الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولاً: اقتضاء العلم للعمل
اعلم - رحمك الله - أن طلب العلم مما تتنوع فيه الأغراض، وتختلف فيه المقاصد والنيات، كما أنه وسيلة من الوسائل التي يتوصل بها الإنسان إلى الأهداف والغايات، فمن الناس مَنْ يطلب العلم لغرض دنيوي، وذلك بأن يكون له به جاه وهيبة، وشرف ومكانة، ومنزلة وكرامة، ومنهم من يبتغي به الرياسة والقيادة، والهيمنة والزعامة، ومنهم مَنْ يتوصل به إلى أغراض دنيئة، ومقاصد خسيسة، كحب السيطرة والاستبداد، والجدل والمباهاة والمماراة. وأسعد الناس بالعلم، وأحسنهم حظاً وأزكاهم، وأشرفهم منزلة عند الله من يطلبه لمرضاة الله، والعمل به، والاهتداء بنوره، والامتثال لأمره.
عن إياس بن عامر قال: أخذ علي بن أبي طالب بيدي، ثم قال:(إنك إن بقيت، سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومَنْ طلب به أدرك)(1) فالمقصود الأعظم من العلم ليس أن يتزين به الإنسان، ولا أن يتشرف بتحصيله وجمعه، ودراسته وروايته، وتحقيقه ونشره من غير أن يكون له رغبة في العمل به، والالتزام بمقتضاه.
(1) رواه الدارمي (2/ 526). وهو ضعيف فيه إياس بن عامر ليس بالمعروف. راجع أخلاق حملة القرآن للآجري ص (41) تحقيق فواز أحمد زمرلي، طبعة دار الكتاب العربي.
ولقد ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت.
قال عباس الهمداني أبو أحمد رحمه الله: والذين يعملون بما يعلمون نهديهم الله لما لا يعلمون (1).
قال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى:{وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} (282) سورة البقرة (2).
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسْألَ عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن شبابه فيمَ أبلاه» (3).
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يغرنكم مَنْ قرأ القرآن، فإنما هو كلام يتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به)(4).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل).
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا).
(1) تفسير ابن كثير (3/ 559).
(2)
تفسير القرطبي (13/ 324).
(3)
(حديث صحيح) رواه الترمذي، والدارمي، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
(4)
صحيح الترغيب والترهيب ص (58).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: (ثم إني موصيك يا طالب العلم! بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً.
وقيل: العلم والد، والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل وما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم مادمت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قلَّ نصيبك منهما.
والعلم يراد للعمل، كما العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم، كان العلم كلاًّ على العالِم، ونعوذ بالله من علم عاد كلاًّ، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غِلاً.
قال بعض الحكماء: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلاً به، أحب إليَّ من أدعه زهداً فيه.
وقال بعضهم: وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا كتاركهما، وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤٌ لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثواء (1) قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى
(1) ثوى: المكان، و - به يثوي ثِواءٌ وثُويّاً، بالضم، وأثوى به: أطال الإقامة به، أو نزل. راجع القاموس المحيط للفيروز آبادي ص (1268) طبعة مؤسسة الرسالة.
بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (7_ 8) سورة الزلزلة.
قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله:
(الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه).
قال أبوعبد الله الروزباري رحمه الله:
(العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله عز وجل).
وقد أحسن القائل:
يا أيها الرجل المُعلم غيره
…
هلَاّ لنفسك كان ذا التعليم
لاتنه عن خُلُق وتأتي مثله
…
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تقبل إن وعظت ويقتدي
…
بالقول منك وينفع التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
…
كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا
…
نصحاً وأنت من الرشاد عديم
وقال عبد الملك بن إدريس الوزير الكاتب:
والعلم ليس بنافع أربابه
…
مالم يفد عملاً وحسن تبصر
سيَّان عندي علم من لم يستفد
…
عملاً به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها
…
لا ترض بالتضييع وزن المخسر
وأنشد محمد بن علي الأصبهاني لبعضهم:
اعمل بعلمك أيها الرجل
…
لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زين وتقوى الله زينته
…
والمتقون لهم في علمهم شغل