الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مضرة ومفسدة، وهداية إلى نور، وإخراجاً من ظلمة، وزجراً عن هوى، وحثاً على تقى، وجلاء لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء، وعصمة ونجاة، وكشف شبهة، وإيضاح برهان، وتحقيق حق، وإبطال باطل
…
) (1).
ثالثاً: آداب استماع القرآن الكريم
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) سورة الأنفال. يذكر الله - تعالى - حال المؤمنين عند استماع آيات القرآن الكريم أنهم يُلقون إليها الأسماع في إصغاء وخشوع، وأدب وخضوع، وصمت وادِّكار، وتفكر واعتبار؛ مؤمنين بأن ما يسمعونه هو كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على سيد المرسلين، فوعاه قلبه، ونطق به لسانه، وبلغّه إلى أمته أداء للأمانة، وإبلاغاً للرسالة، فرقاناً بين الحق والباطل، هادياً إلى سبيل الرشاد، مبشراً بالوعد الصادق مَنْ أذعن له وأطاع، منذراً بالوعيد العدل مَنْ تمرد عليه وعصى، مذكراً بأيام الله وما خلا من قرون، ومضى من شئون، ذاكراً ما أعدَّ الله للمتقين من جنات وعيون، ونعيم مقيم، وما أعد للكافرين من نار موقدة، وعذاب دائم أليم.
فترى المؤمنين عند تلاوته وسماعه قد خشعت أصواتهم لرهبته، ووجلت قلوبهم لخشيته، وذرفت عيونهم من مخافته، وأقبلوا على ربهم تائبين، ومن ذنوبهم مستغفرين، وفي رضاه طامعين، ومن غضبه وجلين.
ذلك كان شأن الصحابة - رضوان الله عليهم -، والصدر الأول من المسلمين عند سماع القرآن وتلاوته وذلك ما تشير إليه الآية، في وصف المؤمنين أنهم إذا
(1) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 535) طبعة دار الجيل.
ذكر الله بصفات الجلال، وأنه القاهر فوق عباده، المنفرد بالقدرة والسلطان والقوة والجبروت - وجلت قلوبهم. وإذا تليت عليهم آياته، وفقهوا ما في ثناياها من معان وأحكام، وبشارة ونذارة، ووعد ووعيد، وعظات وأمثال - قوي يقينهم بالله، وأقبلوا على ما فيه رضاه، وأعرضوا عما يسخطه، ولا يرضاه كما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف.
فإن الأمر بالاستماع والإنصات عند قراءته في الصلاة وخارج الصلاة أمر صريح، وقد جعله الله مناط الرحمة؛ ليُعلم أن اللغو عند قراءته والتصدية والمكاء، والجَلَبة والضوضاء من موانع الرحمة، ونعوذ بالله ممن يضل سعيه، فيحول بعمله بين نفسه ورحمة ربه.
فأين نحن الآن من أسلافنا؟ وهم القدوة في الهدى، وقد اتخذنا القرآن أغاني فالقارئ يفنن في النغم والتلحين، ويخرج به عن سنن الترتيل وقواعد التجويد، ويعيد الآية عند استحسان السامعين للنغمة وطلبهم الإعادة، والسامع يستخفُّه الطرب، لا من معاني القرآن، بل من حسن التوقيع وموسيقى الشيطان، وأفانين الألحان؛ فيصيح في نهاية الآيات بكلمات الاستحسان، والثناء على القارئ والدعاء له، وطلب الإعادة منه، وغير ذلك مما يستحي المؤمن الوقور من ذكره، وكثيراً ما يكون ذلك في بيوت الله التي شرفها الله تعالى بإضافتها إليه، وجعل لها حُرمةً، وللدخول فيها والمكث بها آداباً وسنناً.
وكيف نرجو الثواب، ونقصد التعبدَّ بالقراءة والسماع؟ والأمر على ما وصفنا: من حركات طائشة، وكلمات مرذولة، وصياح وضوضاء، واستحسان للنغمات، وإغراء بالمزيد منها، وطلب الإعادة للآية لحسن التوقيع، وانتهاكٍ لحرمة
المساجد، وتجاوز في القراءة للحدود المرسومة المروية عن القدوة وأئمة الهدى؟!.
وأين الخشية من الله، والخوف عند تلاوة آية العذاب الذي تنخلع من هوله القلوب؟ والرهبة من آية الوعيد الذي يشق المرائر؟ وأين الخشوع والتفكر؟ وأين التوبة والاستغفار من الذنوب عند الذكر؟ (1).
قال الشيخ عبد العظيم بن بدوي - حفظه الله -: (2)
(ولقد أمر الله - سبحانه - النبيين وأتباعهم المؤمنين بالاستماع للوحي عند تلاوته ونهاهم عن الانشغال عن الاستماع لما يوحي بأي شيء ولو بتلاوة الوحى نفسه، قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (13) سورة طه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ عليه جبريل القرآن القرآن تعجل بالقراءة خلفه خشية النسيان، فقال الله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (16 - 19) سورة القيامة.
وقال للمؤمنين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، لأنه بالاستماع يحصل الفهم المؤدي للعمل.
ومن أدب الاستماع:
1 -
سكون الجوارح.
2 -
وغض البصر.
3 -
والإصغاء بالسمع.
4 -
وحضور القلب.
5 -
والعزم على العمل.
(1) القرآن آداب تلاوته وسماعه لـ (حسنين محمد مخلوف) ص (24 - 26) مطبعة لجنة البيان العربي الطبعة الأولى 1958 م.
(2)
مجلة التوحيد ص (12 - 13) عدد ربيع الآخر 1417 هـ السنة (25).
فذلك هو الاستماع الذي يحبه الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه ولا يشغلها فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحضر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما فهم.
قال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر (1).
فإذا استمع العبد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة كما يحب الله أفهمه الله كما يحب، وجعل له في قلبه نوراً، وكان من أهل البشارة التي أمر الله نبيه أن يبشر بها:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر، وهكذا شهد الله لمن يحسن الاستماع إلى كتابه بالهداية والعقل، وذم الذين يسيئون الاستماع إلى الوحي وحكم عليهم بالضلال وشبههم بالأنعام، فقال {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} (16) سورة محمد. وقال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق. أي: أنه وجه سمعه، وأصغى حاسته إلى ما يتلى من الوحي وقلبه حاضر يفهم ما تسمعه الأذن، فإن السماع مع غفلة القلب سماع الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} ، وهكذا تضمنت هذه الآية شروط الانتفاع بالقرآن والتأثر به وإفادتها السامعين بأوجز لفظ وأبينه وأدله
(1) رواه الدارمي (1/ 107) بلفظ (يراد للعلم الحفظ والعمل والاستماع والإنصات والنشر). طبعة دار الريان.