الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخاف ذنوبا عنك لم يخف غيبها
…
ويرجوك فيها وهو راج وخائف (1)
فمن ذا الذي يرجو سواك ويتّقي
…
وما لك في فصل القضاء مخالف
فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي
…
إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عند ما
…
يصدّ ذوو القربى ويجفو المؤالف
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي
…
أرجّي لإسرافي فإنّي لتالف
قال الشيخ اليافعي: (وما أحسن هذه الأبيات إذا تضرّع بها إلى الله عز وجل بقلب حلّه الوجل، إلا أن فيها شيئين:
أحدهما: قوله: (به أنت عارف) والله سبحانه لا يقال له: عارف، وإنما يقال له:
عالم، وفيه بحث طويل مذكور في الأصول.
والثاني: في الأصل المنقول منه «يخاف ذنوبا لم يخف عنك غيبها» بتقديم «لم يخف» فيزحف البيت، ولعله من غلط الكاتب، وصوابه:«عنك لم يخف غيبها» بتقديم عنك) (2).
1780 - [القاضي أبو بكر الباقلاني]
(3)
القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الشهير بابن الباقلاني، الأصولي المتكلم، المالكي الأشعري، الملقب: سيف السنة وقامع البدعة.
قال الخطيب البغدادي: (كان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم خاطرا، وأجودهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم.
حضر شيخ الرافضة ومتكلمها المعروف بابن المعلم بعض مجالس النظر مع أصحابه، فأقبل القاضي أبو بكر الأشعري، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه وقال: قد جاءكم
(1) في (ق): (يخاف ذنوبا لم يغب عنك علمها ويرجوك فيها فهو راج وخائف).
(2)
«مرآة الجنان» (3/ 6).
(3)
«تاريخ بغداد» (2/ 455)، و «وفيات الأعيان» (4/ 269)، و «سير أعلام النبلاء» (17/ 190)، و «تاريخ الإسلام» (28/ 88)، و «الوافي بالوفيات» (3/ 177)، و «مرآة الجنان» (3/ 6)، و «الديباج المذهب» (2/ 211)، و «شذرات الذهب» (5/ 20)، و «شجرة النور الزكية» (1/ 216).
الشيطان، فسمع القاضي قوله وكان بعيدا، فلما جلس .. أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال: قال الله تعالى: {أَنّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)} (1).
وحكى الحافظ ابن عساكر عن بعض أهل العلم قال: (كان القاضي أبو بكر فارس هذا العلم، مباركا على الأمة، يلقب: سيف السنة ولسان الأمة، وكان مالكيا فاضلا متورعا، ممن لم يحفظ عليه زلة، ولا تنسب إليه نقيصة.
قال الحافظ ابن عساكر: كان الانتساب إلى الاعتزال فاشيا منتشرا، وكل من كان سنيا مستخفيا مستترا إلى أن قام القاضي أبو بكر بنصرة المذهب، فانتشر في المشرق والمغرب، وكان مظهره بدار السلام التي هي قبة الإسلام، فلم يذكر لذلك تغيير من الإمام ولا نكير من العوام، بل كان الكل يتقلدون منه المنة من العوام، والأئمة يلقبونه: سيف السنة ولسان الأمة.
وعن الإمام أبي حاتم القزويني قال: كان الإمام أبو بكر الأشعري يضمر من الورع والديانة، والزهد والصيانة أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك، فقال: إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود والنصارى والمبتدعين المخالفين؛ لئلا يستحقروا علماء الحق والدين.
قال أبو بكر الخوارزمي: كل مصنف ببغداد ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر؛ فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس) (2).
وقال الخطيب البغدادي: (كان القاضي أبو بكر يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدر على ذلك؛ لسعة علمه وكثرة حفظه)(3).
ولما توفي سنة ثلاث وأربع مائة .. حضر الشيخ أبو الفضل التميمي الحنبلي حافيا مع إخوانه وأصحابه، وأمر أن ينادى بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين.
ورثاه بعضهم بهذين البيتين: [من البسيط]
انظر إلى جبل تمشي الرجال به
…
وانظر إلى القبر ما يحوي من الصّلف
انظر إلى صارم الإسلام منغمدا
…
وانظر إلى درة الإسلام في الصّدف
قال الشيخ اليافعي: (ولقد ضمن هذين البيتين مدحا عظيما، لائقا بجلالة الإمام المذكور، لكن لو قال: «من الشرف» بدل «من الصلف» ولو قال: «درة التوحيد» بدل «درة الإسلام» .. لغاير بين اللفظين؛ فإنه قد قال في أول البيت: «انظر إلى صارم الإسلام» والتوحيد وإن كان داخلا فيه فالمغايرة بين الألفاظ وإن اتحدت معانيها أحسن وأبعد من كراهة التكرير)(1).
ورأى بعضهم في النوم بعد موت القاضي أبي بكر المذكور جماعة حسنة ثيابهم، بيضا وجوههم، طيبة روائحهم، ضاحكة أسنانهم، فقلت لهم: من أين جئتم؟ قالوا: من الجنة، فقلت: ما فعلتم؟ فقالوا: زرنا القاضي الإمام أبا بكر الأشعري، فقلت:
وما فعل الله به؟ فقالوا: غفر الله له، ورفع له في الدرجات، قال: ففارقتهم ومشيت، وكأني رأيت القاضي أبا بكر وعليه ثياب حسنة وهو جالس في رياض خضرة نضرة، فهممت أن أسأله عن حاله، وسمعته يقرأ {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، } فهالني ذلك فرحا، وانتبهت.
ومدحه أبو الحسن السكري بقصيدة قال بعد غزلها: [من الكامل]
ملكت محبات القلوب ببهجة
…
مخلوقة من عفّة وتحبب
فكأنّها من حيث ما قابلتها
…
شيم الإمام محمّد بن الطّيّب
اليعربي فصاحة وبلاغة
…
والأشعريّ إذا اعتزى للمذهب
قاض إذا التبس القضاء على الحجى
…
كشفت له الآراء كلّ مغيب
لا يستريح إذا الشكوك تخالجت
…
إلاّ إلى لب كريم المنصب
وصلته همّته بأبعد غاية
…
أعيا المريد بها سبيل المطلب
أهدى له ثمر القلوب محبة
…
وحباه حسن الذّكر من لم يحبب
ما زال ينصر دين أحمد صادعا
…
بالحقّ يهدي للطريق الأصوب
(1)«مرآة الجنان» (3/ 9).