذا خطأٌ سواءٌ صدرَ من

(1)

«منهاج السنة النبوية» (1/ 474 ـ 479).

(2)

«منهاج السنة النبوية» (1/ 486).

وانظر في غلو الرافضة في القبور، وبعض النقول من كتبهم المعتمدة تحذر من هذا الغلو: كتاب: «وقفات مع نهج البلاغة» لأحمد علي (ص 174 ـ 185) ط. دار الضياء،

ط. الأولى 1434 هـ.

ص: 575

الرافضة أو مِن أهلِ السُّنَّة

، وذكر أنه عند الرافضة أكثر.

(1)

وقال ابن تيمية رحمه الله: (إذا قصدَ الرجُلُ الصلاةَ عند بعضِ قُبور الأنبياءِ والصالحين، مُتَبرِّكاً بالصلاة في تِلك البُقعَةِ؛ فهذا عَينُ المحَادَّةِ للَّه ورَسُولِهِ، والمخالَفَةِ لِدِينهِ، وابتدَاعِ دِينٍ لم يأذَنْ به اللَّهُ؛ فإنَّ المسلمينَ قَدْ أجمعَوا عَلى ما عَلِمُوهُ بِالاضطِرَارِ مِن دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِن أنَّ الصلاةَ عندَ القَبر ـ أيَّ قَبرٍ كان ـ لا فضلَ فيها لِذلك، ولا لِلصلاةِ في تلك البقعة مَزيَّةُ خَيرٍ أصلاً، بَل مَزِيَّةُ شَرٍّ.

واعلَمْ أنَّ تِلك البقَعَةِ وإنْ كان قد تَنزلُ عندها الملائكةُ والرحمَةُ، ولها شَرَفٌ وفَضْلٌ، لكن دِينُ اللَّهِ تعَالى بين الغَالي فيه والجافي عنه.

فإنَّ النصارَى عظَّمُوا الأنبياءَ حتَّى عبَدُوهُم، وعبَدُوا تماثِيلَهُم، واليهودَ استخَفُّوا بِهم حتَّى قتَلُوهُم، والأمَّةُ الوسَطُ عَرَفُوا مقادِيرَهُم؛ فلَمْ يَغْلُوا فيهم غُلوَّ النصارى، ولم يجفُوا عنهم جَفَاءَ اليهود .... ).

(2)

قال ابن القيم (ت 751 هـ) رحمه الله: (مَنْ جمَعَ بينَ سُنَّةِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في القُبور، ومَا أمرَ به ونَهَى عنه، ومَا كان عليه أصحابُه، وبَين ما عَليه أكثرُ الناسِ اليوم؛ رأَى أحدَهما مُضَادَّاً للآخَر، مُنَاقِضَاً لَهُ، بحيثُ

ص: 576

لا يجتمعان أبدَاً.

فنهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يُصَلُّونَ عِندها.

ونهى عن اتخاذها مساجدَ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويُسمُّونَها مَشاهِد؛ مضاهاةً لبيوت اللَّهِ.

ونهى عن إيقادِ السُّرُجِ عليها، وهؤلاء يُوقِفُونَ الوُقُوفَ عَلى إيقاد القناديل عليها.

ونهى أن تُتَّخَذَ عِيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادَاً ومنَاسِكَ، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.

وأمر بتسويتها،

فذكر حديثين في النهي عن ذلك، ثم قال:

هؤلاء يبالغون في مخالفةِ هذين الحديثين، ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القِباب.

وذكر ابنُ القيم النهي عن التجصيص والبناء والكتابة والزيادة عليها بغير ترابها

إلخ

(1)

وقال ابن القيم رحمه الله بعد بيان: (والمقصودُ أنَّ هؤلاءِ المعظِّمِين للقبور، والمتَّخِذِينَهَا أعيادَاً، الموقِدِين عليها السُّرُجَ، الذين يَبنُونَ عليها

(1)

«إغاثة اللَّهفان» (1/ 353 ـ 354).

ص: 577

المساجدَ والقِبابِ؛ مُناقِضُونَ لما أمَرَ بِهِ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، محادُّون لما جاءَ به.

وأعظمُ ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرَّح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.

(1)

وقال ابن القيم رحمه الله: (ومن المُحال أن يكونَ دُعاءُ الموتى، أو الدُّعاءُ بهم، أو الدُّعَاءُ عندَهم؛ مَشرُوعاً وعَمَلاً صَالحَاً، ويُصرفُ عنهُ القُرُونُ الثلاثة المفَضَّلةِ بِنَصِّ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم يُرْزَقَه الخُلوفُ الذين يقولون ما لا يَفعَلُون، ويفعَلُون ما لا يُؤمَرُون.

فهذه سُنَّةُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أهلِ القُبورِ بِضْعَاً وعِشرينَ سَنَةً، حتَّى توفَّاهُ اللَّهُ، وهذِهِ سُنَّةُ خُلَفَائِهِ الراشِدِين، وهَذِهِ طَريقَةُ جَميعِ الصحابةِ والتابِعينَ لهم بإحسان، هَل يُمكِنُ بَشرَاً على وجْهِ الأرض أنْ يَأتي عَن أحَدٍ مِنهم بنَقْلٍ صَحِيحٍ، أو حَسَنٍ، أو ضَعِيفٍ، أو مُنقَطِعٍ؛ أنهم كانوا إذا كان لهم حاجَةٌ قصَدُوا القُبورَ فَدَعَوا عِندَها، وتمسَّحُوا بها، فَضلًا أن يُصَلُّوا عندها، أو يَسألُوا اللَّهَ بأصحَابِها، أو يسألُوهُم حَوائجَهُم؟

فَلْيُوقِفُونا عَلى أثَرٍ واحِدٍ، أو حَرفٍ وَاحِدٍ في ذلك.

بَلَى؛ يمكنُهم أنْ يأتُوا عَن الخُلُوفِ التي خَلَفَتْ بعدَهُم بكثير مِن ذلك، وكُلَّما تأَخَّرَ الزَّمَانُ وطَال العَهدُ؛ كان ذلك أكثر، حتَّى لقَد وُجِدَ في ذلك عِدَّةُ

(1)

«إغاثة اللَّهفان» (1/ 356).

ص: 578

مصنَّفاتٍ لَيس فيها عن رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولا عَن خُلَفَائِهِ الراشِدِينَ ولا عَن أصحَابِهِ حَرْفٌ واحِدٌ مِن ذلك!

بلى؛ فيها مِن خلاف ذلك كثير، كما قدمناهُ من الأحاديثِ المرفوعة ....

إلى أن قال رحمه الله:

فلو كان الدعاءُ عند القُبور، والصلاةُ عندها، والتبرُّكُ بها فَضِيلَةً أو سُنَّةً أو مُبَاحَاً، لَنَصَبَ المهاجِرُونَ والأنصَارُ هذا القبرَ عَلَمَاً لِذلك، ودَعَوا عنده، وسَنُّوا ذلك لمن بَعدَهم، ولكن كانوا أعلمَ باللَّهِ ورسُولِهِ ودِينِهِ مِن الخُلُوفِ التي خَلَفَتْ بعدَهُم.

وكذلك التابعون لهم بإحسَانٍ، راحُوا على هذا السبيل، وقد كان عِندَهُم مِن قُبُورِ أصحَابِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالأمصَارِ عَدَدٌ كَثير، وهم مُتوَافِرُونَ، فما مِنْهُم مَن استغاثَ عندَ قَبْرِ صاحِبٍ، ولا دعَاهُ، ولا دعَا بِهِ، ولا دعَا عندَهُ، ولا استسقَى بِه، ولا استنْصَرَ بِه، ومِن المعلومِ أنَّ مِثلَ هذا مما تتوفَّرُ الهِمَمُ والدَّوَاعِي عَلى نَقْلِه، بَل عَلى نَقْلِ ما هُو دُونَه.

وحينئذٍ فلا يخلُو: إمَّا أنْ يكونَ الدعاءُ عندَها، والدعاءُ بأربابها أفضلَ منه في غير تلك البقعة، أولا يكون:

فإنْ كانَ أفضلَ، فكيفَ خَفِيَ عِلْمَاً وعمَلَاً عَلى الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ ! فتكونُ القرونُ الثلاثةُ الفَاضِلَةُ جَاهِلَةً بهذا الفضل العظيم، وتظفَرَ به الخُلوف عِلْمَاً وعَمَلاً؟

ص: 579

ولا يجوز أنْ يعلمُوه ويزهَدُوا فيه، مع حِرصهم على كُلِّ خَير، لا سيما الدعاء؛ فإنَّ المضطَرَّ يتشَبَّثُ بكُلِّ سَبَبٍ، وإنْ كان فيه كَراهَةٌ مَا، فَكيف يكونون مضطَرِّين في كثير من الدعاء، وهُم يعلَمُونَ فضلَ الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعَاً وشَرْعَاً.

فتعيَّن القسمُ الآخر، وهوَ أنه لا فضلَ للدعاءِ عندها، ولا هُو مَشروع، ولا مَأذونٌ فيه بقصدِ الخصوص، بل تخصيصُها بالدعاءِ عندَها ذَريعةٌ إلى ما تقدَّمَ من المفاسِد، ومِثلُ هذا مما لا يَشْرَعُهُ اللَّهُ ورَسُولُه البتة، بل استحِبَابُ الدعاء عندَها شَرْعُ عبادةٍ لم يشرْعَهَا اللَّهُ، ولم يُنزِّل بها سُلطَانَاً.

وقد أنكَرَ الصحابةُ ما هُو دونَ هذا بكثير

).

(1)

قال الصنعاني (ت 1182 هـ) رحمه الله: (فإنَّ هذه القِبابَ والمشاهدَ التي صارت أعظمَ ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبرَ وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالبُ بَل كلُّ مَن يَعمُرُها هم الملوكُ والسلاطينُ والرؤساء والولاةُ، إمَّا على قريبٍ لهم أو على مَن يُحسنون الظنَّ فيه، مِن فاضل أو عالِم

أو صوفيٍّ أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزورُه الناسُ الذين يعرفونه زيارة الأموات، مِن دون توسُّل به ولا هَتْفٍ باسمِه، بل يَدْعون له ويستغفرون، حتَّى ينقرِضَ مَن يَعرفه أو أكثرُهم، فيأتي مَن بعدهم فيجدُ قبراً قد شُيِّد عليه

(1)

«إغاثة اللَّهفان» (1/ 367 ـ 370).

ص: 580

البناءُ، وسُرِجَت عليه الشموعُ، وفُرِشَ بالفراش الفاخر، وأُرْخِيَت عليه الستورُ، وأُلْقِيَت عليه الأورادُ والزهور، فيعتقد أنَّ ذلك لِنَفعٍ أو لدفع ضُرٍّ، ويأتيه السَّدَنة يَكذِبُون على الميِّت بأنَّه فعلَ وفَعَلَ، وأنزل بفلانٍ الضَّرَرَ، وبفُلانٍ النَّفْعَ، حتَّى يَغرسُوا في جِبلَّتِه كُلَّ بَاطل، ولهذا الأمْرِ ثَبَتَ في الأحاديث النبوية اللَّعنُ على مَن أَسْرَجَ على القبور، وكتَبَ عليها، وبَنَى عليها، وأحاديثُ ذلك واسعةٌ معروفَةٌ، فإنَّ ذلك في نفسِهِ مَنهِيٌّ عنه، ثم هو ذريعةٌ إلى مَفسَدَةٍ عَظِيمَةٍ.

فإنْ قلتَ: هذا قبرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد عُمِّرت عليه قُبَّة عظيمةٌ أُنفقت فيها الأموال؟ !

قلتُ: هذا جهلٌ عظيم بحقيقة الحال، فإنَّ هذه القُبَّة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم، ولا مِن أصحابه، ولا مِن تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا مِن علماء أمَّتِهِ، وأئمَّةِ مِلَّتِه، بل هذه القُبَّةُ المعمُولَةُ على قبرِهِ صلى الله عليه وسلم مِن أبنية بعض مُلوك مصر المتأخرين

(1)

، وهو قَلاوُون الصالحي المعروف بالملك المنصور، في سنة ثمان وسبعين وستمئة، ذكره في «تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة»

(2)

، فهذه أمورٌ دولية لا دليلية، يتبع

(1)

وانظر للاستزادة كتاب: «الجواب عن شبهة الاستدلال بالقبر النبوي على جواز اتخاذ القبور مساجد» د. صالح بن عبدالعزيز سندي.

(2)

للمراغي (ت 816 هـ)، وهو مطبوع، وانظر:«بهجة النفوس والأسرار» لعفيف المرجاني (ت بعد 770 هـ)(2/ 899).

ص: 581

فيها الآخرُ الأول.

وهذا آخرُ ما أردناه مِمَّا أوردناه لَمَّا عمَّت البلوى، واتُّبعت الأهواء وأعرضَ العلماءُ عن النكير، الذي يجبُ عليهم، ومالوا إلى ما مالَتْ العامَّةُ إليه، وصارَ المنكرُ معروفاً والمعروفُ منكراً، ولَم نجد من الأعيان ناهياً عن ذلك ولا زاجِراً). انتهى كلام الصنعاني.

(1)

وقال الشوكاني (ت 1250 هـ) رحمه الله: (اعلَم أنه قد اتَّفَقَ الناسُ، سابقُهم ولاحقُهم، وأولهم وآخرُهم من لدُن الصحابة ـ رضوان اللَّه عنهم ـ إلى هذا الوقت: أنَّ رفعَ القبور والبناء عليها بدعةٌ من البدع التي ثبتَ النهي عنها واشتد وعيدُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيى بن حمزة مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيرُه، ولا رُوِي عن أحد سواه، ومَن ذكرها من المؤلِّفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جَريٌ على قولِه واقتداءٌ به. ولم نجد القولَ بذلك ممن عاصره، أو تقدم عصره عليه لا مِن أهل البيت ولا من غيرهم.

(2)

(1)

«تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» للصنعاني (ص 83 ـ 84).

(2)

«شرح الصدور بتحريم رفع القبور» (ص 8). وانظر: «وبل الغمام على شفاء الأوام» للشوكاني أيضاً (1/ 408 ـ 411) فقد ذكر النهي عن رفع القبور، وأنه يجب على المسلمين إنكار رفعها، وأنها بدعة لم يفعلها أكابر الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم ..... إلخ.

ص: 582

ذكر الأستاذ الأديب السوري: رفيق العظم

(1)

رحمه الله كلاماً جميلاً مفاده:

اختلاف المؤرِّخين في تعيين قُبور كَثيرٍ من جِلَّة الصحابة الكرام، رغم مكانتهم السامية، وآثارهم الحميدة، ومع ذلك فقبورهم لا تُعلَمُ تحديداً! !

وذكر أنه قد يتساءل بعضهم: لِمَ لَمْ تُعرَف تحديداً، ويُشاد عليها البناء والقباب، وتُتخذ مساجد؛ لِعظم مكانتهم وكبير آثارهم؟ ! كما فُعِل بقبور عدد من الأمراء الظلمة الذين ليس لهم أثر يُشكرون عليه في الإسلام، وكذا المتمشيخة والدجالين؟ !

ثم أجاب رحمه الله على هذا التساؤل بقوله: (إنَّ الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديراً لقدر الرجال، وتعظيماً لشأن مَن نبغَ فيهم

(1)

هو الأستاذ الأديب الشاعر: رفيق بن محمود بن خليل العظم، ولد في دمشق

(1284 هـ)، له مؤلفات ومقالات عديدة، من مؤلفاته:«أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة» ، و «الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية» ، و «العالم الإسلامي وأوربا» ـ ط. 1325 هـ ـ، و «تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام» ،

و «البيان في أسباب التمدن والعمران» ، و «السوانح الفكرية» ، و «البيان في كيفية انتشار الأديان» . أهدى مكتبته ومخطوطاته إلى المجمع العلمي العربي بدمشق. توفي في القاهرة

(1343 هـ) رحمه الله.

تُنظر ترجمَتُه في: «حلية البشر» للبيطار (ص 630)، «الأعلام» للزركلي (3/ 30)،

«معجم المؤلفين» لكحالة (1/ 724).

ص: 583

من مشاهير الأبطال، وأخيار الأمة، إلا أنهم كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات، وتعظيم الرفات؛ لتحقُّقِهم النهي الصريح عن ذلك من صاحب الشريعة الغراء الحنيفية السمحة، التي جاءت لاستئصال شأفة الوثنية، ومحو آثار التعظيم للرفات، أو العكوف على قبور الأموات، ويرون أن خير القبور الدوارس، وأنَّ أشرف الذكر في أشرف الأعمال؛ لهذا اختفَتْ عمن أتى بعد جيلهم ذلك قبورُ كبار الصحابة، وجِلَّة المجاهدين إلا ما ندر، ثم اختلفتْ نقلة الأخبار في تعيين أمكنتها باختلاف الرواة، وتضارب ظنون الناقلين، ولو كان في صدرِ الإسلام أثَرٌ لتعظيم القبور والاحتفاظ على أماكن الأموات بتشييد القباب والمساجد عليها، لما كان شئٌ من هذا الاختلاف، ولما غابتْ عنَّا إلى الآن قبورُ أولئك الصحابة الكرام، كما لم تغب قبور الدجاجلة والمتمشيخين التي ابتدعها بعد العصور الأولى مبتدعة المسلمين، وخالفوا فِعْلَ الصحابةِ والتابعين، حتَّى باتَتْ أكثرُ هذه القباب تُمَثِّلُ هياكل الأقدمين، وتُعيد سيرةَ الوثنية بأقبحِ أنواعها، وأبعَدِ منازِعِها عن الحق، وأقربها من الشرك.

(1)

ولو اعتبرَ المسلمونَ بعدُ باختفاءِ قبورِ الصحابةِ الذين عنهم أخذُوا هذا

(1)

أقول: بل كثير منها الآن شركٌ أكبر مُخرِج من المِلَّة، لأنهم صرفوا لها مالا يُصرف إلا للهِ تعالى، من دعائها من دون اللَّه، والطوافِ بها، والنذر لها، والذبح عندها، واعتقاد أنها تملك نفعاً أو ضُراً ـ ولا حول ولاقوة إلا باللَّه العلي العظيم ـ.

ص: 584

الدين، وبهم نصرَ اللَّهُ الإسلام؛ لما اجترأوا على إقامة القباب على القبور، وتعظيم الأموات، تعظيماً يأباه العقل والشرع، وخالفوا في هذا كلِّه الصحابةَ والتابعينَ الذين أدَّوا إلينا أمانة نبيهم صلى الله عليه وسلم فأضعناها، وأسرَارَ شريعتِهِ فعَبثْنَا بها! !

وإليك ما رواه في شأنِ القبور مُسلمٌ في «صحيحه» .... ثم ذكر الأستاذ حديثين منه: حديثَ أبي الهياج عن علي، وحديثَ فضالة بن عبيد في تسوية القبور.

(1)

ثم قال: هكذا بلَّغوا الدين، وأدَّوا إلينا أمانةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ثم تأكيداً لعَهد الأمانة بدأوا بكُلِّ ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنفسهم؛ لنستنَّ بسنتهم، ونهتدي بهَدي نبيهم.

ولكَنْ قَصُرَتْ عُقُولُنَا عن إدراك معنى تلك الجزئيات، وانحطَّتْ مداركنا عن مقام العلم بحكمة التشريع الإلهي، والأمر النبوي القاضي بعدم تشييد القبور؛ اتقاءَ التدرج في مدارج الوثنية، فلم نحفل بتلك الحكمة، وتحكَّمنا بعقولنا القاصرة بالشرع، فحكَمْنَا بجواز تشييد القبور استحباباً

(1)

ذكر الأستاذ العظم رحمه الله حاشية هنا: [الأحاديث الواردة بالنهي عن تشييد القبور وتعظيمها، ولَعْنِ مَن يتخذها مزاراً، ويقصدها بالنذور كثيرةٌ، قد استقصى الكلام عليها كثير من الأئمة المصلحين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وأمثالهما، فلتُراجع في مظانها من كتب القوم، كالواسطة، وإغاثة اللَّهفان، وغيرهما].

ص: 585

لمثل هذه الجزئيات، حتى أصبَحَتْ كليات وخَرقاً في الدِّين، وإفساداً لعقيدةِ التوحيد؛ إذْ ما زِلْنَا نتدرَّجُ حتَّى جعلنا عليها المساجدَ، وقصَدْنَا رُفاتَها بالنذور والقُرُبات، ووقعْنا مِنْ ثَمَّ فيما لأجلِه أمرَنا الشارِعُ بطَمْسِ القُبُور، كُلُّ هذا ونحنُ لا نزالُ في غفلةٍ عن حِكْمَةِ الشرْعِ، نُصَادِمُ الحَقَّ ويُصادِمُنَا حتى نهلكَ مع الهالكين). انتهى كلام الأستاذ: رفيق رحمه الله

(1)

أقول: يتفطر القلب أسى حينما ينظر المرءُ إلى ما آلَ إليه المسلمون بعد القرون الأولى من البُعد عن دينهم باتجاههم للقبور عبادةً أو تعظيماً، وبناءَ المشاهد والقباب عليها

(2)

،

فلا زالت كثير من البلدان الإسلامية ـ إلى زماننا هذا ـ مليئةً بتعظيم القبور والمشاهد، وبناء القباب عليها ـ نسأل اللَّه السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وأن يصلح أحوال المسلمين في

(1)

«أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة» للأستاذ: رفيق العظم (ص 504 ـ 507). وقد ذكر هذه الفائدة استطراداً في خاتمة ترجمته لأبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه، وتحديد موضع قبره.

(2)

«المزار في كتب الجغرافيين والرحالة العرب من القرن الرابع إلى القرن السادس للهجرة» لعبدالرزاق المجبري، ط. مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، ومجمع الأطرش في تونس، و «المقابر المشهورة والمشاهد المزورة» لابن الساعي البغدادي (ت 674 هـ).

وانظر ما سبق ذكره في الكتب عن تعظيم القبور، وحال القبورية، والتحذير من ذلك.

ص: 586

دينهم ودنياهم ـ.

(1)

* * *

وبناءُ القباب على القبور محرَّمٌ نصَّاً وإجماعاً، وهو وسيلةٌ للشرك، والتغرير بالعامة وأشباههم، ليقوموا بصرف شئ من العبادة لصاحب القبر.

وإنَّ زيارةُ القبور عند أهلِ السُّنَّة والجماعة ـ من لدن

النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا ــ على نوعين، كما قال العلامة الشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت 1376 هـ) رحمه الله:

(مشروع، وممنوع:

أما المشروع فهو: ما شرعَهُ الشارعُ مِن زيارة القبور على الوجه الشرعي مِن غَير شدِّ رَحْلٍ، يزورها المسلمُ متَّبِعاً للسُّنَّةِ، فيَدعُو لأهلها عموماً، ولأقاربِهِ ومعارِفِهِ خصوصاً؛ فيكون محسِناً إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم، ومُحسِناً إلى نفسِه باتِّبَاع السُّنَّةِ وتَذكُّرِ الآخرة، والاعتِبار بها والاتِّعاظ.

(1)

انظر: «الآثار والمشاهد وأثر تعظيمها على الأمة الإسلامية» د. عبدالعزيز الجفير (ص 91 ومابعدها)، «الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة» لعلي بن بخيت الزهراني (1/ 271 وما بعدها)،

«غُربة الإسلام» للشيخ: حمود بن عبداللَّه التويجري (1/ 216 ـ 267).

ص: 587

وأما الممنوع فإنه نوعان:

أحدهما: محرَّم ووسيلة للشرك، كالتمسُّحِ بها، والتوسل

إلى اللَّهِ بأهلها، والصلاة عندها، وكإسراجها، والبناء عليها، والغلوِّ فيها، وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبةَ العبادة.

والنوع الثاني: شِركٌ أكبر، كدعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، فهذا شِرْكٌ أكبر، وهوَ عَيْنُ ما يفعلُهُ عُبَّادُ الأصنام مع أصنامهم.

ولا فرق في هذا بينَ أنْ يعتقدَ الفاعلُ لذلك أنهم مُستَقِلُّون في تحصيل مطالبِه، أو متوسِّطُون إلى اللَّهِ، فإنَّ المشرِكين يقولون:

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}

(سورة الزمر، آية 3).

{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (سورة يونس، آية 18).

فمَنْ زَعَمَ أنه لا يَكفرُ مَن دعا أهلَ القبور حتَّى يعتقدَ أنهم مُستقِلُّون بالنَّفعِ ودَفْعِ الضَّرِرِ، وأنَّ مَن اعتقد أنَّ اللَّهَ هوَ الفاعل، وأنهم وسائطُ بين اللَّهِ وبينَ مَن دعاهم واستغاثَ بهم، فلا يَكفر؛ مَنْ زعمَ ذلكَ فقد كذَّبَ ما جاء به الكتابُ والسُّنَّة، وأجمعَتْ عليه الأمَّةُ مِنْ أنَّ مَنْ دعَا غيرَ اللَّه فهو مشركٌ كافِرٌ في الحالَين المذكورين، سواءٌ اعتقدَهُمْ مستقِلِّيْنَ أو متَوَسِّطِين.

ص: 588

وهَذا معلومٌ بالضَّرورَةِ مِن دِين الإسلام.

فعليكَ بهذا التفصيل الذي يحصلُ به الفرقانُ في هذا الباب المهمِّ الذي حَصَلَ بِهِ مِن الاضطراب والفتنةِ ما حَصَل، ولم ينْجُ مِن فِتنَتِهِ إلا مَنْ عَرَفَ الحقَّ واتَّبَعَهُ).

(1)

(1)

«القول السديد في مقاصد التوحيد» لابن سعدي ـ ط. المنهاج ـ (ص 102 ـ 103). وانظر: «إغاثة اللهفان» لابن القيم (1/ 392)، و «زيارة القبور عند المسلمين» لمحمد الحمود النجدي (ص 48) و (ص 145 ـ 158).

ص: 589