الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُنكَر عليه
ضبط بفتح الكاف على البناء للمفعول، وحكى الكسر على أن فاعل الإنكار النبي صلى الله عليه وسلم. وحكى الزين بن المنير عن بعض الروايات، "فلم ينكره" بها بدل عليه، وإنما قيد الترجمة بذلك ليشير إلى أن الإنكار الذي وقع من الصحابة، كان على الصحابي في طلب البُردة، فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا عليه ذلك، فيستفاد منه جواز تحصيل ما لابد للميت منه من كفن ونحوه، في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حَفْر القبر؟ بحثٌ يأتي قريبًا عن آخر الحديث.
الحديث التاسع والثلاثون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا الشَّمْلَةُ. قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَأَنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا. قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ. قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَلْبَسَهَا إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
قوله: إن امرأة، لم تُسَمَّ. قوله: فيها حاشيتها، يعني أنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية، وقيل حاشية الثوب هَدَبُه، فكأنه قال: إنها جديدة لم يقطع هَدَبُها، ولم تلبس بعد، وقال القزاز، حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفهما الهَدَب. وقوله: أتدرون، هو مَقُول سَهل بن سعد، بيَّنه أبو غسان عن أبي حازم، كما أخرجه المصنف في الأدب، ولفظه "فقال سهل للقوم: أتدرونَ ما البُردة؟ قالوا: الشَّمْلَة" وفي تفسير البردة بالشملة تجوُّزٌ، لأن البردة كساء، والشملة ما يُشْتَمَل به، فهي أعم، لكن لما كان أكثر استعمالهم بها أطلقوا عليها اسمها. والشملة، بفتح الشين وسكون الميم، وتجمع على شَمَلات كَسَجْدة وسَجَدات، وعلى شِمال، ككَلْبة وكِلاب.
وقوله: فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدُّم قولٍ صريح. وقوله: فخرج إلينا وإنها إزاره، ولابن ماجه عن عبد العزيز، "فخرج إلينا فيها" وعند الطبرانيّ "فاتَّزر
بها ثم خرج" وقوله: فَحَسَّنها فلان، بمهملتين من التحسين، أي: نسبها للحُسْن، وللمصنف في اللباس "فجسها" بالجيم بغير نون، وكذا للطبرانيّ والإِسماعيليّ. وقوله: فلان، أفاد المحب الطبريّ عن الطبرانيّ أنه عبد الرحمن بن عوف. وقال في "الفتح": لم أره في المعجم الكبير، لا في مسند سهل ولا عبد الرحمن. وأخرج الطبرانيّ أيضًا أنه سعد بن أبي وقاص. وفي رواية له أيضًا عن زَمْعَة بن صالح أن السائل المذكور أعرابيٌّ، فلو لم يكن زمعة ضعيفًا، لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال: تعددت القصة على ما فيه من البعد، وقد يذكر محل كل واحد منهما في السند.
وقوله: ما أحسنَها، بنص النون، وما للتعجب، ولابن ماجه والطبرانيّ "قال: نعم، فلما دخل طواها، وأرسلها إليه" وللمصنف في اللباس "فقال: نعم، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه" وقوله: قال القوم: ما أحسن، ما نافية، وقد وقعت تسمية المعاتب له من الصحابة، فعند الطبراني "قال سهل: فقلت للرجل: لم سألته وقد رأيت حاجته إليها؟ فقال؛ رأيت ما رأيتم، ولكن أردت أن أُخبئها حتى أكفن فيها".
وقوله: إنه لا يرد وقع هنا بحذف المفعول، وعند ابن ماجه بلفظ "لا يرد سائلًا" وكذلك عند المصنف في البيوع، وفي رواية أبي غسان في الأدب "لا شيئًا فَيَمْنَعهُ". وقوله: ما سألته لألبسها، في رواية أبي غسان "فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم" وأفاد الطبراني في رواية زَمْعة بن صالح أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن يصنع له غيرها، فمات قبل أنْ تفرغ.
وفي هذا الحديث من الفوائد حُسْنُ خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وسعة جوده، وقبوله الهدية. واستنبط منه المُهَلَّب جواز ترك مكافأة الفقير على هديته، وليس ذلك بظاهر منه، فإن المكافأة كان عادة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة، فلابد من السكوت عنها هنا أن يكون لم يفعلها، بل ليس في سياق الحديث الجزم بكون ذلك كان هدية، فيحتمل أن تكون عرضتها عليه ليشتريها.
قلت: سياق الحديث لا يفهم منه إلا الهدية، وهو الذي يعطيه لفظ "جاءت ببردة" ولم يذكر فيه بيع ولا مساومة، وفيه جواز الاعتماد على القرائن، ولو تجردت لقولهم "فأخذها محتاجًا إليها"، وفيه نظر لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قول يدل على ذلك، كما تقدم.
وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه، إذا كان ماهرًا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبتها إليها إزالة ما يخشى من التدليس، وفيه جواز استحسان ما يراه الإِنسان على غيره من الملابس وغيرها، إما ليعرفه قدرها، وإما ليعرض له بطلبه منه، حيث يسوغ له ذلك. وفيه مشروعية الإِنكار عند مخالفة الأدب ظاهرًا وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم. وفيه التبرك بآثار الصالحين،