الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة
قوله: سَعْدَ، بالنصب على المفعولية، وخولة، بفتح المعجمة وسكون الواو، والرثاء، بكسر الراء وبالمثلثة بعدها مدّة، مدح الميت، وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث، حيث قال الراوي "يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولهذا اعترض الإِسماعيليّ الترجمةَ فقال: ليس هذا من مراثي الموتى، وإنما هو من التوجع، يقال: رَثَيته إذا مدحته بعد موته، ورثيت له إذا تحزنت عليه، ويمكن أن يكون مراد البخاريّ هذا بعينه، كأنه يقول: ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التحزّن والتوجّع، وهو مباح، وليس معارضًا لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحُزن، وتجديد اللوعة. وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي، وهو عند أبي شيبة بلفظ "نهانا أن نتراثى" ولا شك أن الجامع بين الأمرين التوجّع والتحزّن، ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة إدخال هذه الترجمة في تضاعيف التراجم المتعلقة بحال من يحضر الميت.
الحديث الرابع والخمسون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَاّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا. فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ لَا ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَاّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلَاّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ، يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.
قوله: يعودني في حجة الوداع من وجع اشتد بي، وفي رواية الزُّهري في الهجرة "من وجع
أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهريّ على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلَاّ ابن عُيينة فقال في فتح مكة. أخرجه التِّرمذيُّ عنه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاريّ في الفرائض عنه، فقال بمكة، ولم يذكر الفتح.
ومستند ابن عُيينة هو ما أخرجه أحمد والبزّار والطبرانيّ والبخاريّ في التاريخ، وابن سعد عن عمرو بن القاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قدم فخلف سعدًا مريضًا حين خرج إلى حُنين، فلما قدم من الجُعْرانة معتمرًا، دخل عليه، وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالًا وإني أُوْرَث كلالة، أَفأُوصي بمالي .. " الحديث، وفيه قلت: يا رسول الله، أمَيِّتٌ أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرًا؟ قال:"لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام" الحديث، فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث.
ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين، مرة عام الفتح، ومرة عام حجة الوداع، ففي الأُولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلًا، وفي الثانية كانت له بنت. وقوله: فقلت إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلَاّ ابنة، فقوله: وأنا ذو مال، نحوه في رواية عائشة بنت سعد في الطب، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثيه أو بشطره وأبقى ثلثه بَيْن بنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير، لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير، وإلاّ فلو تصدق المريض بثلثيه مثلًا، ثم طالت حياته، ونقص وفني المال، فقد تجحفت الوصية بالورثة، فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل، وهو الثلث.
وقوله: ولا يرثني إلَاّ ابنة، في رواية الوصايا "ولم يكن له يومئذ إلا ابنة" قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصباتٌ لأنه من بني زُهرة، وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفُروض، أو خَصَّها بالذكر على تقدير "لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلاّ هي" أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة.
وهذه البنت زعم بعض العلماء أنها عائشة، فإن كان محفوظًا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث في الطب، فإنها تابعيّة عُمِّرَتْ حتى أدركها مالك وروى عنها، لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتًا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شِهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهنّ متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها أم الحكم المذكورة، لتقدم تزويج سعد بأمها. قال في الفتح: ولم أر من حرر هذا.
وقوله: أفأتَصدق بثلثي مالي؟ قال لا في رواية عائشة بنت سعد في الطب نحو هذه، وفي رواية الوصايا "أُوصي بمالي كله؟ قال: لا" فأما التعبير بقوله "أفأتصدق" فيحتمل التنجيز والتعليق، بخلاف إِفأُوصي،، لكن المخرج متحد، فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين، وقد تمسك بقوله: "أفأتصدق" من جعل تبرعات المريض من الثلث، وحملوه على المنجزة، وفيه اختلاف. وأما الاختلاف في السؤال، فكأنه سأل أولًا عن الكل، ثم سأل عن الثلثين، ثم سأل عن النصف، ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد.
وفي رواية بُكير بن مِسمار عند النَّسائيّ. كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا لهما عن محمد بن سعد عن أبيه، ومن طريق هشام بن عُروة عن أبيه عن سعد. وقوله: فقلت بالشطر؟ قال: لا، في رواية الوصايا "قلت فالشطر، قال: لا".
وقوله في هذه الرواية "فالشطرِ" بالجر عطفًا على قوله "بمالي كله" أي: فأُوصي بالنصفِ، وهذا رجحه السّهوليّ. وقال الزَّمخشريّ: هو بالنصب على تقدير فعل، أي أُسَمِّي الشطر أو أُعَين الشطر. ويجوز الرفع على تقدير: أيجوز الشطر.
وقوله: ثم قال الثلث والثلث كبير، وفي رواية الوصايا "قلت الثلث قال: فالثلث، والثلث كثير" وفي رواية الزهريّ في الهجرة "قال الثلث يا سعد، والثلث كثير" وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم "قلت فالثلث قال نعم، والثلث كثير" وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها "قال الثلث والثلث كبير أو كثير" نحو رواية الباب، وكذا للنَّسائيّ عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن سعد، وفيه "فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله، قال: فما تركت لولدك" وفيه "أُوصي بالعُشر؟ قال: فما زال يقول وأقول حتى قال أوصي بالثلث والثلث كبير أو كثير" يعني بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي، والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه.
وقوله: قال الثلثُ والثلثُ كثير، بنصب الأول على الاغراء، أو بفعل مضمر نحو عَيِّن الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو المبتدأ والخبر محذوف، والتقدير: يكفيك الثلث، أو الثلث، كاف. ويحتمل أن يكون قوله "والثلث كثير" مسوقًا لبيان الجواز بالثلث، وأَنَّ الأوْلى أن ينقص عنه ولا يزد عليه، وهو ما يبتدره الفهم. ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل، أي: كثير أجره، ويحتمل أن يكون معناه "كثيرٌ غيرُ قليل" قال الشافعيّ رحمه الله: وهذا أَوْلي معانيه، يعني أن الكثرة أمر نسبيٌ، وعلى الأوَّل عوَّل ابن عباس، حيث قال: وددت أنَّ الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع. والمعروف في مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث، وفي شرح مسلم للنّوويّ: إن كان الورثة فقراء استُحب أن ينقص منه، وإن كانوا أغنياء فلا.
وقوله: إنّك إن تَذَرَ ورثتك أغنياء، بفتح إن على التعليل، وبكسرها علي الشرطية. قال النووي: هما صحيحان، وقال القرطبيّ: لا معنى للشرط هنا، لأنه يصير لا جواب له، ويبقى خير لا رافع له. وقال ابن الجوزي: سمعنا الكسر من رواة الحديث، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد بن الخَشّاب، وقال: لا يجوز الكسر، لأنه لا جواب له، لخلو لفظ خير من الفاء وغيرها، مما اشترط في الجواب. وتُعُقِّب بأنه لا مانع من تقديره وقال ابن مالك: جزاء الشرط خيرٌ أي: فهو خير، وحذف الفاء جائز كقراءة طاوس {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قال: ومن خص ذلك بالشِّعر بعد عن التحقيق، وضيق حيث لا تضييق، لأنه كثير في الشعر قليل في غيره. وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر مما أنشده سيبويه:
من يفعل الحسناتِ الله يشكرها
أي: فالله يشكرها، وإلى الرد على من زعم أن ذلك خاص بالشعر قال: ونظيره قوله في حديث اللُّقَطَة "فإنْ جاء صاحبها وإلا استمتع" بها بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان "البينة وإلا حَدٌّ في ظهرك".
وقوله: ورثتك، قال ابن المنير: إنما عبّر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة، ولم يقل "إن تدع بنتك" مع أنه لم يكن له حينئذ إلَاّ ابنة واحدة، لكون الوارث لم يتحقق، لأن سعدًا إنما قال بذلك بناء على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله، فأجاب عليه الصلاة والسلام بكلام كُلّي مطابق حالة، وهو قوله "ورثتك"، ولم يخص بنتًا من غيرها.
وقال الفاكهانيّ في شرح العمدة: إنما عبر عليه الصلاة والسلام بالورثة، لأنه اطَّلع على أن سعدًا سيعيش، وتأتيه أولاد غير البنت المذكورة، فكان كذلك. وولد له بعد ذلك أربعة بنين لا أعرف أسماءهم، وليس قوله "إن تدفع بنتك" متعينًا، لأن ميراثه لم يكن منحصرًا فيها، فقد كان لأخيه عُتبة بن وقّاص أولاد إذ ذاك، منهم هاشم بن عتبة الصحابيّ الذي قُتل بصفين، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت، وغيرها. فمن يرث، لو وقع موته إذ ذاك، أو بعد ذاك.
وقول الفاكهانيّ: إنه ولد له بعد ذلك أربعة لا أعرف أسماءهم فيه قصور، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم، من طريق عامر ومصعب ومحمد، ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، واقتصر القرطبيّ، على ذكر الثلاثة المذكورة في الحديث، وذكر بعض الشيوخ أن له أربعة من البنين غير الثلاثة، وهم عمر ويحيى وإبراهيم وإسحاق وعزا ذكرهم لابن المَدِينيّ، ولعل ابن المدينيّ اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم، وإلا فقد ذكر له ابن سعد من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة، وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمر وعمران وصالح
وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعُمير مصغرًا، وغيرهم. وذكر له من البنات اثنتي عشرة بنتًا.
وقوله: عالة، أي فقراء، جمع عال وهو الفقير، والفعل منه عال يعيل،، إذا افتقر. وقوله: يتكففون الناس، في رواية الوصايا زيادة "في أيديهم" أي: يسألون الناس بأكفهم، يقال: تكففَ الناس واستكفَّ إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل كفًا كفًا من طعام.
وقوله: في أيديهم، أي: بأيديهم، أو سألوا بأكفهم، وضع المسؤول في أيديهم. وقوله: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك، وفي رواية الوصايا "وإنك مهما انفقت فإنها صدقة" وهذا معطوف على قوله "إنك إن تدع" وهو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث، كأنه قيل: لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت تصدقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك في الحالين، ووجه تعلق قوله:"وإنك لن تنفق نفقة" الخ بقصة الوصية، أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر، فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث: قال له على سبيل التسلية: إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة، ومن نفقة، ولو كانت واجبة، تُوجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعله خص المرأة بالذكر لأن نفقتها مستمرة بخلاف غيرها. قال ابن أبي جَمرة: نبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان. قال: ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية، لأن الإنفاق على الزوجة واجب، وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله تعالى، ازداد أجره بذلك.
وقال ابن دقيق العبد فيه: إن الثواب في الانفاق مشروط بصحة النية، وابتغاء وجه الله تعالى، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله تعالى، ويحصل تخليص هذا المقصود مما يشوبه. قال: وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أُدِّيَتْ على قصد أداء الواجب، ابتغاء وجه الله تعالى، أُثيب عليها، فإن قوله "حتى ما تجعل في في امرأتك "لا تخصيص له بغير الواجب" ولفظه "حتى" هنا تقتضي المبالغة. في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال: جاء الحاجُّ حتى المشاة.
وقد مرَّ الكلام على ما تشترط فيه النية، وما لا تشترط فيه، عند حديث إنما الأعمال بالنيات، ومرَّ استيفاء الكلام على هذه الجملة من هذا الحديث مستوفىً، عند ذكرها في باب "ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة" آخر كتاب الإيمان. وقوله: قلت يا رسول الله أخلَّف بعد أصحابي، يعني الموت بمكة، وقوله: إنك لن تخلف فتعمل عملًا صالحًا إلا ازددت به درجة، معنى التخلف هنا البقاء في الدنيا، فليس بمعنى الأول، فهو شبيه بأسلوب الحكيم، وبيّن المراد منه بقوله "فتعمل عملًا صالحًا"، لأن العمل الصالح لا يكون إلا في الدنيا، وإنما صدر هذا السؤال من سعد مخافة
المقام بمكة إلى الوفاة، فيكون قادحًا في هجرته، كما نص عليه في بعض الروايات كما يأتي، إذ قال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، فأجابه عليه الصلاة والسلام بأنّ ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره.
وفي رواية الوصايا "وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها" وهذه الجملة يحتمل أن تكون حالًا من الفاعل في قوله قبله "جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني" أو من المفعول في "يعودني" وكل منهما محتمل، لأن كلًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سعد، كان يكره ذلك، لكن إن كان حالًا من المفعول، وهو سعد، ففيه التفات، لأن السياق يقتضي أن يقول: وأنا أكره.
وقد أخرجه مسلم عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد، بلفظ "فقال: يا رسول الله، خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة" وسبب كراهيتهم للموت في دار الهجرة هو أن المهاجر من مكة رخص في إقامة ثلاث ليال بمكة بعد الصَّدر، أي الرجوع من مني، كما أخرجه البخاريّ في الهجرة إلى المدينة، ويحرم على المهاجر منها قبل الفتح أزيد من ثلاث ليال فيها. واستنبط من هذا أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وقيد الداوديّ اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين.
وقال النّوويّ: معنى الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عِياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة بعد فتح مكة، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه. قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سُكْنى المدينة كان واجبًا، لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أرادوا سواء مكة وغيرها، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة.
وقال القرطبيّ: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يعني به من هاجر من غيرها، لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تَحَرَّجُوا من الإقامة بمكة، إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة.
والخلاف الذي أشار له عياض: هل ينبني عليه الخلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركَها لله، كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه ليَسْلَم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك، وهو حسن متجه، إلا أنه خَص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك.
وقد استوفيت الكلام على أحكام الهجرة عند حديث إنما الأعمال بالنيات، وقوله: ثم لعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام، ويضرَّ بك أخرون، وفي رواية الوصايا "وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون" فمعنى قوله "ولعلك أن تخلف، وعسى الله أن يرفعك" يطيل عمرك، وكذلك حصل، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين، لأنه مات سنة خمس وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين أو ثمانيًا وأربعين.
وقوله: فينتفع بك أقوام، أي: ينتفع بك المسلمون من الغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويُضَرَّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه، كالقادسية وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي ومن معه، وهو كلام مردود، لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده. وقد وقع منه هو الضرر المذكور للكفار.
وأقوى من ذلك ما رواه الطحاويّ عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فقال: لما أُمِّر سعد على العراق أُتِي بقوم ارتدوا فاستتابهم، فتاب بعضهم وامتنع بعضهم، فقتلهم فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين.
قال بعض العلماء: لعل، وإن كانت للترجي، لكنها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالبًا. قلت قد مرَّ في مقدمة هذا الشرح الفرق بين لعل وعسى، وأن عسى في كلام الله ما تدخل عليه محقق الوقوع، ولا كذلك لعل، لقوله تعالى {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فلم يتذكر ولم يخشَ فراجعه.
وقوله: لكن البائس سعد بن خولة، وللنَّسائيّ عن عامر بن سعد "لكن البائس سعد بن خولة، مات في الأرض التي هاجر منها" والبائس الذي ناله البؤس، أي: الفقير والعَيْلة، وقد يكون بمعنى مفعول، كقوله عيشة راضية، أي: مَرْضِيّة. وقال بعضهم في اسمه خُوْلِيّ بكسر اللام وتشديد التحتانية، واتفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسيّ فتحها، ويأتي تعريفه في السند.
وقوله: يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البَر: زعم أهل الحديث أن قوله يرثي إلخ من كلام الزُّهريّ، وقال ابن الجوزيّ وغيره. هو مدرج من قول الزهريّ، وكأنهم استندوا إلى ما في رواية أبي داود الطياليسيّ عن إبراهيم بن سعد عن الزهريّ أن القائل "يرثي له" إلى آخره، هو الزهريّ، ويؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد، فلم يذكرا ذلك
فيه، وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب، لكن وقع عند المصنف في الدعوات عن إبراهيم بن سعد في آخره "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم" الخ، فهذا صريح في وصله، فلا ينبغي الجزم بإدراجه.
وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب من الزيادة "ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي وبطني، ثم قال اللَّهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها" ولمسلم عن حميد بن عبد الرحمن "قلت: فادع الله أن يشفيني، فقال: اللهم اشف سعدًا، ثلاث مرات" وقوله: أن مات بمكة، أي بفتح همزة أن، لا يصح كسرها، لأنها تكون شرطية، والشرط لما يستقبل، وهو قد كان مات، والمعنى أن سعد بن خَولة هو من المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها، وتركوها مع حبهم فيها، لله تعالى، فمن ثمَّ خشيَ سعد بن أبي وقاص أن يموت فيها، وتوجع النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات فيها.
وفي رواية الوصايا بدل "لكن البائس سعد بن خولة""يرحم الله ابن عفراء"، ووقع في رواية أحمد والنَّسَائيّ عن سفيان "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله سعد بن عفراء، ثلاث مرات". قال الداوديّ "قوله ابن عفراء" غير محفوظ، وقال الدمياطيّ: هو وهم، والمعروف ابن خولة. قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم، فإن الزهريّ أحفظ منه، وقال فيه سعد بن خولة كما مرَّ.
وجوز أبو عبد الله بن أبي الخصال في حواشيه على البخاريّ أنّ المراد بابن عفراء عوف بن الحارث، أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء، وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر: ما يُضحك الرب من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدو حاسرًا، فألقى الدرع التي هي عليه، فقاتل حتى قتل. قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت، وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات ذكر ابن عفراءَ وحبه للموت، ورغبته في الشهادة، كما يذكر الشيء بالشيء، فذكر سعد بن خولة، لكونه مات بمكة، وهي دار هجرته، وذكر ابن عفراء مستحسنًا لميته ..
وهو مردود بالنص على قوله "سعد بن عفراء"، فانتفى أن يكون المراد عوفًا، وأيضًا فليس في شيء من طرق حديث ابن أبي وقّاص أنه كان راغبًا في الموت، بل في بعضها عكس ذلك، وأنه بكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة.
وهو عند النسائي أيضًا كما مرَّ، فمخرج الحديث متحد، والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيد لو صرح بأنه عوف بن عفراء، فضلًا، وقال التيميّ: يحتمل أن يكون لأمه اسمان خولة وعفراء.
ويحتمل أن أحدهما اسمًا والآخر لقبًا أو يكون أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه، أو والآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه، والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خَوْليّ.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم، مشروعيةُ زيارة المريض للإمام فمن دونه، ويتأكد باشتداد المرض، وفيه وضع اليد على جبهة المريض، ومسح العضد الذي يؤلمه، والفسح له في طول العمر، وجواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه، إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره من التَّبَرُّم وعدم الرضا، بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء، وربما أستحب، وأنّ ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر والمحمود، وإذ جاز ذلك في أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز.
وأن أعمال البر والطاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه، قام غيره في الثواب والأجر مقامه، وربما زاد عليه، وذلك أن سعدًا خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها، فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره عليه الصلاة والسلام بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملًا صالحًا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى.
قلت: إنما يتم هذا الأخذ لو كان سعد فاته شيء من الأجر في جهة دار هجرته، وهو لم يفته شيء، فلا معنى لهذا الأخذ.
وفيه إباحة جمع المال بشرطه، لأن التنوين في قوله "وأنا ذو مالٍ" للكثرة، وقد وقع في بعض طرقه صريحًا "وأنا ذو مال كثير". وفيه الحث على صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، والإنفاق في وجوه الخير، لأن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة، وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية، وهو وضع اللقمة في فم الزوجة، إذ لا يكون ذلك غالبًا إلا عند الملاعبة والممازحة، ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصدًا صحيحًا، فكيف بما هو فوق ذلك؟
وفيه منع نقل الميت من بلد إلى بلد، إذ لو كان ذلك مشروعًا لأمر بنقل سعد بن خولة، قاله الخطّابيّ. قلت: في هذا الأخذ نظر، لأن النقل قد يندب إذا كان لمن ترجى بركته، بحيث لا ينفجر ولا تنتهك حرمته، بأن لا يكون المحل المنقول إليه بعيدًا. وقد مات سعد بن أبي وقّاص في قصره بالعَقيق، وحمل إلى البقيع، ولعل عدم نقل سعد بن خولة كان لبعد المسافة.
وفيه سد الذريعة، لقوله عليه الصلاة والسلام "ولا تردهم على أعقابهم" لئلا يتذرع بالأرض أحد، لأجل حب الوطن. قاله ابن عبد البر، وفيه تقييد مطلق القرآن بالسنة، لأنه قال سبحانه وتعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فأطلق، وقيدت السنة الوصية بالثلث، وأن من ترك شيئًا لله لا ينبغي له الرجوع فيه، ولا في شيء منه، مختارًا.
وفيه التأسف على فوت ما يحصل الثواب، وفيه حيث من ساءته سيئة، وإنَّ مَن فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك، وفيه تسلية من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه، لما أشار صلى الله عليه وسلم لسعد من عمله الصالح بعد ذلك.
وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوهًا، لأن سعدًا لما منع من الوصية بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز، فاستفسر عما دون ذلك. وفيه النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشارع الواحد يعم من كان بصفته من المكلفين، لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا، وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد. ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختص بسعد، ومن كان مثل حاله، ممن يخلف وارثًا ضعيفًا أو كان ما يخلفه قليلًا، لأن البنت من شأنها أن يُطمع فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها، واستدل به التيميّ لفضل الغني على الفقير، وفيه نظر، وقد مرَّ الكلام عليه في كتاب العلم في باب الاغتباط.
وفيه مراعاة العدل بين الورثة، ومراعاة العدل في الوصية، واستدل بقوله "ولا يرثني إلا ابنة لي" من قال بالرد على ذوي الأرحام للحصر في قوله "لا يرثني إلا ابنة" وتُعُقب بأن المراد من ذوي الفروض، ومن قال بالرد لا يقول بظاهره، لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي. وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداءًا.
وفيه أنَّ من ترك مالًا قليلًا فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال للورثة، للاتفاق على أن المراد بقوله {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} المالُ، واتفقوا على أن من لم يترك مالًا لا تشرع له الوصية بالمال. وقيل: المراد بالخير المال الكثير، فلا تشرع لمن له مال قليل.
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال، انه لا يندب له الوصية. وفي نقل الإجماع نظر، فالثابت عن الزُّهريّ أنه قال: جعل الله الوصية حقًا فيما قل أو كثر، والمصرح به عند الشافعية ندبية الوصية من غير تفريق بين قليل وكثير، نعم، قال أبو الفرج السَّرْخَسِيّ منهم: إن كان المال قليلًا والعيال كثيرًا استحب له توفرته عليهم.
واختلف في حد المال الكثير في الوصية، فعن عليّ سبع مئة مال قليل، وعنه ثمان مئة مال قليل. وعن ابن عباس نحوه، وعن عائشة فيمن ترك عيالًا كثيرًا وترك ثلاثة آلاف "ليس هذا بمال كثير"، وحاصله أنه أمر نسبيّ يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وفيه جواز التصدّق بجميع المال لمن عرف بالصبر، ولم يكن له من تلزمه نفقته. ويأتي الكلام على هذه المسألة مفصلًا في باب "لا صدقة إلا عن ظهر غِنىً" من كتاب الزكاة، وفيه أن الثلث في
حد الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصية، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث.
لكن اختُلف فيمن لم يكن له وارث خاص، فمنعه الجمهور، وجوزه الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد ومالك في أحد قوليهما. وهو قول عليّ وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية، فقيدتها السنة بمن له وارث، فيبقى من لا وارث له على الإطلاق، وقد قال في الحديث "إنْ تذر ورثتك أغنياء" فمفهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد، لأنه لا يترك ورثة يخشى عليهم الفقر.
وتعقب هذا بأنه ليس تعليلًا محضًا، وإنما فيه تنبيه على الخط الأنفع، ولو كان تعليلًا محضًا لاقتضى بجواز الوصية بأزيد من الثلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بدون إجازتهم، ولا قائل بذلك، وعل تقدير أن يكون تعليلًا محضًا، فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة، فكأنه لمّا شرع الإِيصاء بالثلث وأنه لا يعترض به على الموصي، إلا أنّ الانحطاط عنه أولى، ولاسيما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبه سعدًا على ذلك.
وقد مرَّ أنّ المعروف في مذهب الشافعيّ استحباب النقص عن الثلث، وكره طائفة من أهل العلم الوصية بجميع الثلث. قال طاوس: إذا كان ورثته قليلًا، وماله كثيرًا، فلا بأس أن يبلغ الثلث، واستحب طائفة الوصية بالربع، وهو ما مرَّ عن ابن عباس. وقال: إسحاق السنة الربع، لقوله "الثلث كثير"، إلَاّ أن يكون رجل يعرف في ماله شبهة، فيجوز له الثلث.
قال أبو عمر: لا أعلم لإسحاق حجة في قوله "السنة الربع"، قلت: حجته ما ذكر من قوله "الثلث كثير"، وهو حجة ابن عباس، وقال ابن بطال: أوصى عمر بالربع، واختار آخرون السدس، وقال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يوصوا بمثل نصيب أحد الورثة حتى يكون أقل، رواه ابن أبي شَيبة بسند صحيح، وكان السدس أحب إليه من الثلث. وأوصى أنس فيما ذكره في المصنف عن ثابت عنه بمثل نصيب أحد ولده، وأجاز آخرون العُشر، وعن أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، أنه يفضل الوصية بالخُمس، وبذلك أوصى، وقال: رضيتُ لنفسي ما رضي الله لنفسه، يعني الخمس.
واستحب جماعة الوصية بالثلث، محتجين بحديث الباب، وبحديث ضعيف عن أبي هريرة مرفوعًا "جعل الله لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم". واختلفوا هل يعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت، على قولين. وهما وجهان للشافعية، أصحهما الثاني، وقال بالأول مالك وأكثر العراقيين، وقال به النخعيّ، وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني أبو حنيفة وأحمد والباقون، وهو قول عليّ رضي الله تعالى عنه.