الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى
أي: في صلاة الليل والنهار، قال ابن رشيد: مقصوده أن يبين بالأحاديث والآثار التي أوردها أن المراد بقوله في الحديث: "مثنى مثنى" أن يسلم من كل اثنتين، ثم قال: قال محمد: ويذكر ذلك عن عَمّار وأبي ذَرٍّ وأنس وجابر بن زيد وعكرمة والزهريّ رضي الله تعالى عنهم.
أما عمّار، فأشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة عنه "أنه دخل المسجد فصلّى ركعتين خفيفتين"، إسناده حسن، وأما أبو ذر، فأشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة أيضًا عنه "أنه دخل المسجد فأتى سارية وصلى عندها ركعتين". وأما أنس فأشار إلى حديثه المشهور "في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيتهم ركعتين"، وقد تقدم في الصفوف، وذكره في هذا الباب مختصرًا، وأما عكرمة فروى ابن أبي شيبة عن أبي خَلْدة قال: رأيت عكرمة دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين. وأما جابر بن زيد، وهو أبو الشعثاء البصري، والزهريّ، فقد قال في "الفتح": لم أقف على مَنْ وصلهما.
ورجال هذه التعاليق ستة؛ لأن محمدًا المرادُ به البخاريُّ نفسه، والستة قد مرّوا، مرّ عمّار بن ياسر في تعليق بعد العشرين من الإيمان، ومرّ أبو ذَرٍّ في الثالث والعشرين منه، وأنس في السادس منه، وجابر بن زيد في السادس من الغُسل، ومرّ عكرمة في السابع عشر من العلم، ومرّ الزهريّ في الثالث من بدء الوحي.
ثم قال: وقال يحيى بن سعيد الأنصاريّ: ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون في كل اثنتين من النهار. قوله: "أرضنا" أي: المدينة، وقد أدرك كبار التابعين بها كسعيد بن المُسَيَّب، ولحق قليلًا من صغار الصحابة، كأنس بن مالك، قال في "الفتح": لم أقف عليه موصولًا، ويحيى بن سعيد مرّ في الأول من بدء الوحي.
الحديث الخامس والأربعون
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ.
وهذا الحديث، قال التِّرْمِذِيُّ بعد أن أخرجه: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي، وهو مدنيّ ثقة، روى عنه غير واحد، وله بشواهد، فقد رواه غير واحد من الصحابة، كما رواه ابن أبي الموالي، فقد رواء ابن مسعود وأبو أيوب وأبو سعيد وأبو هريرة وابن عباس وابن عمر، فحديث ابن مسعود أخرجه الطبرانيّ وصححه الحاكم، وحديث أيوب أخرجه الطبرانيّ وصححه ابن حِبّان والحاكم، وحديث أبي سعيد وأبي هريرة أخرجهما ابن حِبّان في صحيحه، وحديث ابن عمر وابن عباس حديث واحد أخرجه الطبرانيّ عن عطاء عنهما، وليس في شيء منها ذكر الصلاة إلا حديث جابر، غير أن لفظ أبي أيوب "كتمْ الخطبةَ وتوضأ فأحسنِ الوضوء، ثم صلِّ ما كتب الله لكَ" الحديث، فالتقييد بركعتين خاص بحديث جابر، وجاء ذكر الاستخارة في حديث سعد، رفعه "من سعادة ابن آدم استخارته الله" أخرجه أحمد، وسنده حسن، وأصله عند التِّرْمِذِيّ، لكن بذكر الرضى والسخط، لا بلفظ الاستخارة.
ومن حديث أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اراد أمرًا قال:"اللَّهمَّ خِرْ لي واختر لي" أخرجه التِّرمِذِيُّ، وسنده ضعيف. وفي حديث أنس، رفعه "ما خاب مَنْ استخار" الحديث، أخرجه الطبرانيّ في "الصغير" بسندٍ واهٍ جدًا.
وقوله: عن محمد بن المُنْكَدِر عن جابر، وقع في التوحيد عن عبد الرحمن، سمعت محمد بن المُنْكَدِر يحدث عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب يقول: أخبرني جابر السّلَميّ، أي: بفتح اللام، نسبة إلى بني سَلِمة، بكسر اللام، بطن من الأنصار، وعند الإسماعيليّ عن بشر بن عمير، حدثني عبد الرحمن، سمعت ابن المُنْكَدِر، حدّثني جابر. وقوله:"يعلمنا الاستخارة"، في رواية معن "يعلَّم أصحابه"، وكذا في طريق بشر بن عمير، أي: صلاة الاستخارة ودعاءها، وهي طلب الخِيَرَة، على وزن العنَبة اسم من قولك خاره الله وخار له. وفي النهاية: خار الله لك، أي: أعطاك ما هو خيرٌ لك، والخيْرة بسكون الياء، الاسم منه، وأما بالفتح، فهو الاسم من قولك: خاره الله. ومحمد صلى الله عليه وسلم خِيْرة اللهِ من خَلْقه، يقال بالفتح والسكون، وهو من باب الاستفعال، وهو في لسان العرب على معان، منها سؤال الفعل، والتقدير: أطلب منك الخَيْر فيما هممتُ به. والخير هو كل ما زاد نفعه على ضره.
وقوله: "في الأمور كلها"، قال ابن أبي جَمْرة: هو عام أريدَ به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في
المباح، وفي المستحب، إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به، ويقتصر عليه، وتدخل الاستخارة في الواجب والمستحب، وفيما كان زمنه موسعًا، ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يستخف أمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم، أو في تركه.
وقوله: "يعلمنا السورة من القرآن"، وفي الدعوات "كالسورة من القرآن" قيل: وجه التشبيه عمومُ الحاجة في الأُمور كلها إلى الاستخارة كعموم الحاجة إلى القراءة في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد مثل ما وقع في حديث ابن مسعود في التشهد "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، كفي بين كفيه" أخرجه المصنف في الاستيذان، وفي رواية "أخذت التشهد كلمة كلمة"، أخرجها الطحاويّ. وفي رواية:"حرفًا حرفًا" أخرجها الطبرانيّ، قال ابن أبي جمرة: التشبيه في تحفظ حروفه، وترتب كلماته، ومنع الزيادة والنقص منه، والدرس له، والمحافظة عليه، ويحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به، والتحقق لبركته والاحترام له، ويحتمل أن يكون من جهة كون كل منهما علم بالوحي.
قال الطيبيّ: فيه الإشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء، وهذه الصلاة، لجعلهما تِلْوَيْن للفريضة والقرآن. وقوله:"إذا هَمْ" فيه حذف تقديره "يعلْمنا قائلًا إذا هَمْ"، وهذا في روايةَ الدعوات، وفي رواية قتيبة هنا، يقول: إذا هم أحدكم، وزاد أبو داود عن قُتيبة لنا قال ابن أبي جمرة: ترتيب الوارد على القلب على مراتب: الهمَّة اللَّمَّة ثم الخَطْرَة ثم النِّيَّة ثم الإرادة ثم العزيمة، فالثلاث الأُوَل لا يؤاخذ بها، بخلاف الثلاث الأُخر. فقوله:"إذا هم" يشير إلى أول ما يرد على القلب، يستخير فيظهر له ببركة الدعاء والصلاة ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته، فإنه يصير له إليه ميل وحب، فيخشى أن يخفى عنه وجه الأَرْشَدِيَّة لغلبة ميلة إليه. ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة؛ لأن الخاطر لا يثبت، فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله، وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته.
وفي حديث ابن مسعود: "إذا أراد أحدكم أمرًا فليقل
…
"، وقوله: "فليركع ركعتين" يقيد مطلق حديث أبي أيوب حيث قال: "صلِّ ما كتب الله لك"، ويمكن الجمع بأن المراد أنه لا يقتصر على ركعة واحدة للتنصيص على الركعتين، ويكون ذكرهما على سبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو صلّى أكثر من ركعتين أجزأ، والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن يسلم من كل ركعتين، ليحصل مسمى ركعتين، ولا يجزىء لو صلّى أربعًا مثلًا بتسليمة. وكلام النوويّ يشعر بالإجزاء.
وقوله: "من غير الفريضة" فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلًا، ويحتمل أن يريد بالفريضة عينها، وما يتعلق بها، فيحترز عن الراتبة، كركعتي الفجر مثلاً، وقال النوويّ في "الأذكار": ودعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة صلاة الظهر مثلًا، وغيرها من النوافل الراتبة والمطلقة، سواء اقتصر
على ركعتين أو أكثر، أجزأ، كذا أطلق، وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معًا، أجزأ بخلاف ما إذا لم ينو، ويفارق صلاة تحية المسجد؛ لأن المراد بها شغل البقعة بالدعاء، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عَقِبَها أو فيها، ويبعد الإجزاء لمن عرض له الدعاء بعد فراغ الصلاة؛ لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة العزم، وأفاد النوويّ أنه يقرأ في الركعتين "الكافرون والإخلاص".
قال العراقي في شرح التِّرمِذِيّ: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب. قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد. والمستخير يحتاج لذلك. قال: ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى، والأخريين في الثانية، ويؤخذ من قوله:"من غير الفريضة" أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة ليس على الوجوب، قال العراقيّ في شرح التِّرمِذِيّ: لم أر مَنْ قال بوجوب الاستخارة، لورود الأمر بها ولتشبيهها بتعليم السورة من القرآن، لما استدل بمثل ذلك في وجوب التشهد في الصلاة، لورود الأمر به في قوله:"فليقل"، ولتشبيهه بتعليم السورة من القرآن، فإن قيل: الأمر تعلق بالشرط، وهو قوله:"إذا أهم أحدكم بالأمر"، قلنا: وكذلك في التشهد، إنما يؤمر به من صلى، ويمكن الفرق، وإن اشتركا فيما ذكر، بأن التشهد جزء من الصلاة، فيؤخذ الوجوب من قوله:"صلّوا كما رأيتموني أُصلي"، ودل على عدم وجوب الاستخارة ما دل على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس في حديث "هل عَلَيّ غيرها؟ قال: لا، إلَاّ أن تَطَوَّع" وهذا، وان صلح للاستدلال به على عدم وجوب ركعتي الاستخارة، لكن لا يمنع من الاستدلال به على وجوب دعاء الاستخارة، فكأنهم فهموا أن الأمر فيه للإرشاد، فعدلوا به عن سنن الوجوب، ولما كان مشتملا على ذكر الله والتفويض إليه كان مندوبًا.
والخبر ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، ويحمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، فإنَّ موطن الدعاء في الصلاة السجود أو التشهد. وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيريّ الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك الجمع، ولا أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه حالًا ومآلًا.
وقوله: "اللَّهمَّ إني أستخيرك بعلمك" الباء للتعليل، أي: لأنك أعلم، وكذا هي في قوله:"بقدرتك" ويحتمل أن تكون للاستعانة، كقوله:{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} ويحتمل أن تكون للاستعطاف، كقوله تعالى:{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الآية.
وقوله: "وأستقدرك" أي: أطلب منك أن تجعل لي على ذلك قدرة، ويحتمل أن يكون المعنى
أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير، وقوله:"وأسألك من فضلك العظيم" إشارة إلى أن إعطاء الرب فضل منه، وليس لأحد عليه حق في نعمه، فكلما يهب زيادة مبتدأة من عنده لم يقابلها منا عوض، فيما مضى، ولا يقابلها فيما يستقبل، فإن وفق للشكر والحمد، فهو فضل منه ونعمة يفتقر إلى حمدٍ وشكر، وهكذا إلى غير نهاية خلاف ما تعتقده المبتدعة، حيث يقولون: إنه واجب على الله تعالى أن يبتدىء العبد بالنعمة، وقد خلق له القدرة، وهي باقية فيه دائمة يعصي ويطيع.
وقوله: "فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم" إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال: أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق فيَّ القدرة، وعندما تخلقها فيَّ، وبعدما تخلقها. فدلّ على أن العبد لا يكون قادرًا إلاّ بالفعل لا قبله، كما يقول القدرية. وقال ابن بطال: القوة والقدرة من صفات الذات، والقوة والقدرة بمعنىً واحدٍ مترادفان، فالباري تعالى لم يزل قادرًا قويًا ذا قدرة وقوة. وذكر الأشعري أن القدرة والقوة والاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك. وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة، فقال: هل يستطيع ربك؟ وإنما هو خبر عنهم ولا يقتضي إثبات صفة له.
وقوله: "وأنت علّام الغيوب" المعنى: أنا أطلب مستأنَفًا لا يعلمه إلا أنت. وقوله: "اللَّهمَّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر" في رواية معن وغيره "فإن كنت تعلم هذا الأمر" زاد أبو داود "والذي يريد" وفي رواية معن "ثم يسميه بعينه" وقد ذكر ذلك في آخر الحديث في الباب. وظاهر سياقه أن ينطق به، ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء، وعلى الأول تكون التسمية بعد الدعاء. وعلى الثاني تكون الجملة حالية، والتقدير: فليدع مسميًا حاجته.
وقوله: "إن كنت" استشكل الكرمانيّ الإتيان بصيغة الشك هنا ولا يجوز الشك في كون الله عالمًا، وأجاب بأن الشك في أن العلم متعلق بالخير والشر، لا في أصل العلم. وقوله:"ومعاشي" زاد أبو داود "ومعادي" وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة، ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ في الأوسط "في ديني ودنياي"، وفي حديث أبي أيوب عند الطبرانيّ "في دنياي وآخرتي"، زاد ابن حِبّان "وديني". وفي حديث أبي سعيد "في ديني ومعيشتي".
وقوله: "وعاقبة أمري" أو قال: "في عاجل أمري وآجله" هو شك من الرواي، ولم تختلف الطرق في ذلك، واقتصر في حديث أبي سعيد على "عاقبة أمري" وكذا في حديث ابن مسعود، وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. ولهذا قال الكرمانيّ: لا يكون الداعي جازمًا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يدعو ثلاث مرات، يقول مرة:"في ديني ومعاشي وعاقبة أمري"، ومرة:"في عاجل أمري وآجله"، ومرة:"في ديني وعاجل أمري وآجله". ولم يقع الشك في حديث أبي أيوب. ولا أبي هريرة أصلًا.
وقوله: "فاقدُره لي" بضم الدال وبكسرها، قال الكرمانيّ: معناه اجعله مقدورًا لي أو قدره. وقيل: معناه يسره، قال القرافيّ في "أنوار البروق": من الدعاء المحرم الدعاء المرتب على استئناف المشيئة، كمن يقول: اقدر لي الخير؛ لأن الدعاء بوضعه اللغويّ إنما يتناول المستقبل دون الماضي؛ لأنه طلب، وطلب الماضي محال، فيكون مقتضى هذا الدعاء أن يقع تقدير الله في المستقبل من الزمان، والله تعالى يستحيل عليه استئناف المشيئة والتقدير، بل وقع جميعه في الأزل، فيكون هذا الدعاء مقتضى مذهب مَنْ يرى أن لا قضاء، وأن الأمر أنُفٌ، كما أخرجه مسلم عن الخوارج، وهو فسق بالإِجماع. وحينئذ فيجاب عن قوله هنا:"فاقدره لي" بأن يتعين أن يعتقد أن المرادَ بالتقدير هنا التيسيرُ على سبيل المجاز والداعي إنما أراد هذا المجاز، وإنما يحرم الإطلاق عند عدم النية.
قلت: ما قاله القرافيّ، وإن كان ما وجهه به ظاهرًا، كيف يجوز أو يصح أن يقال بتحريمه مع تصريح الشارع به؟ وتعليمه لأصحابه في الأحاديث الصحيحة ولم يأمرهم بنية شيء؟ فكان الأولى له أن يقول: إنه من ألفاظ المتشابه، وكونه من المتشابه لا يوجب تحريم الدعاء به.
وقوله: "ثم بارك لي فيه" أي أدمه وضاعفه. وقوله: "فاصرفه عني، واصرفني عنه" أي: حتى لا يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه متعلقًا به، ولم يكتف بقوله:"فاصرفه عني"؛ لأنه قد يصرف الله تعالى عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقاً متشوفًا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطر، فإذا صرفه الله، وأصرفه هو عنه، كان ذلك أكمل.
وفيه دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه، ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وقوله:"واقدر لي الخير حيث كان" في حديث أبي سعيد بعد قوله: "واقدر لي الخير أينما كان، لا حول ولا قوة إلا بالله" وقوله: "ثم رضنّي به" بالتشديد، وفي رواية قُتيبة هنا "ثم أَرْضِنِي به" بهمزة قطع أي: اجعلني به راضيًا، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ في الأوسط "ورضنَّي بقضائك" وفي حديث أبي أيوب:"ورضّني بقدرتك" والسر فيه أن لا يبقى قلبه متعلقًا به، فلا يطمئن خاطره، والرضى سكون النفس إلى القضاء. وفي الحديث شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أُمته، وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفي بعض طرقه عند الطبرانيّ في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم، كان يدعو بهذا الدعاء إذا أراد أن يصنع أمرًا. وفيه أن العبد لا يكون قادرًا إلَاّ مع الفعل لا قبله، والله خالق العلم بالشيء للعبد، وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله تعالى، والتَّبَرُّؤ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه في أموره كلها. واستدل به على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده؛ لأنه لو كان كذلك لاكتفى بقوله:"إن كنت تعلم أنه خيرٌ لي" عن قوله: "وإن كنت تعلم أنه شرٌ لي" إلخ؛ لأنه إذا لم يكن خيرًا فهو شر. وفيه نظر لاحتمال وجود الواسطة، قاله في "الفتح".
قلت: الخير والشر ضدّان ولا واسطة بينهما، والخلاف في المسألة شهير عند أهل الأُصول.