الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى عن العباس بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم. وروى عنه أخوه عثمان والحكم بن عُتَيبة ومحمد بن المُنْكَدِر وغيرهم. مات سنة سبع عشرة. وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
الحديث الستون
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ قَالَ فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ كَيْفَ الْغُلَامُ قَالَتْ قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ. وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا. قَالَ سُفْيَانُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ.
قال أبو نعيم في "المستخرج": يقال إن هذا الحديث مما تفرد به البخاريّ عن بشر بن الحكم، يعني هذا الوجه من طريق سفيان بن عيينة، ولم يخرجه أبو نعيم ولا الإِسماعيليّ من إسحاق إلَاّ من جهة البخاريّ. وأخرجه الإسماعيليّ عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، وهو أخو إسحاق، عن أنس، وأخرجه مسلم وابن سعد وابن حِبّان والطَّيَالِسِيّ، من طرق، عن ثابت عن أنس أيضًا. وفي رواية بعضهم ما ليس في رواية الآخر. وسأذكر ما في رواية كلٍّ من فائدة زائدة.
وقوله: اشتكى ابن لأبي طلحة، أي مرض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان الأصل أن المريض يحصل منه ذلك، استعمل في كل مرض لكل مريض، والابن المذكور هو أبو عمير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازجه، ويقول: ما فعل النُّغَير يا أبا عمير؟ كما يأتي في كتاب الأدب. ويأتي الكلام عليه بعد انتهاء الكلام على هذا الحديث.
بيَّن كونَه أبا عمير ابنُ حبان في روايته عن عِمارة بن زاذان عن ثابت، وزاد من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت في أوله قصة تزويج أم سليم بأبي طلحة، بشرط أن يسلم، وقال فيه: فحملت فولدت غلامًا صبيحًا، فكان أبو طلحة يحبه حبًا شديدًا، فعاش حتى تحرك، فمرض فحزن أبو طلحة عليه حزنًا شديدًا، حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح روحة،
فمات الصبيّ، فأفادت هذه الرواية تسمية امرأة أبي طلحة.
ومعين قوله "وأبو طلحة" أي: خارج البيت عند النبي صلى الله عليه وسلم، في أواخر النهار. وعند الإِسماعيليّ "كان لأبي طلحة ولد فتوفي، فأرسلتْ أم سليم أنسًا يدعو أبا طلحة، وأمرته أن لا يخبره بوفاة ابنه، وكان أبو طلحة صائمًا".
وقوله: هيأت شيئًا، قال الكرمانيّ أي: أعدت طعامًا لأبي طلحة وأصلحته، وقيل: هيأت حالها وتزينت، والصواب أنها هيأت أمر الصبيّ، بأنْ غسلته وكفنته، كما ورد في بعض طرقه صحيحًا، فعند أبي داود الطيالسيّ عن ثابت "فهيأت الصبي" وفي رواية حميد عند ابن سعد "فتوفي الغلام فهيأت أم سليم أمره" وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت "فهلك الصبيّ، فقامت أم سليم فغسلته، وكفنته وحنطته، وسجت عليه ثوبًا".
وقوله: ونحته في جانب البيت، أي: جعلته في جانب البيت، وفي رواية جعفر عن ثابت: فجعلته في مخدعها. وقوله: هدأت، أي: سكنت، ونفْسه بسكون الفاء للأكثر، والمعنى أنَّ النفْس كانت قلقة منزعجة بعارض المرض، فسكنت بالموت. وظن أبو طلحة أن مرادها أنها سكنت بالنوم لوجود العافية. وفي رواية أبي ذَرٍ "هدأ نَفَسه" بفتح الفاء، أي سكن، لأن المريض يكون نفسه عاليًا، فإذا زال مرضه سكن، وكذا إذا مات.
وفي رواية أنس بن سيرين "هو أسكن ما كان"، ونحوه في رواية جعفر عن ثابت. وفي رواية معمر عن ثابت "أمسى هادئًا" وفي رواية حميد "بخير ما كان". ومعانيها متقاربة. وقوله: وأرجو أن يكون قد استراح، لم تجزم بذلك على سبيل الأدب، ويحتمل أنها لم تكن علمت أن الطفل لا عذاب عليه، ففوضت الأمر إلى الله تعالى، مع وجود رجائها بأنه استراح من نكد الدنيا، وقوله: وظن أبو طلحة أنها صادقة، أي بالنسبة إلى ما فهمه من كلامها، وإلا فهي صادقة بالنسبة إلى ما أرادت.
وقوله: فبات، أي معها، وقوله: فلما أصبح اغتسل، فيه كناية عن الجماع، لأن الغسل إنما يكون في الغالب منه. وقد وقع التصريح بذلك في غير هذه الرواية. ففي رواية أنس بن سيرين، فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها. وفي رواية عبد الله بن عبد الله "ثم تعرضت له فأصاب منها" وفي رواية حماد عن ثابت "ثم تطيبت" زاد جعفر عن ثابت "فتعرضت له حتى وقع بها" وفي رواية سليمان عن ثابت "ثم تصنَّعَت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها".
وقوله: فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، وزاد مسلم "قالت يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا
أعاروا أهل بيت عارِيَّةً فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب وقال: تركتني حتى تلطختُ، ثم أخبرتني بابني؟ وفي رواية عبد الله فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت قومًا أعاروا قومًا متاعًا، ثم بدا لهم فيه فأخذوه، فكأنهم وجدوا في أنفسهم وزاد حماد في روايته عن ثابت "فأبوا أن يردوها" فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك، إن العاريَّة مؤداة إلى أهلها، ثم اتفقا، فقالت: إن الله أعارنا فلانًا، ثم أخذه منا. زاد حمّاد "فاسترجع".
وقوله: لعل أنْ يبارك الله لكما في ليلتكما، في رواية الأصيليّ "لهما في ليلتهما" وفي رواية أنس بن سيرين "اللهم بارك لهما"، ولا تعارض بينهما، فيجمع بينهما بأنه دعا بذلك، ورجا إجابة دعائه. ولم تختلف الرواة عن ثابت، وكذا عن حميد في أنه قال "بارك الله لكما في ليلتكما" وعرف من رواية أنس بن سيرين أن المراد الدعاء، وإنْ كان لفظه لفظ الخبر.
وفي رواية أنس بن سيرين من الزيادة "فولدت غلامًا" وفي رواية عبد الله بن عبد الله "فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة". ويأتي حديث تحنيكه في تعريفه في السند. وقوله: قال سفيان، هو ابن عيينة بالإِسناد المذكور، وقوله: فقال رجل من الأنصار إلخ، هو عباية بن رفاعة، لما أخرجه سعيد بن منصور ومسدد وابن سعد والبيهقيّ في الدلائل، كلهم عن سعيد بن مسروق عن عباية قال: كانت أم أنس تحت أبي طلحة، فذكر القصة شبيهة بسياق ثابت عن أنس. وقال في آخره: فولدت له غلامًا. قال عباية: فلقد رأي لذلك الغلام سبع بنين، كلهم قد ختم القرآن.
وأفادت هذه الرواية في رواية سفيان تجوزًا في قوله لهما، لأن ظاهره أنهم من ولدهما بدون واسطة، وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة، وهو عبد الله بن أبي طلحة. وفي رواية سفيان تسعة، وفي هذه سبعة، فلعل في أحدهما تصحيفًا، أو المراد بالسبعة من ختم القرآن كله، وبالتسعة من قرأ معظمه، وله من الولد، فيما ذكر ابن سعد وغيره من أهل العلم بالأنساب، إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد، وأربع من البنات، والمذكور منهم في رجال الحديث أربعة، ذكرنا تعريف من لم يسبق تعريفه في سند هذا الحديث، وهم ثلاثة مع تعريف أبي عمير.
وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد أيضًا جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب، وتزيين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها أن لا تبطل حقًا لمسلم، وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر، والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته، ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله صدق نيتها، بلَّغها مناها، وأصلح لها ذريتها.
وفيه إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من ترك شيئًا عوضه الله خيرًا منه، وبيان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأي وقوة العزم، وقد كانت تشهد القتال، وتقوم بخدمة المجاهدين إلى غير ذلك مما انفردت به عن جميع النسوة، مما مرَّ في تعريفها في السبعين من كتاب العلم. وقد وعدتُ بالكلام على حديث "ما فعل النُّغَير يا أبا عمير" تتميمًا للفائدة، وها أنا أذكر متنه المسوق عند المصنف في كتاب "الأدب" من رواية أبي التَّيَّاح، وأذكر باقي طرقه. ثم اتبع معانيه، وما فيه من الفوائد. ولفظ المتن المذكور عن عبد الوارث عن أبي التَّيّاح عن أنس قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال أحسبه فطيمًا، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ نغيرٌ كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه، فيصلى بنا".
وأخرجه المصنف في باب الانبساط إلى الناس من رواية شُعبة عن أبي التَّيّاح، وأخرجه النَّسائيّ عن شعبة هكذا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة عن أنس، ومن وجه آخر عن شعبة عن محمد بن قيس عن حُمَيد عن أنس، والمشهور الأول، ويحتمل أن يكون لشعبة فيه طريق.
وقوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، هذا قاله أنس توطئة لما يريد ذكره من قصة الصبي، وأول حديث شعبة المذكور عن أنس قال:"إنْ كان النبي صلى الله عليه وسلم، لَيُخالطنا" ولأحمد عن المثنى بن سعيد عن أبي التَّيّاح عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم" وفي رواية محمد بن قيس المذكورة "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا أهل البيت" يعني بيت أبي طلحة وأم سليم. ولأبي يعلى عن محمد بن سيرين عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا.
وللنّسائيّ عن إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس: كان يأتي أم سليم، وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ. ولابن مسعود وسعيد بن منصور عن رِبْعيّ بن عبد الله بن الجارود عن أنس: كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له.
وقوله: وكان لي أخ يقال له أبو عُمير، هو بالتصغير، وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، عند أحمد: كان لي أخ صغير، وهو أخو أنس بن مالك من أمه. وفي رواية المثنى بن سعيد المارّة: وكان لها، أي أم سليم، ابن صغير، وفي رواية حميد عند أحمد: وكان لها من ابن أبي طلحة ابن يكنى أبا عُمير.
وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند ابن أبي عمر: كان بُنَيٌّ لأبي طلحة. وقوله: أحسبه فطيمًا، بالنصب، وأصله فطيم، لأنه صفة أخ، وهو مرفوع، لكن تخلل بين الصفة والموصوف أحسبه، فطيم بمعنى مفطوم أي انتهى إرضاعه، وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عند ابن سعد
أن أبا طلحة كان له ابن، قال أحسبه فطيمًا، وفي بعض النسخ فطيم بغير ألف، وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنون بلا ألف. وعند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل، ولم يذكروا لأبي عُمير اسمًا بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، وعلى هذا يكون هذا من فوائد الحديث، وهو جعل الاسم المُصَدّر بأبٍ أو أمٍّ اسمًا علمًا من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعيّ بن عبد الله "يكنى أبا عمير" أنّ له اسمًا غير كنيته. وأخرج أبو داود والنَّسائيّ وابن ماجة عن هُشَيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عُمومة له حديثًا.
وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس، وذكروا أن اسمه عبد الله، كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعل أنسًا سماه باسم أخيه لأمه.، وكنّاه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفًا من أبي عُمير باسم أبي عمير، ولم يكنه بكنيته، وفي كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزيّ في ترجمة أم سليم عن محمد بن عمرو، وهو أبو سهل البصريّ، وفيه مقال عن حفص بن عبيد الله عن أنس أن أبا طلحة زوجَ أم سليم كان له منها ابنٌ يقال له حفصٌ، غلامٌ قد ترعرع فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله، فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام، ونومها مع أبي طلحة، وقولها له أرأيت لو أن رجلًا أعارك عارية إلخ، وإعلامها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعائه لهما، وولادتها وإرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه.
وفي القصة مخالفة لما في الصحيح منها، أن الغلام كان صحيحًا فمات بغتة، ومنها أنه ترعرع، والباقي بمعناه، فعرف بها أن اسم أبي عُمير حَفص، وهو وارد على من صنَّف في الصحابة وفي المبهمات وقوله: وكان إذا جاء، أي: وكان النبي صلى الله عليه وسلم، زاد مروان بن معاوية في روايته "إذا جاء لأم سليم يُمازحه" ولأحمد عن حميد مثله، وفي أخرى "يضاحكه" وفي رواية محمد بن قيس "يهازله" وفي رواية المثنى بن سعيد عند أبي عُوانة "يفاكهه".
وقوله: يا أبا عمير، في رواية رِبعيّ بن عبد الله، فزارنا ذات يوم فقال: يا أم سليم، ما شأني أرى أبا عمير ابنك خاثر النَّفَس؟ بمعجمة ومثلثة، أي: ثقيل النفس غير نشيط. وفي رواية مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر، كلاهما عن حميد، "فجاء يومًا وقد مات نغيره" زاد مروان "الذي كان يلعب به" زاد إسماعيل "فوجده حزينًا فسأل عنه، فأخبرته، فقال: يا أبا عُمير".
وفي رواية حماد بن سلَمَة فقال: ما شأن أبي عمير حزينًا؟ وفي رواية ربعيّ بن عبد الله "فجعل يمسح رأسه ويقوله" وفي رواية عِمارة بن زاذان "فكان يستقبله ويقول".
وقوله: ما فعل النُّغَير؟ بنون ومعجمة وراء مصغرًا، وكرر ذلك في رواية حماد بن سلمة وقوله: نُغَيْرٌ كان يلعب به، هو طير صغير واحدة نُغْرة، وجمعه نُغْران. قال الخطابيّ: طوير له صوت، وفيه
نظر، فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصَّعْو، بمهملتين بوزن العَفو، كما في رواية ربعي، فقالت أم سليم: ماتت صَعْوَته التي كان يلعب بها، فقال: أي: أبا عُمير، مات النُّغَير، فدل على أنهما شيء واحد، فالصعو لا يوصف بحسن الصوت. قال الشاعر:
كالصعو يرتع في الرياض وإنما
…
حُبِس الهَزَار لأنه يترنم
قال عِياض: النُّغَير طائر معروف يشبه العصفور، وقيل هي فراخ العصافير، وقيل هي نوع من الحُمَّر، بضم المهملة وتشديد الميم ثم راء، قال: والراجح أن النُّغَير طائر أحمر المنقار، وهذا الذي جزم به الجوهريّ، وقال صاحبا العين والمحكم: الصَّعْو صغير المنقار أحمر الرأس.
وقوله: فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا إلخ، تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة في باب الصلاة على الحصير، وفي هذا الحديث فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبريّ، المعروف بابن القاصّ، الفقيه الشافعيّ، صاحب التصانيف في جزء مفرد. وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عُمير هذا. قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهًا، ثم ساقها، وقد لخص في "الفتح" جميع ما ذكره، وأتبعه بما تيسر من الزوائد عليه، مع تتبع طرق الحديث، وإبداء ما في كل رواية من الفائدة.
وقد استوفيت هنا جمع ما ذكره صاحب "الفتح"، ففي الحديث استحباب التأني في المشي، وزيارة الإِخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابّة وأُمنت الفتنة، وتخصيص الإِمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله "زُرْ غِيًا تزدد حبًا" مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر.
وفيه مشروعية المصافحة، لقول أنس فيه: ما مسست كفًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي ذكر في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان شَثِنَ الكفين خاصٌ بِعَبَالة الجِسم لا بخشونة اللمس. وفي كاستحباب صلاة الزائر في بيت المزور، ولاسيما إذا كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وتكرر التقرر لأنه علم أن في البيت صغيرًا، وصلى مع ذلك في البيت، وجلس فيه.
وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة، لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف، كذا قال في "الفتح"، وفيه نظر قد مرَّ الكلام فيه. وفيه أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافًا لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها. وفيه جواز حمل
العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته، إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها.
وفيه جواز الممازحة، وتكرير المزح، وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبيّ الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه. وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر، أو في البيت فيمزح، وأن الذي ورد في المنافق أن سره يخالف علانيته ليس على عمومه. وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزنه أو غيره.
وفيه جواز الاستدلال بالعين على صاحبها، إذ استدل عليه الصلاة والسلام بالحزن الظاهر على الحزن الكامن، حتى حكم بأنه حزين، فسأل أمر عن حزنه، وفيه التلطف بالصديق، صغيرًا كان أو كبيرًا، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا بكى عن سبب عامدًا، ومن أذى بغير حق. وفيه قبول خبر الواحد، لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك.
وفيه جواز تكنية من لم يولد له. وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير، إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما، وأيهما كان الواقع التحقق به الآخر في الحكم وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم، وإمساكه بعد إدخاله خلافًا لمن منع إمساكه، وقاسه على من صاد ثم أحرم، فإنه يجب عليه الإِرسال. وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب، خلافًا لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلَاّ من يعقِل ويفهم. قال: والصواب الجواز، حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثَمّ لم يخاطبه في السؤال عن حاله، بل سأل غيره.
وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم، وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته، ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته، ولو كانت امرأة. وجواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائب، ولو لم يكن محرمًا إذا انتفت الفتنة.
وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف لا ينافي السنة، وأن تشييع المَزُور الزائِرَ ليس على الوجوب، وفيه أن الكبير إذا زار قومًا واسى بينهم، فإنه صافح أنسًا، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من بركته.
وفي تتبع طرقه من الفائدة الخروجُ مِن خلاف مَن شَرَط في قبول الخبر أن تتعدد طرقه، فقيل لاثنين، وقيل لثلاثة، وقيل لأربعة، وقيل حتى يستحق اسم الشهرة. فكان في جميع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالبًا، وفي جمع الطرق أيضًا، ومعرفة من رواها وكميتها العلم بمراتب
الرواة في الكثرة والقلة.
وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط، وبيان تدليس المدلس، وتوصيل المعنعن. قال: وفيما يسره الله من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده، ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل، وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد، وتفضل بعضها على بعض في الأُكُل. هذا ما ذكره ابن القاصّ.
وقد قال العراقيّ في شرح الترمذيّ من هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفيّ ومنها المتعسف، وما ذكره من فائدة جمع الطرق لا خصوصية له بهذا الحديث، وقد بقي من فوائده أن بعض المالكية والخطابيّ من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاصّ أنه صيد في الحل ثم أُدخل الحرم، فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في المُدَوّنة، ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده.
وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية، فقال: قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقَّب، وما أجاب به ابن القاصّ من مخاطبة من لا يميز التحقق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذ أفهم الخطاب، وكان في ذلك فائدة، ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعيّ عند قصد تمرينه عليه من الصغير، كما في قصة الحسن بن عليّ لما وضع التمرة في فيه، قال له: كخ كخ، أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة؟ كما يأتي بسطه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ويجوز أيضًا مطلقًا إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرًا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلًا إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله، وذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث، أيضًا، استحبابَ النضح فيما لم يتيقن طهارته، وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب، لأن الصبيّ لم يكن أبًا، وقد دُعي أبا عمير، ويأتي استيفاء الكلام على هذا في باب "ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم".
وفيه جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفًا، وأن ذلك لا يمتنع من النبي صلى الله عليه وسلم، كما امتنع منه انشاء الشعر. وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره وفيه جواز الرواية بالمعنى، لأن القصة واحدة، وقد جاءت بألفاظ مختلفة، وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارة مطولًا وتارة ملخصًا. وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس، ويحتمل أن يكون من مَن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه، والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتحاد