الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسن. وقال ابن العربي؛ يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى: إعلام الأهل وأهل الصلاح والأصحاب، فهذا سنة.
الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره.
الثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك، فهذا يحرم.
قلت: مشهور مذهب مالك أن النداء به بالمسجد، أو على بابه، مكروه. وأن الإِعلام به من غير نداء في خَلْقٍ بصوت خفي، جائز. وصرح النّووِي في "المجموع" بأن نعي الميت إلى أهله مستحب، لحديث الباب، ولنعيه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، ولما يترتب عليه من المصالح فيما مرَّ.
الحديث الثامن
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
وجه دخول قصة النجاشى في الترجمة، هو كونه كان غريبًا في ديار قومه، فكان للمسلمين من حيث الإِسلام أخًا، فكانوا أخصَّ به من قرابته، ويحتمل أن يكن بعض أقرباء النجاشيّ كان بالمدينة حينئذ، ممن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشةَ، كذي مخمر ابن أخي النجاشيّ، فيكون إعلام الأهل فيه حقيقة ومجازًا.
قوله: نعى النجاشيّ، هو لقب ملك الحبشة، واسمه أصْحَمة، ويأتي في سند الحديث ما قيل في ضبط الاسمين مستوفى. وقوله: خرج إلى المصلى، فصف بهم، وفي رواية ابن ماجه "فخرج وأصحابه إلى البقيع فصفنا خلفه". والمراد بالبقيع هنا "بقيع بَطْحان" أو يكون المراد بالمصلى موضعًا معدًا للجنائز "ببقيع الغَرْقد" غير مصلى العيدين، والأول أظهر، وقد تقدم في العيدين أن المصلى كان ببطحان.
وقوله: فصف بهم، ليس فيه تعرض لكثرة الصفوف ولا لقلتها، لكن الغالب أن الملازمين له عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرًا، ولاسيما مع أمره لهم بالخروج إلى المصلى، كما في رواية جابر الآتية "فهلُمَّ فصلّوا". وفي رواية جابر "كنت في الصف الثاني".
وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تاثيرًا، ولو كان الجمع كثيرًا؛ لأن الظاهر أن
الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم، كانوا عددًا كثيرًا، وكان المصلى فضاء، ولا يضيق بهم لو صفوا فيه صفًا واحدًا، ومع ذلك فقد صفهم، وقد قال المصنف فيما يأتي "باب الصفوف على الجنازة" بصيغة الجمع، إشارة إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود وغيره عن مالك بن هبيرة مرفوعًا "منْ صلّى عليه ثلاثة صفوف فقد أَوْجَبَ"، حَسَّنَه التِّرمذيُّ، وصححه الحاكم. وفي رواية له "إلَّا غُفِر له" ولهذا كان مالك المذكور يصفُّ من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف، سواء قلوا أو كثروا.
وقال الطبريّ: ينبغي لأهل الميت، إذا لم يخشوا عليه التغير، أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف، لهذا الحديث. ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف والعدد قليل، أو كان الصف واحدًا والعدد كثير أيهما أفضل. وقوله: وكبر أربعًا، قد اختلف السلف في كونه أربعًا، فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمسًا، ورفع ذلك. وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد، فكبر خمسًا، وروى ابن المنذر وغيره عن عليّ، أنه كان يكبر على أهل بدر ستًا، وعلى الصحابة خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا. ورُوي أيضًا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثًا.
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة عن أنس، أنه كبر على جنازة ثلاثًا، ثم انصرف ناسيًا، فقالوا يا أبا حمزة: إنك كبرت ثلاثًا، فقال: صفوا فكبر الرابعة. وروى عن أنس الاقتصار على ثلاث، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عِمران بن حُدَير قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة، فكبّر عليها ثلاثًا لم يزد عليها. وروى ابن المنذر عن يحيى بن أبي إسحاق قال: قيل لأنس: إن فلانًا كبر ثلاثًا، فقال: وهل التكبير إلا ثلاثًا؟ قال مُغلطاي: إحدى الروايتين وَهْم وقال في "الفتح" بل يمكن الجمع بين ما اختلف به على أنس، إما بإنه كان يرى الثلاث مُجزئة والأربع أكمل منها، وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الأُولى؛ لأنها افتتاح الصلاة، فقد روى يحيى بن أبي إسحاق أن أنسًا قال: التكبير ثلاثًا، فقيل له: يا أبا حمزة التكبير أربعًا قال: نعم، غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة، ويأتي ذلك عنه في باب "سنة الصلاة".
قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر، قال: وذهب بكر بن عبد الله المزنيّ إلى أنه لا ينقص عن ثلاث، ولا يزاد على سبع. وقال أحمد مثله، لكن قال: لا ينقص من أربع. وقال ابن مسعود: كبَّر ما كبَّر الإِمام. قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان التكبير أربعًا وخمسًا، فجمع عمر الناس على أربع.
وروى البيهقيُّ بإسنادٍ حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبِّرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعًا
وستًا وخمسًا وأربعًا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال: يزيد في التكبير على أربع، إلا ابن أبي ليلى.
وفي المبسوط للحنفية أن أبا يوسف قال: يكبر خمسًا، وقد روى ابن أبي داود عن أبي سلمة عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعًا" قال: ولم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعًا إلا هذا، ولم يذكر حديث النجاشيّ؛ لأنّ الصلاة فيه صلاة على غائب لا على جنازة. وأجيب عن هذا بأن حكم الحاضرة يُعْلم بالأولى.
ولم يذكر التسليم هنا في حديث النجاشيّ، وذكر في حديث سعيد بن المُسَيّب رواية ابن حبيب عن مُطْرف عن مالك، واستغربه ابن عبد البر وقال: إلا أنه لا خلاف بين العلماء من الصحابة والتابعين. فمن بعدهم من الفقهاء، في السلام، وإنما اختلفوا هل هي واحدة أو اثنتان، فالجمهور على تسليمة واحدة، وهو أحد قوليّ الشافعيّ وقالت طائفة تسليمتان، وهو قول أبي حنيفة والشافعيّ. وهو قول عمر وابنه عبد الله وعليّ وابن عباس وغيرهم.
وقال الحاكم: صحت الرواية بالواحدة عن ابن عمر وعليّ وابن عباس وغيرهم، وسأل أشهبُ مالكًا: أتكره السلام في صلاة الجنازة؟ قال: لا، وقد كان ابن عمر يسلم، قال: فاستناد مالك إلى فعل ابن عمر دليل على أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يسلِّم في صلاته على النجاشى، ولا على غيره.
وفي قوله: خرج إلى المصلّى، دليلٌ على أنه لا يصلّى على الجنازة في المسجد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر بموته في المسجد، ثم خرج بالمسلمين. وهذا هو قول مالك وأبي حنيف وابن أبي ذيب، وعند أبي يوسف أن أُعِد مَسْجدٌ للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس. قال النوويّ: لا حجة فيه للحنفية، لأن الممتنع عندهم إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان خارج المسجد جازت الصلاة عليه هو، لمن داخله. وعند المالكية لا فرق بين أن يكون الميت داخل المسجد أو خارجه، إلا أن يضيق خارجه بأهله، فلا بأس أن يصلي عليها من بالمسجد بصلاة الإِمام. وعند الشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور: لا بأس بها إذا لم يخف تلويثه. واحتجوا بما أخرجه مسلم أن سعد بن أبي وقّاص، لما توفي، أمرت عائشة رضي الله تعالى عنه بإدخال جنازته المسجد حتى صلّى عليه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: هل عاب الناس علينا ما فعلنا؟ فقيل لها: نعم. فقالت: ما أسرع ما نسوا ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة سهيل بن بيضاء إلا في مسجد.
قلت: هذا الحديث فيه دلالة قوية لمن كره الصلاة عليها في المسجد، لأنه اجتهاد من عائشة، وما استدلت به دليل عليها لا لها، لأنّ كونه عليه الصلاة والسلام لم يصل على ميت في
المسجد إلا على سُهيل مع كثرة الموتى، يدل على أن الصلاة عليها في المسجد ليست من فعله الدائم، ويكون اختصاص سهيل بذلك وقع لعذر، كمطر أو اعتكاف أو غير ذلك ولذا أنكر الصحابة عليها، ولم ينظروا إلى الصلاة على سهيل لندورها، واحتج الآخرون بما رواه أبو داود عن صالح مولى التوأمة عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له" ورواه ابن ماجه بلفظ "فليس له شيء" وقال الخطيب: المحفوظ فلا شيء له. وروى فلا أجر له.
وقال ابن عبد البر: رواية "فلا أجر له" خطأ، والصحيح "فلا شيء له" قلت: فلا أجر له هي معنى فلا شيء له، فأي خطأ فيها؟ ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه بلفظ "فلا صلاة له"، ورُوي "فلا شيء عليه"، وهذه يروُّها ما مرَّ عن الخطيب وابن عبد البر، وردوا الاستدلال بهذا الحديث بأنه من رواية صالح مولى التُّوَأمة، وهو ضعيف، وتعقب هذا بأن أبا داود روى هذا الحديث وسكت عنه، فيدل على صحته عنده، أو حسنه، وبأن يحيى بن مُعين الذي هو الفيصل في هذا الباب قال: صالح ثقة، إلا أنه اختلط، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة، وممن سمع منه قبل الاختلاط ابن أبي ذيب الذي هو راوي هذا الحديث عنه.
وقال الطحاويّ: لما اختلفت الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، احتيج إلى الكشف ليعلم المتأخر منها، فيصير ناسخًا لما تقدم، فحديث عائشة إخبار عن فعله، عليه الصلاة والسلام، في حال الإباحة التي يتقدمها شيء. وحديث أبي هُريرة إخبار عن نهيه، عليه الصلاة والسلام، الذي تقدمه الإِباحة. فصار ناسخًا لحديث عائشة، وإنكار الصحابة عليها مما يؤيد ذلك.
وقال ابن بُزَيزة: استدل المالكية بحديث النجاشيّ، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمرٍ غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه صلى صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ قلت: قد قدمنا قريبًا أن حديث سهيل محتمل أيضًا لما مرَّ، ثم قال: بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإِشاعة كونه مات على الإِسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير عن ثابت والدارقطنيّ في الأفراد، والبزَّار عن حُمَيد، كلاهما عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما صلى على النجاشي، قال بعض أصحابه: صلى على عِلْجٍ من الحبشة، فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية.
وله شاهد في معجم الطبرانيّ الكبير عن وَحْشيّ بن حرب، وآخر عنده في الأوسط عن أبي سعيد، وزاد فيه "أن الذي طعن بذلك كان منافقًا" قلت: الاحتمال الذي أبداه، أرجحُ منه كونه خرج من المسجد، لكونه ليس محلًا للصلاة على الجنازة. واستدل به على مشروعية الصلاة على
الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي، وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه.
قال الشافعيّ: الصلاة على الميت دعاء له، وهو إذا كان ملففًا يصلي عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب، أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى به وهو ملفف؟ وعن المالكية والحنفية: لا يشرع ذلك، وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب منه، لا ما إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حِبّان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلًا لم يجز. قال المحب الطبريّ: لم أر ذلك لغيره، وحجته حجة الذي قبله من قصة النجاشيّ.
واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشيّ، بأمور، منها أنه كان بأرض لم يصلِّ عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابيّ: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرضٍ ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الرويانيّ من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاةَ على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر. وهذا محتمل. قال في الفتح: إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصلِّ عليه في بلده أحد، قلت: كذلك لم يقف على أنه صلى عليه أحد، وبلاده بلاد كفر، ولا يعلمون حكم الصلاة على الجنازة، ولا كيفيتها، فكيف نظن بهم الصلاة على النجاشيّ؟ فلا حاجة للإِخبار بذلك، ولا احتمال فيه.
ومن ذلك قول بعضهم: كُشِف له عنه صلى الله عليه وسلم حتى رآه، فتكون صلاته عليه، كصلاة الإِمام علي ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع، وكان مستند هذا القائل ما ذكره الواقديّ في أسبابه، بغير إسناد عن ابن عباس، قال: كُشِف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشيّ حتى رآه، وصلى عليه. ولابن حِبّان عن عِمران بن حصين "فقام، وصفوا خلفه، وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه". ولأبي عوانة عن يحيى "فصلينا خلفه، ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا".
ومن الاعتذارات أن ذلك خاص بالنجاشيّ، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب غيره، ولم يفعل ذلك بعده أحد من أصحابه، ولا صلى أحد على النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن ووري. وفي الصلاة عليه أعظمُ رغبة، فدل هذا كله على الخصوص، وقد صلى على غائب واحد، ثبت أنه طويت له الأرض حتى حضره، وهو مُعاوية بن مُعاوية المُزَنيّ. ففي "الأوسط" للطبرانيّ وكتاب "مسند الشاميين" عن أبي أُمامة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فنزل عليه جبريل، عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، إن معاوية بن معاوية المزنيّ مات بالمدينة،