الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنا بك لمحزونون
قال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم تدمع العين ويحزن القلب.
سقطت هذه الترجمة والأثر في رواية الحمويّ، وثبتت للباقين، وحديث ابن عمر كان المراد به ما أورده المصنف في الباب الذي بعد هذا، إلا أن لفظه "إن الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب" فيحتمل أن يكون ذكره بالمعنى، لأن ترك المؤاخذة بذلك يستلزم وجوده، وأما لفظه فثبت في قصة موت إبراهيم من حديث أنس عند مسلم، وأصله عند المصنف كما في هذا الباب، وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن سعد والطبرانيّ، وأبي هريرة عند ابن حِبّان والحاكم، وأسماء بنت يزيد عند ابن ماجه، ومحمود بن لبيد عند ابن سعد، والسائب بن يزيد وأبي أمامة عند الطبرانيّ، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه.
الحديث الثاني والستون
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ هُوَ ابْنُ حَبَّانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ. ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَاّ مَا يَرْضَي رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.
قوله: على أبي سيف، قال عياض: هو البراء بن أوس، وأم سيف زوجته هي أم بُردة، واسمها خولة بنت المنذر، وهذا قصد به الجمع بين ما في هذا الحديث الصحيح، وبين ما رواه ابن سعد في الطبقات، عن الواقديّ من أن المرضعة هي أم بُردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد من بني عَدِي بن
النّجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجَعْد من بني عَدِيّ. وما جمع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء بن أوس.
وقوله: القَين، بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون، هو الحداد، ويطلق على كل صائغ، يقال: قال الشيء إذا أصلحه. وقوله: ظِئْرًا، بكسر المعجمة وسكون التحتانية المهموزة بعدها راء، أي مرضعًا، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، واصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأُطلق على زوجها ذلك لأنه يشاركها في تربيته غالبًا.
وقوله لإبراهيم، أي ابن الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع التصريح بذلك في رواية سليمان بن المغيرة، المعلقة بعد هذا، ولفظه عند مسلم "ولد لي الليلة غلامٌ" إلى آخره، الآتي قريبًا في تعريف أبي سيف في السند، وفي رواية لمسلم أيضًا عن أنس "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم مُسْتَرْضعًا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت، وإنه ليدخن، وكان ظِئره قينًا".
وقوله: وإبراهيم يجود بنفسه، أي: يخرجها، ويدفعها، كما يدفع الإِنسان ما له. وفي رواية سليمان "يكيد" قال صاحب العَين: أي يَسوق بها، وقيل: معناه يقارب بها الموت. وقال أبو مروان بن السّرّاج: قد يكون من الكيد، وهو القيء، يقال منه كاد يكبد، شَبَّه تَقَلُّع نفسه عند الموت بذلك.
وقوله: تذرفان، بذال معجمة وفاء، أي يجري دمعهما. وقوله: وأنت يا رسول الله، قال الطيبيّ: فيه معنى التعجب، والواو تستدعي معطوفًا عليه، أي: الناس لا يصبرون عن المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع أنه عهد منه أنه يحث على الصبر، وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: إنها رحمة، أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد، لا ما توهمت من الجزع.
وفي حديث عبد الرحمن بن عوف "نَفَسه" فقلتُ: يا رسول الله أتبكي؟ أَوَلَمْ تَنهَ عن البكاء؟ وزاد فيه "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نفحة لَهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب وَرَنَّة شيطان" قال: "إن هذا رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم". وفي رواية محمود بن لبيد فقال: "إنما أنا بشر". وعند عبد الرزاق من مُرْسَل مكحول "إنما أنهى الناس عن النياحة، أنْ يُنْدب الرجل بما ليس فيه".
وقوله: ثم أتبعها بأخرى، في رواية الإِسماعيليّ: ثم أتبعها، والله، بأخرى، بزيادة القسم. قيل: أراد به أنه اتبع الأُولى بدمعة أُخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى، المجملة، وهي قوله: إنها رحمة، بكلمة أخرى مفصلة. وهي قوله:"إن العين تدمع" ويؤيد الثاني ما مرَّ عن طريق عبد الرحمن، ومرسل مكحول. وقوله إن العين تدمع إلى آخره في حديث عبد الرحمن بن عوف ومحمود بن لبيد "ولا نقول ما يُسخط الرب" وزاد في آخر حديث عبد الرحمن "لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل ناتيه، وأنّ آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا" ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد ومرسل مكحول، وزاد في آخره "وفصل رضاعه في الجنة"، وزاد في آخر حديث محمود بن لبيد "وقال: إن له مُرْضعًا في الجنة".
ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرًا، وعند مسلم من حديث أنس قال عمرو بن سعيد: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة" سيأتي في آخر الجنائز حديث البراء "إن لإبراهيم لمرضعًا في الجنة" وفي قوله: "إن العين تدمع" الخ إضافة الفعل إلى الجارحة تنبيهًا على أن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة العبد، ولا يكلف الانفكاك عنه، وكأنّ الجارحة امتنعت، فصارت هي الفاعلة، لا هو، ولهذا قال:"وإنا بفارقك لمحزونون" فعبر بصيغة المفعول لا بصيغة الفاعل، أي ليس الحزن من فعلنا، ولكنه واقع بنا من غيرنا، ولا يكلف الإِنسان بفعل غيره. والفرق بين ومع العين ونطق اللسان، أنّ النطق يُمْلَك، بخلاف الدمع، فهو للعين كالنظر، ألا ترى أن العين إذا كانت مفتوحة نظرت شاء صاحبها أو أبى، فالفعل لها، ولا كذلك نُطْق اللسان، فإنه لصاحب اللسان. قاله ابن المنير.
وقد مرَّ كثير من مناقب إبراهيم عليه السلام عند تعريفه في الرابع من الكسوف، قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه جواز الإخبار عن الحزن، وإن كان كتمه أولى، وجواز البكاء على الميت قبل موته، نعم، يجوز بعده، لأنه صلى الله عليه وسلم بكى على قبر بنت له. رواه البخاريّ وزار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، رواه مسلم. ولكنه قبل الموت أولى بالجواز، لأنه بعد الموت يكون أسفًا على ما فات، وبعد الموت خلاف الأولى، كذا نقله في المجموع عن الجمهور.
ولكنه نقل في الأذكار عن الشافعيّ والأصحاب أنه مكروهٌ، لحديث "فإذا وجبت فلا تبكيَنَّ باكية" قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "الموت" رواه الشافعيّ وغيره بأسانيد صحيحة. قال السّبكيّ: ينبغي أن يقال: إن كان البكاء لرقة على الميت وما يخشى عليه من عذاب الله وأهوال يوم القيامة فلا يكره، ولا يكون خلاف الأولى، وإن كان للجزع وعدم التسليم للقضاء، فيكره أو يحرم، وهذا كله في البكاء بصوت. أما مجرد دمع العين العاري عن القول والفعل الممنوعين، فلا منع منه