الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام
قال الزين بن المنير: إنما نوع هذه التراجم مع إمكانه جمعها، فللإِشارة إلى الاعتناء بها، وما يختص كل طريق منها بحكمة، ولأن بعض ذلك وقع فيما ليس على شرطه، فاكتفى بذكره في الترجمة لصلاحيته للاستدلال، وكأنه أشار بهذه الترجمة الأخيرة إلى ترجيح رواية من روى في حديث الباب "حتى توضع بالأرض" على رواية من روى "حتى توضع في اللحد"، وفيه اختلاف على سُهيل بن أبي صالح عن أبيه، قال أبو داود: رواه أبو معاوية عن سهيل فقال "حتى توضع في اللحد" وخالفه الثوريّ،، وهو أحفظ، فقال "في الأرض".
ورواه جرير عن سهيل فقال: حتى توضع، حَسْبُ، وزاد: قال سهيل: ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. أخرجه أبو نعيم في المستخرج بهذه الزيادة، وهو في مسلم بدونها، وفي المحيط للحنفية "الأفضل أن لا يقعد حتى يهال عليه التراب" وحجتهم رواية أبي معاوية. ورجح الأول عن البخاريّ بفعل أبي صالح، لأنه راوي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه. ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبو داود.
وقوله: فإن قعد أمر بالقيام، فيه إشارة إلى أن القيام في هذا لا يفوت، لأن المراد به تعظيم أمر الموت، وهو لا يفوت بذلك، وأما قول المهلب: قعود أبي هريرة ومروان يدل على أن القيام ليس بواجب، وأنه ليس عليه العمل، فإنْ أراد أنه ليس بواجب عندهما، فظاهر، وإن أراد في نفس الأمر فلا دلالة فيه على ذلك، ويدل على الأول ما رواه الحاكم عن أبي هريرة، فساق نحو القصة المذكورة، وزاد أن مروان قال له أبو سعيد: قم فقام، ثم قال له: أقمتني، فذكر الحديث، فقال لأبي هريرة: فما منعك أن تخبرني؟ قال: كنت إماما فجلست، فعرف بهذا أن أبا هريرة لم يكن يراه واجبًا، وأن مروان لم يكن يعرف حكم المسألة قبل ذلك، وأنه بادر إلى العمل بها بخبر أبي سعيد.
وروى الطحاويّ عن الشعبيّ عن أبي سعيد قال: مُرَّ على مروان بجنازة، فلم يقم، فقال له أبو سعيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّت عليه جنازة فقام، فقام مروان. ولعل هذه الرواية مختصرة من القصة، وقد اختلف العلماء في أصل المسألة، فقال أكثر الصحابة والتابعين باستحبابه، كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعيّ أحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وروى البيهقيّ عن أبي حازم الأشجعيّ عن أبي هُريرة وابن عمر وغيرهما أن القائم مثل الحامل، يعني في الأجر.
وقال الشعبيّ والنخعيّ: يكره القعود قبل أن توضع، وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قطُّ فجلس حتى توضع. أخرجه النَّسائيّ.
ومذهب مالك كراهة القيام لها، سواء من كان جالسًا فمرت به فقام لها، أو كان ماشيًا معها واستمر قائمًا حتى توضع، أو سبقها للمقبرة فقام حين رآها حتى توضع. وذهب الشافعيّ إلى أنه غير واجب، فقال: هذا إما أن يكن منسوخًا أو يكون قام لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره، والقعود أحب إليّ.
وأشار بالترك إلى حديث عليّ أنه عليه الصلاة والسلام قام للجنازة ثم قعد. أخرجه مسلم. قال البيضاويّ: يحتمل قول علي "ثم قعد" أي: بعد أن جاوزته، وبعدت عنه، ويحتمل أن يريد: كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلًا، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المرادَ بالأمر الوارد في ذلك الندبُ. ويحتمل أن يكون نسخًا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح، لأن احتمال المجاز في الأمر أوْلى من دعوى النسخ.
والاحتمال الأول يدفعه ما رواه البيهقيّ عن عليّ أنه رأى ناسًا قيامًا ينتظرون الجنازة أَنْ توضع، فأشار إليهم بُدرَّة معه، أو سوطٍ، أن اجلسوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلس بعدما كان يقوم.
ومِنْ ثم قال جماعة بكراهة القيام، كما مرَّ عن المالكية، وقال بها سليم الرّازيّ وغيره من الشافعية، وصرح بها النوويّ في الروضة، لكن قال المتولي بالاستحباب، قال في "المجموع" وهو المختار فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام، ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث عليّ، وليس صريحًا في النسخ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، وقال الأذرعي، فيما اختاره النّوويّ من استحباب القيام نظر، لأن الذي فهمه عليّ رضي الله تعالى عنه الترك مطلقًا، وهو الظاهر، ولهذا أمر بالقعود من رآه قائمًا، واحتج بالحديث.
وقد ورد معنى النهي عن عُبادة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للجنازة، فمر به حَبْرٌ من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: اجلسوا وخالِفوهم. أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النَّسائيّ، فلو لم يكن إسناده ضعيفًا لكان حجة في النسخ. قلت: إنما هو حجة في القيام لجنازة اليهودي خاصة. وقال عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث عليّ، وبه قال عُروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وتعقبه النوويّ بأن النسخ لا يصار إليه إلا مع تعذر الجمع، وهو هنا ممكن.