الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم باللّيل من نومه وما نسخ من قيام الليل
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ في النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} . وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} .
قوله: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي: المتلفف في ثيابه، وروى ابن أبي حاتم عن عِكرمة عن ابن عباس قال: يا أيها المزمل، أيْ: يا محمد قد زُمِّلْتَ القرآن، وكأنَّ الأصل: يا أيها المتزمل، قلبت التاء زايًا، وأدغمت في الأخرى. وقوله:{قُمِ اللَّيْلَ} كأنه يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، يعني:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فرضيته، واستغنى البخاري عن إيراد هذا الحديث، لكونه على غير شرطه، بما أخرجه عن أنس، فإن فيه "ولا تشاء أن تراه من اللَّيل نائمًا إلا رأيته" فإنه يدل على أنه كان ربما نام كل الليل، وهذا سبيل التطوع، فلو استمر الوجوب لما أخل بقيام الليل، وبهذا تظهر مطابقة الحديث للترجمة.
وقد روى محمد بن نصر في قيام الليل عن ابن عباس، شاهد الحديث عائشة، في أن بين الإيجاب والنسخ سنة، وكذا أخرجه عن أبي عبد الرحمن السُّلُميّ والحسن وعِكرمة وقَتَادة بأسانيد صحيحة عنهم، ومقتضى ذلك أن النسخ وقع بمكة؛ لأن الإيجاب متقدم على فرض الخمس ليلة الإسراء، وكانت قبل الهجرة بأكثر من سنة على الصحيح، وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام اللّيل إلا ما تيسر منه، لقوله:{مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس.
واستشكل محمد بن نصر ذلك، كما تقدم كلامه والتعقب عليه، عند الحديث الثاني من كتاب الصلاة، وتضمن كلامه أن الآية التي نسخت الوجوب مدنية، وهو مخالف لما عليه الأكثر من أن السورة كلها مكّيّة، نعم ذكر أبو جعفر النحاس أن السورة كلها مكّيّة، إلا الآية الأخيرة، وقوّى محمد بن نصر هذا القول بما أخرجه عن جابر، أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة
في جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة لكن في إسناده عَلِيّ بن يَزيد بن جَدعان، وهو ضعيف، وأما ما رواه الطبري عن عائشة قالت: احتجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حَصِيرًا
…
فذكر الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه قبل خمسة أبواب، ومرّ هناك محل استيفاء الكلام عليه، وفيه:"اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن خير العمل أدومه وإنْ قَلّ" ونزلت عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فكتب عليه قيام الليل: وأنزلت منزلة الفريضة، حتى إن كان بعضهم ليربط الحبل فيتعلق به، فلما رأى الله تكلفهم ابتغاء رضاه، وضع ذلك عنهم، فردهم إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام اللّيل إلا ما تطوعوا به فإنه يقتضي أن السورة كلها مدنية، لكن فيه موسىِ بن عُبَيدة، وهو شديد الضعف، فلا حجة فيما تفرّد به، ولو صح ما رواه لاقتضى ذلك وقوع ما خَشي منه عليه الصلاة والسلام، حيث ترك قيام اللّيل بهم خشية أن يفرض عليهم. والأحاديث الصحيحة دالة على أن ذلك لم يقع، وقد مرّ بعض الكلام على وجوب قيام اللّيل في أول التهجد.
وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} أي: منه، وروى ابن أبي حاتم عن وَهْب بن مُنَبّه قال: القليل ما دون المعشار والسدس، وفيه نظر، لما سيأتي قريبًا. وقوله:{نِصْفَهُ} يحتمل أن يكون بدلًا من "قليلاً" فكأنَّ في الآية تخييراً بين قيام النصف بتمامه، أو قيام أنقص منه أو أزيد. ويحتمل أن يكون قوله:{نِصْفَهُ} بدلًا من الليل، وإلا قليلًا استثناء من النصف، حكاه الزمخشريّ، وعليه المعنى قم أقل من نصف الليل، والضمير في منه من قوله:{أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} للنصف، والمعنى التخيير بين أمرين: أن يقوم أقل من النصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين؛ النقصان من النصف، والزيادة عليه.
وتعقبه في "البحر" بأنه يلزم منه التكرار؛ لأنه على تقديره قم أقل من نصف الليل، يكون قوله:{أَوِ انْقُصْ} من نصف الليل تكرارًا، ووصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل. قال في "الفتح" وبالأول جزم الطبري، وأسند ابن أبي حاتم معناه عن عطاء الخراسانى، وقوله:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} أي: اقرأه مترسلاً، بتبيين الحروف وإشباع الحركات. وروى مُسْلم عن حفصة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها". وقوله:{قَوْلًا ثَقِيلًا} أي: القرآن، وعن الحسن العمل به. أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرج أيضًا من طريقة أخرى عنه قال: ثقيلًا في الميزان يوم القيامة، وتأوَّله غيره على ثقل الوحي حين ينزل كما تقدم في بدء الوحي.
وقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس: تنشّأ قام، بالحبشة يعني، فيكون قوله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ} أي: قيام الليل، وهذا التعليق وصله غيد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جُبير عنه، ووصله ابن أبي حاتم عن أبي ميسرة عن ابن مسعود أيضًا، وذهب الجمهور إلى أنه ليس في القرآن شيء بغير العربية، وقالوا: ما ورد من ذلك فهو من توافق اللغتين، وعلى هذا فناشئة الليل مصدر بوزن فاعلة من نشأ إذا قام، أو اسم فاعل، أي: النفس الناشئة بالليل، أي التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي تنهض. وحكى أبو عبيد في "الضريبين" أن كل ما حدث بالليل وبدا فهو ناشىء،
وقد نشأ. وفي "المجاز" لأبي عبيدة: ناشئة الليل آناء الليل ناشئةٌ بعد ناشئةٌ، قال ابن التين: والمعنى أن الساعات الناشئة من الليل، أي: المقبلة بعضها في إثر بعض، هي أشد.
قوله: "وطأً" قال: مواطأة للقرآن، أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه، وهذا وصله عبد بن حُميد عن مجاهد قال: أشد وطأً، أي: يوافق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضًا، قال الطبري: هذه القراءة على أنه مصدر من قولك: واطأ اللسان القلبَ وَوِطاءً قال: وقرأ الأكثر "وَطْأ" بفتح الواو وسكون الطاء، ثم حكى عن العرب "وطئنا الليل" أي: سرنا فيه. وروي عن قتادة أشد وطأً أثبت في الخير، وأقوم قيلًا أبلغ في الحفظ. وقال الأخفش: أشد وطأ أي قيامًا، وأصل الوطء في اللغة الثقل، كما في الحديث "أشدد وطأتك على مُضَر" وقوله:"ليواطئوا" ليوافقوا، هذه الكلمة من تفسير براءة، وإنما أوردها هنا تأييدًا للتفسير الأول، وقد وصله الطبريّ عن ابن عباس لكن بلفظ "ليشابهوا".
وقوله: {سَبْحًا طَوِيلًا} أي: فراغًا، وصله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وغيرهم. وعن السّدِّيّ سبحًا طويلًا، أي: تطوعًا كثيرًا، كأنه جعله من السّبحة وهي النافلة. وقوله:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} هذا مرتبط بما قبله، وهو قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلخ أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام الليل. وقيل: الضمير المنصوب فيه، يرجع إلى مصدر مقدر، أي: علم أن لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية، إلا أنْ تاخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاقّ عليكم.
وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عبارةعن الترخيص في ترك القيام المقدر، وقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} قال الزمخشريَّ: عبَّر عن الصلاة بالقراءة، كما عبّر عنها بالقيام والركوع والسجود، يريد فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل، وهذا ناسخ للأول، ثم نسخا جمعيًا بالصلوات الخمس كما مرّ. وقيل: هي قراءة القرآن بعينها، قيل: يقرأ مئة آية، ومَنْ قرأ مئة آية في ليلة لم يُحَاجّه القرآن. وقيل: مَنْ قرأ مئة آية كُتِب من القانتين، وقيل خمسين آية. وقد بيّن الحكمة في النسخ بقوله:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} لا يقدرون على قيام الليل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} يعني يسافرون الأرض يبتغون من الله، يعني في طلب المعيشة، يطلبون الرزق من الله تعالى، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، أي: يجاهدون في طاعة الله، وكل من الفِرَق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل، وهذا إخبار عمّا يكون مستقبلًا بالإعجاز، على القول بأن الآية مكية، والتسوية بين الضارب للتجارة والمجاهد في سبيل الله، دلت على أن طلب الرزق إذا قرن بالنية الصالحة له مكان عند الله، كيف وقد قدمه على المجاهدة؟ وكذا قال ابن عمر: ما من موتة أحب إليّ بعد القتل في سبيل الله من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض ابتغاء فضل الله تعالى.