الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأمر باتباع الجنائز
قال الزين بن المنير. لم يفصح بحكمه؛ لأنّ قوله: "أمرنا" أعم من أن يكون للوجوب أو للندب. وقد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه، في باب "اتباع الجنائز من الإيمان،، من كتاب الإيمان.
الحديث الثالث
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّيِّ، وَالإِسْتَبْرَقِ.
قوله: عن البراء بن عازب، أورده في المظالم عن الأشعث، فقال فيه: سمعت البراء بن عازب. ولمسلم في معاوية بن سويد قال: دخلت على البراء بن عازب، فسمعته يقول: فذكر الحديث. قوله: أَمرَنا باتباع الجنائز، قد مرَّ الآن محل الكلام عليها باستيفاء. وقوله: وعيادة المريض، قد جزم البخاريّ في كتاب المرضى بوجوبها على ظاهر الأمر بالعيادة، فقال: باب وجوب عيادة المريض. وفي حديث أبي هريرة بعد هذا "حق المسلم على المسلم خمس"، فذكر منها عيادة المريض. وفي رواية مسلم: خمس تجب للمسلم على المسلم.
قال ابن بطّال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية، كإطعام الجائع، وفك الأسير. ويحتمل أن يكون للندب، للحث على التواصل والألفة. وجزم الداوديّ بالأول، فقال: هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعضٍ دون بعض، وعن الطبريّ تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يرى حاله، وتباح فيما عدا ذلك.
وفي الكافر خلاف، قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في
الإِسلام، وأما إذا لم يطمع في ذلك فلا، والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال: الماورديّ. عيادة الذميّ جائزة، والقُربة موقوفة على نوع حُرْمة تقترن بها من جوارٍ أو قرابة.
قلت: الذمي، اليوم معدوم لا يوجد على وجه الأرض. فما من كافر إلَّا وهو محارب لا غير. ونقل النوويّ الإجماع على عدم وجوب العيادة على الأعيان، واستدل بعموم قوله في حديث أبي موسى في اللباس "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد، لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو. وهذا الأمر خارجى قد يأتي مثله في بقية الأمراض، كالمغمي عليه. وقد عقب المصنف هذا الحديث في كتاب اللباس بحديث المغمي عليه.
وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني. أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وهو عند البخاريّ في الأدب المفرد، وسياقه أتم، وأما ما أخرجه البيهقيّ والطبرانيّ مرفوعًا "ثلاثة ليس لهم عيادة، العين، والدُّمَّل، والضرس"، فصحح البيهقيّ أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير. ويؤخذ من إطلاقه أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور. وجزم الغزاليّ في "الإِحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث. واستند إلى حديثٍ أخرجه ابن ماجه عن أنس:"كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث". وهذا حديث ضعيف جدًا، تفرد به مَسْلَمَة بن عليّ، وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: حديثٌ باطل، وله شاهد عن أبي هريرة في الأوسط للطبرانيّ، وفيه راوٍ متروك أيضًا.
ويلتحق بعيادة المريض تعهده، وتفقد أحواله، والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببًا لوجود نشاطه وانتعاش قوّته. وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار. وترجمة البخاريّ في "الأدب المفرد" العيادة في الليل. وساق عن خالد بن الربيع قال: لما ثقل حُذيفة أَتَوْه في جوف الليل أو عند الصبح، فقال: أي ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، الحديث. ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له، بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانًا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة.
ونقل ابن الصلاح عن الغراوي، أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا وفي الصيف نهارًا وهو غريب. ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض، أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة، كما جاء في حديث جابر حين كان مُغْمىً عليه، فلا بأس. وقد نظم شيخنا عبد الله أداب العيادة فقال:
يكمُلُ أجرُ عائدٍ إن أبدى
…
شفقة، وللدعاء أسدى
وقلةُ الجلوسِ والسؤالِ
…
وعدمُ التقنيطِ في المقالِ
وعدمُ النظر في المسكن مع
…
وضع يدٍ على جبينِ ذي الوجعْ
أو يده، أفاد ذا أبو الحسن
…
على الرسالة جزاهُ ذو المِنن
وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد. منها عند مسلم والترمذيّ حديث ثويان "أن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة. والخُرفة بضم الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء، هي الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوز، الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بهاهنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة. والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من هذا الوجه، وفيه: قلت لأبي قُلابة: ما خرفة الجنة؟ قال: جناها. وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاري أيضًا عن عمر بن الحكم عن جابر رفعه "من عاد مريضًا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها" وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبّان والحاكم، وألفاظهم فيه مختلفة. ولأحمد نحوه عن كعب بن مالك بسند حسن.
وقوله: "وأجابة الداعي" الإِجابة مصدر أجاب إجابة وأصلها إجوابًا، حذفت الواو وعوض عنها التاء، والاجابة والاستجابة بمعنى، والداعي من دعا يدعو دعوة، والدعوة بالفتح إلى الطعام، وبالكسر في النسب، وبالضم في الحرب. قال النوويّ: وعَكَسَ بنو تَيْم الرباب ففتحوا دال دَعوة النسب، وكسروا دال دعوة الطعام، وما نسبه لبني تيم الرباب نسبه صاحبا الصحاح والمحكم لبني عدي الرباب، والولائم ثمانية يأتي تحريرها إن شاء الله تعالى قريبًا.
وقد نقل ابن عبد البر ثُمّ عِياضٌ ثم النووي، الاتفاقَ على وجوب الإجابة لوليمة العرس، وفيه نظر، نعم، المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين. ونص عليه مالك. قلت: وهو المعتمد في مذهبه، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخميّ من المالكية أنه المذهب. قلت: هذا غير صحيح، بل المذهب الوجوب كما مرَّ، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنة، وليست فرضًا كما عرف من قاعدتهم. وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد أن محل ذلك إذا عمت الدعوة، أما لو خص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين، وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفًا حرًا رشيدًا، وأن لا يظهر قصد التودد لشخصٍ بعينه لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلمًا على الأصح، وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وأن لا يسبق، فمن سبق تعينت إجابته دون الثاني، وإن جاءا معًا قدم الأقرب رحمًا على الأقرب جوارًا على الأصح، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذى به من منكر وغيره، وأن لا يكون له عذر.
وضبطه الماورديّ بما يرخص به في ترك الجماعة، وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، ففي البخاريّ عن أبي هريرة "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم" وقوله: يدعى لها الأغنياء أي: أنها تكون شرّ الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود: إذا خص الغني وترك الفقير أمرنا أن لا نجيب. قال ابن بطال: وإذا مَيَّز الداعي بين الأغنياء والفقراء فأطعم كلًا على حدة، لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر، وقال البيضاوي "من" في قوله:"شر الطعام .. " مقدرة كما يقال شر الناس من أكل وحده، أي: من شرهم، وإنما سماه شرًا لما ذكر عقبه، فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا.
وقال الطَّيِّب: اللام في الوليمة للعهد الخارجي، إذ كان من عادة الجاهلية أن يدعوا الأغنياء ويتركوا الفقراء. وقوله: ومن ترك الخ، حال، والعامل يدعى، أن يدعي الأغنياء، والحال أن الإِجابة واجبة، فيكون دعاؤه سببًا لأكل المدعو شر الطعام، ويشهد له ما رواه ابن بطال أن ابن حبيب روى عن أبي هريرة أنه كان يقول: أنتم العاصون في الدعوة تدعون من لا يأتي، ولا تدعون من يأتي. يعني بالأول الأغنياء وبالثاني الفقراء. وهذا كله في وليمة العرس. وأما الدعوة في غير العرس، فقد أخرج مسلم وأبو داود عن نافع "إذا دعا أحدكم أخاه فليجبْ، عرسًا أو نحوه" ولمسلم عن نافع "من دُعي إلى عرس ونحوه فليجب" وهذا يؤيد ما رواه البخاريّ عن ابن عمر أنه كان يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم، فإنه فهم أن الأمر بالإِجابة لا يختص بطعام العرس، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعية، فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عرسًا كان أو غيره، بشرطه المتقدم، ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ قاضي البصرة. وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويعكر عليه ما في مسند أحمد عن عثمان بن أبي العاص، وهو من مشاهير الصحابة في وليمة الختان، لم يكن يدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه، بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعوا.
وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه دعا لطعام، فقال رجل من القوم: اعفني. فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا فقم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسندٍ صحيح عن ابن عباس أن ابن صفوان دعاه، فقال: إني مشغول، وإن لم تعفني جئت. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكيةُ والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسيّ منهم، فنقل فيه الإِجماع، ولفظ الشافعيّ: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعي إليها الرجل وليمة، فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين لي أنه عاصٍ في تركها كما مرَّ. تبين لي في وليمة العرس وما مرَّ عن المالكية هو المشهور، ونقل عَلِيّ الأجهوريّ تفصيلًا، فقال: إن الإتيان لجميع الولائم مكروه إلا لوليمة العرس فيجب، وطعام المولود فيندب. وقال ابن رشيد: يباح الإِتيان لكلها إلا لعرس فواجب، أو دعوة المأدبة فمندوب إذا فعلت لقصد المودة لا للفخر، وإن فعلت له كره إتيانها. ونظم هذا على الأجهوريّ فقال:
ويكره إتيانٌ لكل سوى التي
…
لعرسٍ، ومولودٍ بُعيد نفاس
فَيُنْدَبُ في الثاني الحضور وفي
…
الوليمة أوجب لا تكون بناس
وقال ابن رشيدٍ بل يُباح لكلها
…
سوى عرسٍ أو مأدبات أناس
إذا فُعلت لا للفخار وإن له
…
فيكره، فأتِ فاجْنِ طيب غراس
ومأدبةٌ للجارِ قصدُ مودةٍ
…
ففيها أتى ندبًا حضورُ مُواسِ
وعليّ الأجهوري نظم هذه الأبيات تذييلًا لأبيات نظمها بَهرام، جمع فيها أسماء الأطعمة المتقدم أنها ثمانية ونظمه:
ثمانيةُ أسماءِ أطعمةٍ أتَتْ
…
عن العرب نقلًا لا ترى بقياسِ
وليمةُ عرسٍ ثم اعذار خاتنٍ
…
نَقِيعةُ سَفْرٍ، ثم خُرْسُ نفاس
ومأدبةٍ في دعوةِ، ووَكيرةٍ
…
لبناء مَحْكمٍ بأساس
عقيقةُ مولودٍ كذاك حِذَاقه
…
إذا حذقه حاذي وقيت لباس
وحيث إن الكلام انجر إلى ذكرها أردت أن أتمم الكلام عليها، فأقول: الوليمة مختصة بطعام العرس على قول أهل اللغة. وقال صاحب المحكم: الوليمة طعام العرس والإِملاك. وقيل: كل طعامٍ صنع لعرس أو غيره، وقال عياض في "المشارق": الوليمة طعام النكاح وقيل الإِملاك وقيل طعام العرس خاصة وقال الأزهريّ: الوليم مأخوذة من الولم، وهو الجمع وزنًا ومعنى؛ لأن الزوجين يجتمعان. وقال ابن الأعرابي: أصلها من تتميم الشيء، واجتماعه. وجزم الماوردي ثم القرطبيّ بأنها لا تطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة. وقال الشافعيّ وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختانٍ أو غيرهما. لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتُقَيّد في غيره، فيقال: وليمة الختان وغيره، وقيل: الوليمة خاصة بطعام الدخول، وطعام الإِملاك يسمى الشُّنْدَخُ، بضبم المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة، وقد تضم وآخره خاء معجمة، مأخوذ من قولهم فرسٌ شندخ، أي: يتقدم غيره. سمي طعامُ الإِملاك بذلك لأنه يتقدم الدخول.
وأغرب في التدريب فقال: الولائم سبع:
وليمة الإِملاك: وهو التزوج، ويقال لها النّقِيعة بنون وقاف". ووليمة الدخول، وهو العرس، وقلَّ من غاير بينهما، ووجه إغرابه تسميته وليمة الإِملاك نقيعة، وقد شذ في ذلك، ويأتي قريبًا تفسير النقيعة.
الثاني: الإِعذار بعين مهملة وذال معجمة للختان والعقيقة للولادة.
والخرس، بضم المعجمة وسكون الراء وسين مهملة، لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: هو طعام الولادة.
والعقيقة: تختص بيوم السابع.
والنقيعة لقدوم المسافر، مشتقة من النقع، وهو الغبار.
والغيرة للسَّكَن المتجدد، مأخوذة من الوَكْر، وهو المأوى والمستقر.
والوضيحة، بضاد معجمة، لما يتخذ عند المصيبة.
والمأدُبة لما يتخذ بلا سبب، ودالها مضمونة ويجوز فتحها، والإِعذار، يقال فيه: العُذْرة، بضم ثم سكون.
والخرس، يقال فيه أيضًا بالصاد المهملة بدل السين، وقد تزاد في آخرها هاء، فيقال خُرْسَةٌ.
واختلف في النقيعة هل التي يصنعها القادم من السفر أو تصنع له، قولان، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التُّحْفَة، وفي المأدبةِ تفصيل؛ لأنها إن كانت لقوم مخصوصين فهي النَّقَرَى، بالتحريك مقصور، وإن كانت عامة فهي الجَفَلَى بجيم وفاء بوزن الأولى قال الشاعر طرفة بن العبد:
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى
…
لا ترى الآدب فينا ينتقر
وصف قومه بالجود وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عمومًا لا خصوصًا، وخص الشتاء لأنها مظنة قلة الشيء، وكثرة احتياج من يدعى. والأدب اسم الفاعل من المادبة، وينتقر مشتق من النَّقَرَى.
والحِذاق بكسر المهملة وتخفيف الذال المعجمة آخره قاف، الطعام الذي يصنع عند حذق الصبي. وقال ابن الرفعة: هو الذي يصنع عند الختم، أي ختم القرآن، كذا قيده، ويحتمل ختم قدر مقصود منه، ويحتمل أن يطرد ذلك في حذقه لكل صناعة.
وذكر المحاملي في الولائم العَتيدة على وزن فَعِيلة، وهي شاةٌ تذبح في أول رجب، وَتُعُقِّعب بأنها في معنى الأضحية، فلا معنى لذكرها في الولائم، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكمها في أواخر العقيقة.
وقوله: "ونصر المظلوم" هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع، وهو الراجح، ويتعين أحيانًا على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا
يفيد سقط الوجوب، وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالمًا يكون الفعل ظلمًا، ويقع النصر مع وقوع الظلم، وهو حينئذٍ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه، كمن أنقذ إنسانًا من يد إنسان طالبه بمال ظلمًا وهدَّده إن لم يبذله، وقد يقع بعد، وهو كثير، وهو داخل في حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتراعى فيه شروطه المذكورة عند باب "الدين النصيحة" من كتاب الإِيمان.
وقوله: وإبرار "القسم" الإِبرار، بكسر الهمزة، إفعال من البر، خلاف الحنث، يقال: أبَرّ القسم إذا صدقه، ويروى إبرار المُقسم، بضم الميم وكسر السين، على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها، أي: الإِقسام، والمصدر قد يأتي باسم المفعول نحو: أدخلته مُدْخلًا، وأخرجته مُخْرَجًا بمعنى الإِدخال والإخراج. معنى الإِبرار أن يفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارًا.
وقوله: "ورد السلام" في رواية الاستئذان "وإفشاء السلام" ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءَه جوابًا، وقد اختلف في معنى السلام فنقل عِياض أن معناه اسم الله، أي كلاءة الله وحفظه عليك، كما يقال: الله معك، ومصاحبك، وقيل معناه: أن الله مُطَّلع عليك فيما تفعل. وقيل: معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض الفساد عنها وقيل: معناه السلامة كما قال تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وكما قال الشاعر:
تحيى بالسلامة أمُّ عمرو
…
وهل لي بعد قومي من سلام
فكأَن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه، وأنه لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد: يطلق بإزاء معان منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى. قال: وقد يأتي بمعنى التحية محضًا، وقد يأتي مترددًا بين المعنيين، كقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} فإنه يحتمل التحية والسلامة. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وقد نقل ابن عبد البرّ الإِجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، وقال المازريّ: ابتداء السلام سنة، ورده واجب، هذا هو المشهور عند أصحابنا وهو من عبادات الكفاية. وأشار بقوله:"المشهور" إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية.
وقد نقل عياض عن القاضي عبد الوهاب أنه قال لا خلاف أن ابتداء السلام سنة، أو فرض على الكفاية، فإن سلّم واحدٌ من الجماعة أجزأ عنهم. قال عياض: معنى أنه فرض على الكفاية مع نقل الإِجماع على أنه سنة، أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية، وقد اتفق العلماء على أن الرد واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال: يجب الرد على كل فَرْدٍ فَرْد واحتج له بحديث
أبي هريرة في الاستئذان في رد الملائكة على آدم عليه السلام، فإن فيه "فقالوا: السلام عليك" وتعقب بجواز أن يكون نسب إليهم، والمتكلم به بعضهم، واحْتُج له أيضًا بالاتفاق على أن من سلّم على جماعة فردَّ واحد من غيرهم لم يجز عنهم، وتعقب بظهور الفرق، واحتج للجمهور بحديث علي، رفعه، "يجزي عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم واحد عنهم، وعن الجلوس أن يُراد أحدهم". أخرجه أبو داود والبزار بسند فيه ضعف، لكنْ له شاهد عن الحسن بن عليّ عند الطبرانيّ، وفي سنده مقال، وآخر مرسل في الموطأ عن زيد بن أسْلم.
واحتج ابن بَطَّال بالاتفاق على أن المبتدىء لا يشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلم عليهم، كما في سلام آدم في الحديث المذكور، وغيره من الأحاديث، قال: فكذلك لا يجب الرد على كل فرد إذا سلم الواحد عليهم. واحتج الماورديّ بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز.
وقال الحليميّ: إنما كان الرد واجبًا؛ لأنّ السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه، فإنه يتوهم منه، فيجب عليه دفع ذلك التوهم. قلت: ليس فيما قاله دليل على أبي يوسف، بل كلامه دليل له، لأنّ الذي لم يرد السلام من الجماعة، قد يتوهم منه ذلك. وقال القاضي حسين: لا يجب رد السلام على من سلم عند قيامه إذا كان سلَّم حين دَخَل، ووافقه المتوليّ، وخالفه المُسْتَظْهريّ فقال: السلام سنة عند الانصراف، فيكون الجواب واجبًا. قال النّوويّ: هذا هو الصواب. قلت: هذا هو مذهب مالك، ونظمه بعض علماء المذهب فقال:
تسليم الانصراف واللقاء
…
سيّان في الرد والابتداء
فالابتدا يُسَنُّ في كليهما
…
والرد في كليهما تَحَتَّما
وهو الذي في الحديث الذي أخرجه النسائيّ، عن أبي هُريرة مرفوعًا "إذا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام فليسلم"، فليست الأولى أحق من الآخرة. وللفظ الذي يبتدأ به السلام، والذي يجاب به، هو ما في حديث آدم أول الاستيذان، ففيه أن الله تعالى قال له:"اذهب فسلِّم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتُك، وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فزادوه "ورحمة الله". وفي رواية" فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، وقول آدم: السلامُ عليكم، قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الله علَّمه كيفية ذلك تنصيصًا، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله له "فسلِّم"، ويحتمل أن يكون ألهمه ذلك.
ويؤيد الأخير الحديث الذي أخرجه ابن حِبّان في حَمْد العاطس عن أبي هُريرة، رفعه، "أن آدم لما خلقه الله عطس فألهمه الله أن قال الحمد لله" فلعله أيضًا ألهمه صفة السلام، واستدل به
على أن هذه الصيغة هي المشروعة في ابتداء السلام، لقوله:"فهي تحيتك وتحية ذريتك"، ولو حذف اللام، فقال: سلام عليكم أجزأ .. قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . وقال تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وقال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} ، إلى غير ذلك، لكنْ باللام أولى؛ لأنها للتفخيم والتكثير. وثبت في حديث التشهد السلام عليك أيها النبيّ" واستدل بقوله في حديث آدم "فقالوا السلام عليك" لمن يقول يجزىء في الرد أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به، وقيل أيضًا يكفي الرد بلفظ الإفراد، وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن قُرَّة بن إياس المُزَنيّ الصحابيّ، "إذا مرَّ بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام، فتخصه وحده، فإنه ليس وحده" وسنده صحيح، ومن فروعه، لووقع الابتداء بصيغة الجمع، فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد؛ لأنّ صيغة الجمع تقتضي التعظيم، فلا يكون امتثل الرد بالمثل، فضلًا عن الحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد.
وقوله: "في الحديث السابق" فزادوا "ورحمة الله" فيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء، وهو مستحب بالاتفاق، لوقوع التحية في ذلك في قوله:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ولو زاد المبتديء "ورحمة الله" استحب أن يزاد "وبركاته" فلو زاد "وبركاته" فهل تشرع الزيادة في الرد؟، وكذلك لو زاد المبتديء على "وبركاته" هل يشرع له ذلك؟ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال: انتهى السلام إلى البركة. وأخرج البيهقي، في الشعب عن عبد الله بن بأبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومغفرته، فقال: حسبك إلى "وبركاته" انتهى إلى "وبركاته"، ومن طريق زهْرة بن مَعْبَد قال: قال عمر: انتهى السلام إلى "وبركاته".
ورجاله ثقات، وجاز عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضًا في الموطأ عنه، أنه زاد في الجواب "والغاديات والرائحات" وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن نافع مولى ابن عمر قال: كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم أتيته، فزدت "وبركاته"، فردّ وزادني "وطيَّب صلواته". وعن زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية: السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله ومغفرته وطيب صلواته.
ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن شد أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدىء. وأخرج أبو داود والتِّرْمِذِيّ والنَّسائي بسند قوي عن عمران بن حَصِين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه، وقال: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، وقال: عشرون، ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال: ثلاثون. وأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عن أبي هُريرة، وصححه ابن حِبّان وقال: ثلاثون حسنة. وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود، وعند أبي نُعيم، في عمل يوم وليلة،
عنِ عليّ رضي الله تعالى عنه أنه هو الذي وقع له ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج الطبراني عن سَهْل بن حُنيف بسند ضعيف رفعه "من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كُتِبِت له ثلاثون حسنة".
وأخرج عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ عن أبيه بسند ضعيف نحو حديث عمران، وزاد في آخره "ثم جاء آخر، فزاد ومغفرته، فقال: أربعون" وقال: هكذا تكون الفضائل. وأخرج ابن السنيّ في كتابه بسند واهٍ عن أنس قال: "كان رجل يمر فيقول: السلام عليك يا رسول الله فيقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه". وأخرج البيهقيّ في الشعب بسند ضعيف أيضًا عن زيد بن أرقم "كنا إذا سلَّم علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته". وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت، قَوِيَ ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على "وبركاته"، واتفقوا على أن من سلّم لم يجزي في جوابه إلَّا السلام، ولا يجزي في جوابه "صبحت بالخير" أو "بالسعادة" ونحو ذلك.
واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام، هل يجب جوابه أم لا، وأقل ما يحصل به وجوب الرد أن يسمع المبتدىء، وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإِشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه التِّرْمذي، عنن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رفعه "لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارُة بالإِصبَع، وتسليم النصارى بالأكف". قال الترمذيّ: غريب. قال صاحب الفتح: في سنده ضعف. لكن أخرج النسائي بسندٍ جيد عن جابر، رفعه "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإِشارة". قال النوويّ: لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد "مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم" فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإِشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ "فسلّم علينا"، قلت: الذي يظهر لي في الجواب عن حديث أسماء، أنه عليه الصلاة والسلام ترك السلام عليهن لكونهن أجنبيات، ولم يعدمهن منه إحسانًا، فأشار إليهن بيده، ولعل هذا هو مستند المالكية في كراهية السلام على الأجنبية. وقد مرَّ في باب إطعام الطعام استيفاء الكلام على ذلك.
والنهي عن السلام بالإِشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسًا وشرعًا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام، كالمصلي والبعيد، والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية، وقال ابن دقيق العيد الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب، وليس بمكروه، إلا أن يقصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم، من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد، لم يعد جوابًا. قاله القاضي حسين وجماعة: وكان محله إذا لم يكن عذر ويجب رد جواب السلام في
الكتاب، ومع الرسول.
ولو سلم الصبيّ على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبيّ فأجاب أجزأ عنهم في وجه، وعند المالكية لا يُكتفى برد صبي، عن البالغين لعدم خطابه هو بالرد، ويجب رد سلامه. وقيل: إنه يُكتفى برده، ويجب على الرسول تبليغ السلام المرسل معه، إن التزم تبليغه، وإن لم يلتزمه لم يلزمه شيء، ويلزمه الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ. كما أخرجه النَّسائيّ عن رجل من بني تميم أنه بلَّغ النبيّ صلى الله عليه وسلم سلام أبيه، فقال:"وعليك وعلى أبيك السلام".
وقد جاء في حديث خديجة لما بلَّغها النبيّ، صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، سلامَ الله تعالى عليها، "إن الله هو السلام، ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام". ولم يوجد في شيء من طرف حديث عائشة حين بلّغها عليه الصلاة والسلام السَّلام من جبريل، أنها ردت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما ردت على جريل، فيدل على أنه غير واجب، ومشهور مذهب مالك وجوب الرد حينئذ، كما قال الناظم:
تبليغُك السلامَ إن تلتزم
…
تبليغَه للغير ذو تَحَتُّمِ
وردُّه بالعَور إنْ أتاكَ
…
مع رسولٍ واجبٌ، كذاك
وقد اختلف في الرد على أهل الذمة. قال ابن بطال: قال قوم: رد السلام على أهل الذّمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال:"من سلم عليك فرد عليه، ولو كان مجوسيًا" وبه قال الشعبيّ وقتادة، ومنع من ذلك مالك والجمهور. وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين، فلا يرد السلام على كافر مطلقًا، فإن أرادَ مُنِعَ الردُّ بالسلام، وإلا فالأحاديث ترد عليه، فأخرج البخاريّ عن ابن عمر "إذا سلم عليك اليهود، فإنما يقول: أحدهم السَّام عليك، فقل: وعليك" وأخرج عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم".
وقد اختلف العلماء في إثبات الواو وإسقاطها في الرد على أهل الكتاب، لاختلافهم في أي الروايتين أرجح، فذكر ابن عبد البر عن ابن حبيب لا يقولها بالواو؛ لأن فيها تشريكًا، وبيان ذلك أن الواو في مثل هذا لتركيب تقتضي تقرير الجملة الأولى وزيادة الثانية عليها، كمن قال: زيدٌ كاتبٌ، فقلت: وشاعر، فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد.
فقال: وخالفه جمهور المالكية، وقال بعض شيوخهم: يقول: عليكم السلام، بكسر السين، يعني الحجارة، ووهَّاه ابن عبد البر بأنه لم يشرع لناسب أهل الذمة، ويؤيده إنكار النبي صلى الله عليه وسلم، على عائشة لما سبَّتهم، وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: علاكم السلام، بالألف، أي: ارتفع.
وتعقبه وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يُقال في الرد عليهم: عليكم السلام، كما
يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} وحكاه الماورديّ وجهًا عن بعض الشافعية، لكن لا يقول: ورحمة الله، وقيل: يجوز مطلقًا، وعن ابن عباس وعلقمة يجوز ذلك عند الضرورة، وعن الأوزاعيّ إنْ سلَّمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا. وعن طائفة التفرقةُ بين أهل الذمة وأهل الحرب، والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث، ولكنه مختص بأهل الكتاب، فقد أخرج أحمد بسندٍ جيدٍ عن أنس (أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على وعليكم).
ونقل ابن بطال عن الخطابيّ نحو ما قال ابن حبيب، فقال: رواية من روى "عليكم" بغير واو أحسن من الرواية بالواو؛ لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم بعينه، وبالواو يصير المعنى "علي وعليكم"؛ لأن الواو حرف التشريك، هي رواية ابن عُيينة، فهي الصواب. وقد رجع الخطابيّ عما قال فقال في شرحه "الأعلام على البخاريّ" عند حديث عائشة، حين قالت: عليكم السام واللعنة فقال: أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ، أخرجه في كتاب الأدب.
قال الخطابيّ ما ملخصه أن الداعي إذا دعا بشيء ظلمًا فإن الله لا يستجيب، ولا يجد دعاؤه محلًا في المدعو عليه. وله شاهد عن جابر قال: سلم ناس من اليهود، على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، قال: وعليكم. قالت عائشة، وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى، قد رددت عليهم، فنجاب عليهم، ولا يجابون فينا. أخرجه مسلم والبخاريّ في الأدب المفرد"، وقد غفل عن هذه المراجعة من أنكر الرواية بالواو، وضعفها من حيث المعنى، فإن كلامه مردود.
وقال النوويّ: الصواب أن إثبات الواو وحذفها ثابتان جائزان، وإثباتها أجود، ولا مفسدة فيه، وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما أنهم قالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضًا، أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني: أنّ الواو للاستئناف، لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم.
وقال البيضاويّ: في العطف شيء مقدر، والتقدير: وأقول عليكم ما تريدون بنا، أو ما تستحقون. وليس هو عطفًا على عليكم في كلامه. وقال القرطبي: قيل: الواو للاستئناف، وقيل: زائدة، وأولى الأجوبة أنّا نُجاب عليهم، ولا يجابون علينا، وحكى ابن دقيق عن ابن رشد تفصيلًا يجمع الروايتين: إثبات الواو وحذفها، فقال: من تحقق أنه قال السام أو السِّلام، بكسر السين، فليرد عليه بحذف الواو، ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو.
وقال النوويّ تبعًا لعِياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو، ومن فسرها بالسآمة
فإسقاطها هو الوجه. قال في "الفتح": الرواية بإثبات الواو ثابتة، وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. واستدل به على أن هذا الرد خاص بالكفار، فلا يجزيء في الرد على المسلم. وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ، وإلا فلا. قال ابن دقيق العيد: التحقيق أنه كاف في حصول معنى السلام، لا في امتثال الأمر في قوله {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، وكأنه أراد الذي بغير واو.
وأما الذي بالواو، فقد ورد في عدة أحاديث منها في الطبرانيّ، عن ابن عباس "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: سلام عليكم، فقال: وعليكم ورحمة الله". وله في الأوسط عن سلمان "أتى رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك". قال في الفتح. لكن لما اشتهرت هذه الصيغة للرد على غير المسلم، فينبغي ترك جواب المسلم بها، وإن كانت مجزئة في أصل الرد.
وما لم يذكر هنا من مباحث السلام، ابتداءًا وردًا، قد استُوفي الكلام عليه في باب إطعام الطعام من الإِسلام من كتاب الإيمان.
وقوله في السابع من المأمورات "وتشميت العاطس" يعني أنه مأمور به، قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيده قوله في حديث أبي هُريرة التالي له "حق المسلم على المسلم خمس. الخ" وفي حديثه عند المصنف في كتاب الأدب "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" وفي حديثه عند مسلم "حق المسلم على المسلم ست" فذكر فيها "وإذا عطس فحمد الله فَشَمَّته" وللبخاريّ من وجه آخر عن أبي هُريرة "خمس تجب للمسلم على المسلم". فيذكر منها التشميت، وهو عند مسلم أيضًا. وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يَعلى "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله، وليقل من عنده يرحمك الله" ونحوه عند الطبرانيّ من حديث أبي مالك، وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر.
وقال ابن أبي جَمْرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وقواه ابن القيم، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبلفظ على الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابيّ:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء، وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشد وأبو بكر بن العربي، وقال به الحنفية، وجمهور الحنابلة، وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزىء الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القولُ الثاني. والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس، وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض كفاية يخاطب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض. وأما من قال إنه فرض على مبهم، فإنه
ينافي كونه فرض عين.
والتشميت يقال بالمعجمة والمهملة، قال ابن الأنباري: كل داع بالخير مشمت بالمعجمة والمهملة، والعرب كثيرًا تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى. وقال أبو عُبيد: التشميت بالمعجمة أعلى وأكثر، وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربية. وفي الرواية، وقال ثعلب: الاختيار أنه بالمهملة؛ لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد والطريق القويم. وأشار ابن دقيق العيد إلى ترجيحه، وقال القزاز: التشميت التبريك، والعرب تقول: شمته إذا دعا له بالبركة، وشمت عليه إذا برَّك عليه، وفي حديث قصة تزويج عليّ بفاطمة "شمَّت عليهما" أي: دعا لهما بالبركة.
ونقل ابن التين أن التسميت، بالمهملة، أفصحُ. وهو من سَمَتِ الإبلَ في المرعى إذا جُمعت، فمعناه على هذا جمع الله شملك. وتعقبه بأنْ سمت الإبل، إنما بالمعجمة، ونقله غير واحد أنه بالمعجمة. وقيل: هو بالمعجمة من الشماتة، وهو فرح الشخص بما يسوء عدوه، فكأنه دعا له أن لا يكون في حال من يُشمت به، أو أنه، إذا حمد الله، أدخل على الشيطان ما يسوؤه، فَشَمِتَ هو بالشيطان. وقيل: هو من الشوامت، جمع شامتة، وهي القائمة، يقال: لا ترك الله له شامتة، أي: قائمة.
وقال ابن العربي في شرح الترمذي: تكلم أهل اللغة على اشتقاق اللفظين، ولم يبينوا المعنى فيه، وهو بديع، وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه، وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: رحمك الله، كان معناه: أعطاك الله رحمةً يرجع بها بذلك إلى حالة قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير، فإن كان التسميت بالمهملة، فمعناه رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة، فمعناه: صان الله شوامته، أي: قوائمه التي بها قوام بدنه، عن خروجها عن الاعتدال. قال: وشوامت كل شيء قوائمه التي بها قوامه، فقدام الدابة بسلامة قوائمها التي ينتفع بها إذا سَلِمت، وقوام الآدميّ بسلامة قوائمه التي بها قوامه، وهي رأسه وما يتصل به من عنق وصدر.
وظاهر حديث الباب أن كل عاطس يُشَمَّت على التعميم، حَمِد الله تعالى أو لم يحمده، والحق ما في حديث أبي هُريرة في كتاب الأدب وغيره، من أنه لا يشمت له حتى يحمد الله، ولفظ أبي هُريرة "فإذا عطس فحمد الله، فحقَّ على كل مسلم سمعه أن يشمته" وأخرج في كتاب الأدب أيضًا عن أنس قال "عطس رجلان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله، شمَّت هذا ولم تشمتني، فقال: إن هذا حمد الله ولم تحمد الله". وأخرجه مسلم عن أبي موسى بلفظ "إذا عطس أحدكم فحمد الله، فشمَّتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه".
قال النووي: مقتضى هذا الحديث، بل منطوقه، أن من لم يحمد الله لم يشمت، وهل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني. قال: وأقل الحمد والتشميت أنْ يسمع صاحبه. ويؤخذ منه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يُشَمَّت. وقد أخرج أبو داود والنَّسائي وغيرهما، عن سالم بن عُبيد الأشجعيّ قال:"عطس رجل فقال: السلام عليكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عليك وعلى أمك، وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله" واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد، إذا عرف السامع أنه حمد الله، وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد، وسمع من شمت ذلك العاطس، فإنه يشرع له التشميت، لعموم الأمر به لمن عطس فحمد.
قال النوويّ: المختار أنه يُشَمِّته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربى اختلافًا فيه، ورجح أنه يشمته، ونقله ابن بطّال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دَقيق العِيد من علم أنَّ الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد، فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده، لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد، ولم يشمته أحد، فسمعه من بَعُد عنه، استحب له أنْ يشمته حين يسمعه.
وقد أخرج ابن عبد البَرّ بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن، أنه كان في سفينة، فسمع عاطسًا على الشطَّ حمد، فاكترى قاربًا بدرهم، حتى جاء إلى العاطس فشمَته، ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال: لعله يكون مجابَ الدعوة، فلما رقدوا، سمعوا قائلًا يقول: يا أهل السفينة، إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم.
قال النوويّ: ويستحب لمن حضر من عطس ولم يحمد أنْ يذكره بالحمد، ليحمد فيشمته. وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف. وزعم ابن العربيّ أنه جَهْلٌ من فاعله. قال: وأخطأ فيما زعم، بل الصواب استحبابه، واحتج ابن العربيّ لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها. قال: فلو جمع بينهما، فقال: الحمد لله، يرحمك الله، جمع جهالتين؛ ما ذكرناه أولًا، وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس.
وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم، وحكى غيره -إنه الأوزاعيُّ- أن رجلًا عطس عنده فلم يحمد، فقال له: كيف يقول من عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله. وكأن ابن العربيّ أخذ بظاهر حديث أنس السابق، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يذكر الذي عطس، فلم يحمد، لكن قد قيل: إنه لم يكن مسلمًا، فلعل تَرْكَ ذلك لذلك، لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال، أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرَّفه الحُكْم، وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت. وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعريّ، ففعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مثلَ ما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ شمَّت من حمد، ولم يشمت من لم يحمد، كما ساق حديثه مسلم.
ولفظ الحمد المطلوب من العاطس هو "الحمد لله" لا يزيد على ذلك، كما في حديث أبي هُريرة المخرج عند البخاريّ في كتاب الأدب، ولفظه "إذا عطس أحدكم، فليقل الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم".
وعن طائفة يقول: الحمد لله على كل حال، قال ابن بطال: وقد جاء النهي عن ابن عمر، وقال فيه: هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البزَّار والطبرانى. وأصله عند الترمذي، وعند الطبرانيّ عن أبي مالك الأشعري، رفعه "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال" ومثله عند أبي داود عن أبي هُريرة، وللنّسائيّ عن عليّ، رفعه، يقول العاطس: الحمد لله على كل حال، ولابن السنيّ عن أبي أيوب مثله، ولأحمد والنسائيّ عن سالم بن عبيد، رفعه "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله رب العالمين".
وعن طائفة يقول "الحمد لله رب العالمين" وَرَدَ ذلك في حديث ابن مسعود، وأخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، والطبرانيّ. وورد الجمع بين اللفظين، فعنده في "الأدب المفرد" عن علي قال: من قال عند عطسة سمعها: الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، لم يجد وجع الضرس ولا الأذن أبدًا.
وهذا موقوف رجاله ثقات، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الرأي، وقد أخرجه الطبرانيّ من وجه آخر عن علي مرفوعًا بلفظ "من بادر العاطس بالحمد عوفي من وجع الخاصرة ولم يشتك ضرسه أبدًا"، وسنده ضعيف، وللمصنف أيضًا في الأدب المفرد والطبرانيّ، بسند لا بأس به عن ابن عباس، قال: إذا عطس الرجل فقال الحمد لله، قال المَلَك "رب العالمين"، فإن قال رب العالمين، قال المَلَك "يرحمك الله".
وعن طائفة: ما زاد من الثناء فيما يتعلق بالحمد كان حسنًا، فقد أخرج أبو جعفر الطبريّ في التهذيب، بسندٍ لا بأس به، عن أم سلمة قالت: عطس رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال الحمد لله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم "يرحمك الله" وعطس آخر فقال: الحمد لله رب العالمين حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، فقال:"ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة". ويؤيده ما أخرجه التِّرمذيّ وغيره عن رِفاعة بن رافع قال: صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطستُ، فقلت الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما انصرف، قال:"من المتكلم ثلاثًا"؟ فقلت: أنا. فقال: والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملَكًا أيهم يصعد بها.
وأخرجه الطبراني، وبين أن الصلاة المذكورة "المغرب" وسنده لا بأس به، وأصله في صحيح البخاريّ، لكن ليس فيه ذكر العُطَاس، وإنما فيه "كنا نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من
الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد" إلى آخره بنحوه. وقد تقدم في صفة الصلاة بشرحه، ولمسلم وغيره عن أنس، جاء رجل فدخل في الصف، وقد حَفَزَه النَّفَسُ، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه. الحديث، وفيه "لقد رأيت إثني عشر ملكًا يبتدرونها أيهم يرفعها".
وأخرج الطبرانيّ وابن السنيّ عن عامر بن ربيعة نحوه، بسند لا بأس به، وأخرج ابن السنيّ، بسند ضعيف عن أبي رافع، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس فخلّى يدي.، ثم قام فقال شيئًا لَم أفهمه، فسألته فقال:"أتاني جبريل فقال: إذا أنت عطستَ فقلْ: الحمد لله لكرمه، الحمد لله لعز جلاله. فإن الله عز وجل يقول: صدق عبدي ثلاثًا، مغفورًا له".
وأما الثناء الخارج عن الحمد، فورد فيه ما أخرجه البيهقيّ في الشعب عن الضحاك بن قيس اليشكريّ قال: عطس رجل عند ابن عمر فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال ابن عمر: لو تممها "والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ويعارضه ما أخرجه الترمذيّ قال: عطس رجل فقال: الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: الحمد لله والصلاة على رسول الله، ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الترمذيّ: غريب لا نعرفه إلا من رواية زياد بن الربيع، وهو صدوق، وفيه نظر، ورجح البيهقيّ ما تقدم على رواية زياد، ولا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة، بعد قوله الحمد لله رب العالمين، وكذا العدول عن الحمد لله إلى أشهد أن لا إله إلا الله، أو تقديمها على الحمد، فمكروه.
وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" عن مجاهد، بسندٍ صحيح، أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال: أبّ، فقال: وما أب؟ إن الشيطان جعلها بين العطسة والحمد. وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ "إش" بدل، "أب"، ونقل ابن بطّال عن الطبرانيّ أن العاطس يتخير بين أن يقول الحمد لله، أو يزيد رب العالمين، أو على كل حال. والذي يتحرر من الأدلة أن كل ذلك مُجزىء، لكن ما كان أكثر ثناءً كان أفضل، بشرط أن يكون مأثورًا.
وقال النوويّ في الأذكار: اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول: الحمد لله، ولو قال الحمد لله رب العالمين، لكان أحسن. فلو قال الحمد لله على كل حال، كان أفضل. كذا قال. والأخبار التي ذكرت تقتضي التخيير ثم الأولوية.
وقال الحليميّ: الحكمة في مشروعية الحمد للعاطس، أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تُقَابَل بالحمد لله، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة
الخلق إليه لا إلى الطبائع.
ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطاس صوته، فلا يبالغ في إخراج العطسة، فقد أخرج عبد الرزاق عن قتادة قال:"سبع من الشيطان" فذكر منها شدة العطاس، ويرفعه بالحمد، وأن يغطي وجهه لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسَه، ولا يلوي عنقه يمينًا ولا شمالًا لئلا يتضرر بذلك.
قال ابن العربيّ: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجًا للأعضاء، وفي تغطية الوجه أنه لو بدر منه شيء آذى جليسه، ولوى عنقه صيانة لميسه لم يأمن من الالتواء، وقد شوهد من وقع له ذلك.
وقد أخرج أبو داود والترمذيّ بسند جيد عن أبي هُريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته، وله شاهد بنحوه عند الطبرانيّ عن ابن عمر. قال ابن دقيق العِيد: ومن فوائد التشميت تحصيل المودة والتآلف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النَّفْس عن الكِبْر، والحمل على التواضع، لما في ذكر الرحمة من الإِشعار بالذنب الذي لا يَعْرى عنه أكثر المكلفين.
والعطاس يكون من خفة البدن، وانفتاح المسام، وعدم الغاية في الشبع، فلذا ناسبه الحمد. واستدل بأمر العاطس بحمد الله، أنه يشرع حتى للمصلي، وقد تقدمت الإِشارة إلى حديث رفاعة بن رافع، وبذلك قال الجمهور من الصحابة، والأئمة من بعدهم، وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد.
قلت: مشهور مذهب مالك أن حَمْد العاطس في الفرض مكروه، أو خلاف الأوْلى، ونقل الترمذيّ عن بعض التابعين أن ذلك شرع في النافلة لا في الفريضة، ويحمد مع ذلك في نفسه، قال في الفتح: وجوز شيخنا في شرح الترمذيّ، أن يكون مراده أنه يُسِر به، ولا يجهر به، وهو متعقب بحديث رفاعة بن رافع "فإنه جهر به"، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. نعم، يَفْرُق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها، من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربيّ من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونُقِل عن سَحْنون أنه لا يحمد حتى يفرغ، وتعقبه بأنه غُلُو.
قلت: قد مرَّ لك قريبًا أن المعتمد عدم حمده مطلقًا، واستدل بقوله في حديث أبي هُريرة السابق "حق على كل مسلم سمعه أن يشمته" على استحباب مبادرة العاطس بالتحميد. ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء، أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن، ولا يعاجله بالتشميت. قال: وهذا فيه غفلة عن شرط التشميت، وهو توقفه على حمد العاطس.
وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن مكحول الأزْدِيّ، كنت إلى جنب ابن عمر، فعطس
رجل من ناحيته، فقال ابن عمر: يرحمك الله إن كنت حمدت الله. وقد مرَّ في حديث أبي هُريرة أن العاطس إذا حمد الله يقول له أخوه "يرحمك الله" وهذا هو التشميت المطلوب شرعًا. قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون دعاء بالرحمة، ويحتمل أن يكون إخبارًا على طريق البشارة، كما قال في الحديث الآخر "طهور إن شاء الله" أي: هي طهر لك، فكأن المشمت بَشَّرَ العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل، بسبب حصولها في الحال، لكونها دفعت ما يضره. وهذا ينبني على قاعدة، وهي أن اللفظ إذا أريد به معناه، لم ينصرف لغيره، وإن أريد به معنى يحتمله انصرف إليه، وإن أُطلق انصرف إلى الغالب، وإن لم يستحضر القائل المعنى الغالب.
قال ابن بطال: ذهب إلى هذا قوم فقالوا: يقول له يرحمك الله، يخصه بالدعاء وحده. وقد أخرج البيهقيّ في الشعب، وصححه ابن حبان، عن حفْص بن عاصم عن أبي هُريرة، رفعه "لما خلق الله آدم، عطس، فألهمه ربه أن قال الحمد لله فقال له ربه: يرحمك الله". وأخرج الطبريّ عن ابن مسعود قال يقول يرحمنا الله وإياكم. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه، وأخرج المصنف في "الأدب المفرد"، بسند صحيح، عن أبي مرة سمعت ابن عباس إذا شَمَّتَ يقول: عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله، وفي "الموطَّأ" عن ابن عمر أنه كان إذا عطس، فقيل له يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم.
قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس "يرحم الله سيدنا"، فخلاف السنة، وشمت بعض الفضلاء رئيسًا فقال: يرحمك الله يا سيدنا. وهو حسن. وقوله في الحديث، السابق: فإذا قال له يرحمك الله، فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم، مقتضاه أنه لا يشرع ذلك إلا لمن شُمِّت، وهو واضح. وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت، وهذا مختَلَف فيه، قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى هذا، وذهب الكوفيون إلى أنه يقول: يغفر الله لنا ولكم. أخرجه الطبريّ عن ابن مسعود وابن عمر، وغيرهما، وأخرجه في "الأدب المفرد" الطبرانيّ عن ابن مسعود، ووافق حديثُ أبي هُريرة المذكور سابقًا، حديث عائشة عند أحمد وأبي يَعلى، وحديثَ عليّ وأبي مالك الأشعريّ عند الطبرانيّ، وحديثَ ابن عمر عند البزار، وحديثَ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في "الشعب".
قال ابن بطال: ذهب مالك والشافعيّ إلى أنه يتخير بين اللفظين، إلا للذميّ. وذكر الطبريّ أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول "يهديكم الله ويصلح بالكم" احتجوا بأنه تشميت اليهود، كما يأتي في حديث أبي داود عن أبي موسى، ولا حجة فيه، إذ لا تَضَادَّ بين خبر أبي موسى وخبر أبي هُريرة المذكور فيه "يهديكم الله ويصلح بالكم"؛ لأنّ حديث أبي هُريرة في جواب التشميت، وحديث أبي موسى في التشميت نفسه.
وأما ما أخرجه البيهقيّ في "الشّعب" عن ابن عمر قال: اجتمع اليهود والمسلمون، فعطس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشمته الفريقان جميعًا، فقال للمسلمين:"يغفر الله لكم، ويرحمنا وإياكم" وقال لليهود: يهديكم الله ويصلح بالكم". فقال: تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف، واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج، لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين. وهذا منقول عن إبراهيم النخعيّ، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر.
قال البخاريَّ: بعد تخريجه في "الأدب المفرد": وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب. وقال الطبريّ: هو من أثبت الأخبار، وقال البيهقيّ: هو أصح شيء ورد في هذا الباب. وقد أخذ به الطحاويّ من الحنفية، واحتج له بقول الله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قال: والذي يجيب بقوله: "غفر الله لنا ولكم" لا يزيد المشمت على معنى قوله: "يرحمك الله" لأنّ المغفرة ستر الذنب، والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلاف دعائه له بالهداية والإصلاح، فإن معناه أن يكون سالمًا من مواقعة الذنب، صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى.
واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين، فيكون أجمع للخير، ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد، وقد أخرج مالك في الموطأ، عن ابن عمر، أنه كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله. قال:"يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم". وقال ابن أبي جمرة: في الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس، يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس، ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع النعم المتواليات في زمن يسير فضلًا وإحسانًا.
وفي هذا لمن رآه بقلب، له بصيرة، زيادة قوة في إيمانه، حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك، ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول، الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده، والعلم الذي جاءت به سنته، ما لا يقدر قدره.
قال: وفي زيادة "ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال، ولله الحمد كثيرًا"، وقال الحليميّ: أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورًا، وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك، لتدوم السلامة. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة، والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله: غفر الله لنا ولكم.
وقد خص من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعةٌ:
الأول من لم يحمد كما مرَّ.
الثاني الكافر، فقد أخرج أبو داود، وصححه الحاكم عن أبي موسى، قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يقول: يرحمك الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة: إن التشميت الدعاء بالخير، دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة، لم يدخلوا. قال: ولعل في خص التشميت بالدعاء بالرحمة، بناه على الغالب؛ لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة، وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع، فحديث أبي موسى دالٌّ على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت خاص، وهو الدعاء لهم بالهداية، وإصلاح البال، وهو الشأن. ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين، فإنهم أهل للدعاء بالرحمة بخلاف الكفار.
الثالث المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث، فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر، لكن وردت فيه أحاديث، منها ما هو مرفوع، وما هو موقوف، على أنه إذا عطس ثلاثًا يكون مزكومًا، ولا يشمته بعد ثلاث، ويشمته إلى ثلاث إذا حمد الله، سواءً تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه، ثم كرر الحمد بعدد العطاس، فهل يشمت بعدد الحمد فيه؟ وظاهر الخبر نَعَم. وأخرج أبو يَعلى وابن السنيّ عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث، ولفظه "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإن زاد على ثلاث، فهو مزكوم ولا يشمته". فيه سليمان بن أبي داود الحرانى ضعيف، وله شواهد، منها حديث عبيد بن رفاعة الصلخابيّ عند أبي داود والترمذيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشمت العاطس ثلاثًا، فإن زاد، فإن شئت فشمته، وإن شت فلا".
قال ابن العربيّ: هذا الحديث، وإن كان فيه مجهول، لكن يستحب العمل به؛ لأنه دعاءٌ بخير، وصلةٌ وتوددٌ للجليس، فالأولى العمل به. وقال ابن عبد البَرّ: دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثًا، ويقال: أنت مزكوم، بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها، فالعمل بها أولى، ثم حكى النوويّ عن ابن العربيّ أن العلماء اختلفوا، هل يقول لمن تتابع عطاسه: أنت مزكوم، في الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ على أقوال، والصحيح في الثالثة، قال: ومعناه أنك لست ممن يشمت بها، لأنّ الذي به مرضٌ، وليس من العطاس المحمود الناشىء عن خفة البدن كما مرَّ. قال: فإن قيل: إذا كان مرضًا فينبغي أن يشمت بطريق الأولى؛ لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره. قلنا نعم، لكن يدعى له بدعاء يلائمه، لا بالدعاء المشروع للعطاس من جنس دعاء المسلم بالعافية.
وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يكرر التشميت إذا تكرر العطاس، إلا أن
يعرف أنه مزكوم، فيُدعى له بالشفاء، قال: وتقديره أن العموم يقتضي التكرار إلا في موضع العلة، وهو الزكام، وعند هذا يسقط الأمر بالتشميت عند العلم بالزكام، لأنّ التعليل به يقتضي أن لا يشمت من علم أن به زكامًا أصلًا. وتعقبه بأن المذكور هو العلةُ دون التعليل، وليس المعلل هو مطلق الترك، ليعم الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو الترك بعد التكرير، فكأنه قيل: لا يلزم تكرر التشميت؛ لأنه مزكوم. قال: ويتأيد بمناسبة المشقة الناشئة عن التكرار.
الرابع ممن يخص من عموم العاطسين: مَن يكره التشميت. قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالًا للتشميت أن يؤهَّلَ له من يكرهه. فإن قيل: كيف تترك السنة لذلك؟ قلنا: هي سنة لمن أحبها، فأما من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويَطَّرد ذلك في السلام والعبادة.
قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررًا، فأما غيره فيشمت امتثالًا للأمر، ومناقضة للمتكبر في مراده، وكسرًا لسَوْرته في ذلك، وهو أولى من إجلال التشميت، ويؤيده أنَّ لفظ التشميت دعاء بالرحمة، فهو يناسب المسلم كائنًا من كان.
الخامس: قال ابن دقيق: يستثنى أيضًا من عطس والإمام يخطب، فإنه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصاف لإمكان تدارُك التشميت بعد فراغ الخطيب، ولاسيما إن قيل بتحريم الكلام والإمام يخطب. وعلى هذا، فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب، أو يشرع له التشميت بالإشارة؟ فلو كان العاطس الخطيب فحمد، واستمر في خطبته، فالحكم كذلك. وإن حمد فوقف قليلًا ليشمت، فلا يمتنع أن يشرع تشميته. قلت: مذهب المالكية إنه يشمته بالإشارة، لا بالنطق لا سرًا ولا جهرًا. وظاهر كلام بعضهم تحريمه.
السادس: ممن يمكن أن يستثنى: مَن كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماع، فيؤخر، ثم يحمد الله، فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة، هل يستحقط التشميت؟ فيه نظر.
وقوله في الحديث: نهانا عن سبع، سقط في هذا الباب واحدة من السبع المنهي عنها، ولعلها سقطت من الناسخ، وقد ذكرها في باب خواتيم الذهب من كتاب اللباس، وهي المِبْثَرَةُ الحمراء. وقوله: ونهانا عن آنية الفضة، متناول للنهي عن الأكل فيها والشرب. وقد جاء التصريح بهما فيما أخرجه أحمد عن ابن أبي ليلى بلفظ "نهى إنْ يُشرب في آنية الذهب والفضة وأن يوكل فيهما". أخرج مسلم أيضًا عن نافع "الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجَرْجِر في بطنه نار
جهنم" والجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج، نحو صوت اللجام في فك الفرس.
وفي حديث حذيفة في كتاب الأشربة: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" زاد مسلم في حديث البراء "فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" ومثله في حديث أبي هُريرة، رفعه "من شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا، لم يشرب فيهما في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة" أخرجه النسائي بسند قويّ، ففي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب الفضة على كل مكلف، رجلًا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لهنّ في شيء.
قال القرطبيّ وغيره: في الحديث استعمال أوانيّ الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما، مثل التطيب والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات. وبهذا قال الجمهور، ونقل ابن المنذر الإِجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، إلا عن معاوية بن قُرَّة، أحد التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي. وعن الشافعي في القديم، ونقل عن نصه في حرملة، أن النهي فيه للتنزيه؛ لأنّ علته ما فيه من التشبه بالأعاجم. ونصَّ في الجديد على التحريم، ومن أصحاب من قطع به عنه، وهذا اللائق به، لثبوت الوعيد عليه بالنار كما مرَّ. وإذا ثبت ما نقل عنه، فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور.
ويؤيد وهم النقل عن نصه أيضًا في حرملة أن صاحب التقريب، نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة، تحريم اتخاذ الإناء من الذهب والفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليس متفقًا عليها، كما يأتي قريبًا. وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقًا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره عل الشرب؛ لأنه لم يقف على الزيادة المذكورة في الأكل.
واختلف في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله "هي لهم""وإنها لهم"، وقيل: لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لجاز اتخاذ الآلات منهما، فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزاليّ بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين، حبسٌ لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس، يرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه، وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو عليّ السبخيّ وأبو محمد الجويني. وقيل: علة التحريم السَّرَف والخُيَلَاء، أو كسر قلوب الفقراء، ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس، وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ.
وقد نقل ابن الصباغ في "الشامل" الإِجماع على الجواز، وتبعه الرافعيّ ومن بعده، لكن في زوائد العمرانيّ عن صاحب "الفروع" نقل وجهين، قلت: مذهب مالك فيها المنع، والكراهة، والجواز. وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر، لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها، والأشهر المنع، وهو قول الجمهور. ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها، وجواز الاستيجار عليها.
وقوله في الحديث السابق: إنها لهم في الدنيا، أو هي لهم، ليس المراد به إباحة استعمالهم إياه، وإنما المعنيّ بقوله "لهم" أي: هُمُ الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين، وكذا قوله:"ولكم في الآخرة" أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويَمنعه أولئك جزاءًا لهم على معصيتهم باستعماله. ويحتمل أن تكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطاه في الآخرة، كما جاء ذلك في شرب الخمر ولباس الحرير.
وهذا كله في الذي جميعه من ذهب أو فضة، أما المخلوط أو المُضَبَّبُ أو المُمَوَّه، وهو المطلِيّ، ففيه الخلاف، وورد فيه حديث أخرجه الدارقطنيّ والبيهقيّ عن ابن عمر برفعه. "مَن شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيءٌ من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". قال البيهقيّ: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه. قلت: هذا لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وهو عند ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه، أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقَة فضة، ولا ضَبَّة فضة. ومن طريق أخرى عنه، أنه كان يكره ذلك. وفي الأوسط للطبرانى عن أم عطية:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء" وأخرج البخاريّ في كتاب "الأشربة" عن عاصم الأحول قال: "رأيت قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فَسَلْسَلَهُ بفضة"، ففي هذا الحديث جواز اتخاذ ضَبَّة الفضة، كذلك السلسلة، والحَلْقة، وهذا مما اختلف فيه، كما مرَّ.
قال الخطابيّ: منعه مطلقًا جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول مالك والليث، وعن مالك يجوز من الفضة إن كان يسيرًا، وكرهه الشافعيّ، قال: لئلا يكون شاربًا على فضة، فأخذ بعضهم منه أن الكراهة تختص بما إذا كانت الفضة في موضع الشرب، وبذلك صرّح الحنفية. وقال به أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال ابن المنذر، تبعًا لأبي عُبيد: المعضض ليس هو إناء فضة، والذي تقرر عند الشافعية أنَّ الضبة إنْ كانت من الفضة، وهي كبيرة للزينة، تحرم، وللحاجة فتجوز مطلقًا، وتحرم شبة الذهب مطلقًا، ومنهم من سوّى بين ضبتي الذهب والفضة، وحديث الدارقطنيّ والبيهقي المتقدم عن ابن عمر معلولٌ بجهالة إبراهيم بن عبد الله بن مطيع الراوي عن ابن عمر، واستدل بقوله: "أو إناء فيه شيء من ذلك، الوارد في حديث ابن عمر، على تحريم الإناء من
النحاس أو الحديد المطلي بالذهب أو الفضة.
والصحيح عند الشافعية إن كان يحص منه بالعرض على النار حَرُم، وإلا فوجهان أصحهما لا، وفي العكس وجهان كذلك، ولو غُلِّف إناء الذهب أو الفضة بالنحاس مثلًا، ظاهرًا وباطنًا، فكذلك، وجزم إمام الحرمين أنه لا يحرم، كحشو الجبة التي من القطن، مثلًا، بالحرير. واستدل بجواز اتخاذ السلسلة والحلقة أنه يجوز أن يُتَّخَذَ للإناء رأسٌ منفصل عنه، وهذا ما نقله المتولي والبَغوِيّ والخوارزميّ. وقال الرافعيّ: فيه نظر.
وقال النوويّ: في "شرح المهذب": ينبغي أن يُجْعَل كالتضبيب، ويجري فيه الخلاف والتفصيل، واختلفوا في ضابط الصِّغَر في ذلك، فقيل: العُرْف، وهو الأصح، وقيل: ما يَلْمَع على بُعْد كبير، وما لا فصغير وقيل: ما استوعب جزءًا من الإناء، كأسفله أو عروته أو شفته، كبيرٌ. وما لا فلا، ومتى شك فالأصل الإباحة.
وقوله: "وخاتم الذهب" قد استوفى الكلام عليه غاية الاستيفاء، عند حديث أنس في باب "ما يذكر في المناولة" من كتاب العلم، وقوله: والحرير والدِّيباج والقَسِّي والاسْتَبرق، الحرير يتناول الثلاثة التي بعده، فيكون وجه عطفها عليه لبيان الاهتمام بحكم ذكر الخاص بعد العام، أو لدفع وهم أن تخصيصه باسمٍ مستقل لا ينافي دخوله تحت حكم العام، أو الإشعار بأن هذه الثلاثة غير الحرير نظرًا إلى العرف، وكونها ذوات أسماء مختلفة يكون مقتضيًا لاختلاف مسمياتها. وقد مرَّ الكلام مستوفى على الحرير جملة في باب "من صلى في فروج حرير" في أوائل كتاب الصلاة، ومرَّ الكلام على الثوب الأحمر وعلى المِبْثرة في باب "استعمال فضل وضوء الناس" من كتاب الوضوء، والقَسِّي، بفتح القاف وتشديد المهملة المكسورة. وقال أبو عُبيد: أهل الحديث يقولون بكسر القاف، أهل مصر يفتحونها، وهو نسبة للقَسّ، قرية بمصر، منها الطبريّ وابن سَيْده، وهي على ساحل مصر، حصنٌ بالقرب من الفَرَما، بالتحريك، من جهة الشام. وقال النوويّ: هي بقرب تَنِيس، وهو متقارب. وحكى أبو عبيد: أنها بالزاي لا بالسين، نسبة إلى القز، وهو الحرير، أبدلت الزاي سينًا. وأخرج البخاريّ تعليقًا عن أبي بُرْدة قلتُ لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر، مضلعةٌ فيها حرير. وأخرجه مسلم موصولًا، ولفظه "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القَسِّي، وعن المباثر".
وقوله في رواية البخاريّ "مضلعة" أي فيها خطوط عريضة كالأضلاع، وحكى المنذريّ أن المراد بالمُضَلّع، ما نسج بعضه وترك بعضه. وقوله:"فيها حرير"، يشعر بأنها ليست حريرًا صرفًا. وحكى النوويّ عن العلماء أنها ثياب مخلوطة بالحرير، وقيل: من الخز، وهو رديء الحرير. واستدل بالنهي عن لبس القَسِّيّ على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب، لتفسير القَسِّيّ بأنه ما
خالط غيرُ الحرير فيه الحريرَ.
ويؤيده عطف القَسِّيّ على الحرير، والحرير على القَسِّيّ في حديث البراء، ووقع ذلك في حديث علي عند أبي داود والنسائي وأحمد، بسند صحيح، على شرط الشيخين عن عليّ قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القَسِّيّ والحرير، ويحتمل أن تكون المغايرة باعتبار النوع، فيكون الكل من الحرير، كما وقع عطف الديباج على الحرير في حديث حذيفة، الآتي في كتاب اللباس، بلفظ "وعن لبس الحرير والديباج" ولكن الذي يظهر، من سياق طرق الحديث في تفسير القَسِّيّ، أنه الذي يخالط الحرير، لا أنه الحرير الصرف، فعلى هذا يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير، وهو قول بعض الصحابة، كابن عمر، والتابعين كابن سيرين.
وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير، إذا كان غيرُ الحرير الأغلبَ، وعُمدتهم في ذلك ما تقدم في "كتاب الجمعة" في تفسير الحلة السبراء، وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العَلم في الثوب، إذا كان من حرير. قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل، لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط، وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع، لو كانت منفردة، بالنسبة لجميع الثوب، فيكون المنع من لبس الحرير شاملًا للخالص والمختلط، وبُعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة، ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة.
قال: وقد توسع الشافعية في ذلك، ولهم طريقان: أحدهما، وهو الراجح، اعتبارُ الوزن، فإن كان الحرير أقل وزنًا لم يحرم، أو أكثر حرم، وإن استويا فوجهان، اختلف الترجيح فيهما عندهم. والطريق الثاني أن الاعتبار بالقلة والكثرة بالظهور، وهذا اختيار القَفَّال ومن تبعه.
وعند المالكية في المختلط أقوالٌ ثالثها الكراهةُ، ومنهم من فرق بين الخَزّ وبين المختلط بقطن ونحوه، فأجاز الخز ومنع الآخر، وهذا مبني على تفيسر الخز، وقد تقدم في بعض تفاسير القَسِّيّ أنه الخز، فمن قال إنه رديء الحرير فهو الذي يتنزل عليه القول المذكور، ومن قال إنه ما كان من وَبَر فخُلِط بحرير، لم يتجه التفصيل المذكور. واحتج أيضًا من أجاز لبس المختلط بحديث ابن عباس "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المُصْمَت من الحرير، وأمّا العَلَم من الحرير وسَدَى الثوب، فلا بأس به" أخرجه الطَّبرانيّ بسند حسن هكذا. وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسند صحيح بلفظ "إنما نهى عن المُصْمَت إذا كان حريرًا".
وللطبرانيّ من طريق ثالث "نهى عن مُصْمَت الحرير، فأما ما كان سَدَاه من قُطْن أو كَتَّان فلا بأس به" واستدل ابن العربيّ للجواز أيضًا، بأنَّ النهي عن الحرير حقيقة في الخالص، والإذن في
القطن ونحوه صريح، فإذا خُلِطا بحيث لا يسمى حريرًا، بحيث لا يتناوله الاسم، ولا تشمله علة التحريم، خرج عن الممنوع فجاز.
وقد ثبت لبس الخز عن جماعة من الصحابة وغيرهم. قال أبو داود: لبسه عشرون نفسًا من الصحابة وأكثر، وأورده ابن أبي شَيبة عن جمع منهم، وعن طائفة من التابعين، بأسانيد جياد، وأعلى ما ورد في ذلك ما أخرجه أبو داود والنَّسَائيّ عن عبد الله بن سعد الدَّشْتَكِيّ عن أبيه، قال: رأيت رجلًا على بغلة، وعليه عمامة خَزّ سوداء، وهو يقول: كَسَانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأخرج ابن أبي شَيبة عن عَمّار ابن أبي عمّار قال: أتَتْ مروان بن الحَكم مطارفُ خَزٍّ فكساها أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأصح في تفيسر الخز أنه ثياث سَدَاها من حرير ولُحْمَتها من غيره. وقيل: تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه. وقيل: أصله اسم دابة يقال لها الخَزّ، سُمِّي الثوب المتخذ من وبره خزًا لنعومته، ثم أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير، وعلى هذا، فلا يصح الاستدلال بلبسه على جواز لُبس ما يخالطه الحرير، ما لم يتحقق أن الخز الذي لبسه السلف كان من المخلوط بالحرير.
وأجاز الحنفية والحنابلة لُبْس الخز ما لم يكن فيه شُهْرة، ويحرم عندهم، أي: الحنابلة، لُبْس ما أكثره حرير، لا إنْ استويا، فلا يحرم، ولا يحرم حشوُ جِباب به وفرش، وعن مالك كراهة الخز، وهذا كله في الخز.
وأما القز، بالقاف بدل الخاء المعجمة، فقال الرافعيّ: عد الأئمة القز من الحرير، وحرموه على الرجال، ولو كان كَمِدَ اللَّون. ونقل الإِمام الاتفاقَ عليه، لكن حكى المُتَوَلِّي في "التتمة" وجهًا، أنه لا يحرم، لأنه لبس من ثياب الزينة. قال ابن دقيق العيد. إن كان مراده بالقز ما نطلقه نحن الآن عليه، فليس يخرج من اسم الحرير، فيحرم، ولا اعتبار بُكُمودة اللون، ولا بكونه ليس من ثياب الزينة، فإنَّ كلًا منهما تعليلٌ ضعيف، لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه.
ولم يتعرض لمقابل التقسيم، وهو وإن كان المراد به شيئًا آخر، فيتجه كلامه، والذي يظهر أن مراده به رديء الحرير، وهو ما تقدم في الخز، ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون.
وقوله في الحديث "والدِّيباج" هو بكسر الدال، فارسي معرب، وقال ابن الأثير: الديباجُ الثيابُ المتخذة من الإِبْرَيْسِم، وقد تُفتح داله، ويجمع على ديابيج، بياءين، ودبابيج بياءين، لأنه أصله دِبّاج. وقوله:"والإسْتَبْرَق" بكسر الهمزة وفتح الراء، ثخينُ الديباج على الأشهر، وقيل: رقيقه، وقال النَّسَقِيّ في قوله تعالى:{يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} : السندس ما رَقَّ من الحرير،