الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار
كذا ثبت في رواية الكَشْمَيهنيَّ، ولغيره بعد الوضوء، واقتصر بعضهم على الشق الثاني من الترجمة، وعليه اقتصر الإسماعيليّ وأكثر الشُّرَّاح. والشق ليس بظاهر في حديث الباب، إلا إن حُمِل على أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، كما سنذكره في شرح الحديث من حديث بريدة.
الحديث الثلاثون
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَاّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: دَفَّ نَعْلَيْكَ يَعْنِي تَحْرِيكَ.
قوله: "قال لبلال"، أي: ابن رباح المؤذن، وقوله: عند صلاة الفجر، فيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام؛ لأن عادته صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقص ما رآه، ويعبر ما رآه أصحابه، كما يأتي في كتاب التعبير بعد صلاة الفجر. وقوله:"بأرجى عمل" بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وهو سماعي مثل أشغل وأعذر، أي: أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجوّ بالثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى: حدثني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك.
وقوله: "فإني سمعت" أي: الليلة، كما في مسلم في النوم؛ لأنه لا يدخل أحد الجنة يقظة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم دخلها يقظة، كما وقع له ليلة المعراج، إلا أن بلالًا لم يدخل. وقال النّورْبَشْتّيّ: هذا شيء كوشف به، عليه الصلاة والسلام، من عالم الغيب في نومه أو يقظته. ونرى ذلك، والله أعلم، عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة، قبل ورود الأمر عليه، وبلوغ الندب إليه، وذلك من قبيل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل، أي: تعمل قبل ورود أمري إليك، لكنه لما كان ما استنبطه موافقًا لمرضاة الله ورسوله، أقره واستحمده عليه.
وقوله: "دَفَّ نعليك" بفتح المهملة، وضبطها المُحِبّ الطبريّ بالإعجام وإلغاء مثقلة، وقد
فسره المصنف في رواية كريمة بالتحريك، وقال الخليل: دَفَّ الطائر، إذا حرك جناحيه وهو قائم على رجليه. وقال الحميديّ: الدف الحركة الخفيفة، والسير اللين. وفي رواة مسلم "خشف" بفتح وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء، وقال أبو عبيد وغيره: الخشف الحركة الخفيفة، وفي حديث بُريدة عند أحمد والترمذيّ: سمعت خشخشة، بمعجمتين مكررتين، وهو بمعنى الحركة أيضًا. وقوله:"أرجى عندي أني" بفتح الهمزة، ومن مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم، وفي رواية الكشميْهنيّ "أنْ" بنون خفيفة بدل "أني" وقوله:"طهورًا" زاد مسلم: "تامًا"، والذي يظهر أنه لا مفهوم لها، ويحتمل أن يخرج بذلك الوضوء اللغوي، فقد يفعل ذلك لطرد النوم، لكن هذا الاحتمال يرده قوله بعد "إلا صليت بذلك الطهور"، فإن الوضوء اللغوي لا يُصلى به، فلا يحتاج إلى الإخراج.
وقوله: "في ساعة ليل أو نهار" بتنوين ساعة، وخفض ليل على البدل، وبغير تنوين على الإضافة. وفي رواية مسلم:"في ساعة من ليل أو نهار"، وقوله:"إلا صليت" زاد الإسماعيليُّ "لربي". وقوله: ما كُتب لي، أي: قدر، وهو أعم من الفريضة والنافلة. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك لأنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم، أن الصلاةَ أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر، والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها، الأعمالُ المتطوعُ بها، وإلا فالمفروضة أفضل قطعًا.
ويستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة؛ لأن بلالًا توصل إلى ما ذكرنا بالاستنباط، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الجوزيّ: فيه الحث على الصلاة عقب الوضوء، لئلا يبقى الوضوء خاليًا عن مقصوده. وقال المهلب: فيه أن الله يعظم المجازاة على ما يسره العبد من عمله، وفيه سؤال الصالحين عمّا يهديهم الله به من الأعمال الصالحة، ليقتدي بها غيرهم في ذلك. وفيه أيضًا سؤال الشيخ عن عمل تلميذه، ليحضه عليه ويرغبه فيه، إن كان حسنًا، وإلا فينهاه. واستدل به على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، لعموم قوله في كل ساعة، وتعقب بأن الأخذ بعمومه، ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي. وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية، يحمل على تأخير الصلاة قليلًا، ليخرج وقت الكراهة، أو أنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة، لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، لكن عند التِّرْمِذِيّ وابن خزيمة من حديث بُرَيدة في نحو هذه القصة "ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها"، ولأحمد من حديثه:"ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين"، فدل على أنه كان يعقب الحدث بالوضوء، والوضوء بالصلاة في أي وقتٍ كان.
وقال الكرّمانيّ: ظاهر الحديث أن السماع المذكور وقع في النوم؛ لأن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد الموت، ويحتمل أن يكون في اليقظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها ليلة المعراج، وأما بلال فلا يلزم من هذه القصة أنه دخلها؛ لأن قوله:"في الجنة" ظرف للسماع، ويكون الدف بين يديه خارجًا
عنها. ولا يخفى بعد هذا الاحتمال؛ لأن السياق مشعر بإثبات فضيلة بلال، لكونه جعل السبب الذي بلّغه إلى ذلك، ما ذكره من ملازمة التطهر والصلاة، وإنما ثبتت له الفضيلة، بأن يكون رؤي داخل الجنة لا خارجًا عنها.
وفي حديث بريدة المذكور "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ " وهذا ظاهر في كونه رآه داخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام، ما سيأتي في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعًا "رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر" الحديث، وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعًا "ببنما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقيل: هذا لعمر" الحديث، فعرف أن ذلك وقع في المنام، وثبتت الفضيلة بذلك لبلال؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ولذلك جزم النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، ومشيه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام، ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام التابع، وكأنه أشار صلى الله عليه وسلم إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته، واستمراره على قرب منزلته.
وفيه منقبه عظيمة لبلال، كما أنه لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة بالجنة، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت، لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة، وإظهار آثار الأسباب مؤكدها ومحقق.
وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة؛ لأن مِنْ لازم الدوام على الطهارة أن يبيت المرء طاهرًا، ومن بات طاهرًا عرجت روحه، فسجدت تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والعرش سقف الجنة كما يأتي في هذا الكتاب، وزاد بُرَيدة في آخر حديثه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وظاهره أن هذا
الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يُدْخِل أحدكم الجنة عَمَلُه" لأن أحد الأجوبة المشهورة في الجمع بينه وبين قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أن أصل الدخول إنما يقع برحمة الله، واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا.
وقد مرّ الكلام مستوفى على هذا، غاية الاستيفاء في باب "مَنْ قال إن الإيمان هو العمل" من كتاب الإيمان. وفيه أن الجنة موجودة الآن، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. وقول الكرمانيّ فيما مرّ:"لا يدخل أحد الجنة إلا بعد موته" مع قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها ليلة المعراج، وكان المعراج في اليقظة على الأصح" ظاهرهما التناقض، ويمكن حمل النفي إن كان ثابتًا على غير الأنبياء، أو تختص في الدنيا بمن خرج عن عالم الدنيا، ودخل في عالم الملكوت، وهو قريب مما أجاب به السهيليّ عن استعمال الطست ليلة المعراج. وقوله:"قال أبو عبد الله: دف نعليك" يعني تحريك