الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري
مناسبة هذه الترجمة لما قبلها بجامع ما بينهما من مخاطبة الرجل المرأة بالموعظة،؛ لأنّ في الأول جواز مخاطبتها بما يرغبها في الأجر، إذا احتسبت مصيبتها، وفي هذا مخاطبتها بما يرهبها من الإثم، لما تضمنه الحديث من الإِشارة إلى أن عدم الصبر ينافي التقوى، قال الزين بن المنير ما محصله: عبَّر بقوله: الرجل، ليوضح أن ذلك لا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعبر بالقول دون الموعظة ونحوها، لكون ذلك الأمر يقع على القدر المشترك من الوعظ وغيره، واقتصر على ذكر الصبر دون التقوى، لأنه المتيسر حينئذ، المناسب لما هي فيه.
قال: وموضع الترجمة من الفقه جواز مخاطبة الرجال النساء في مثل ذلك، بما هو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو موعظة أو تعزية، وأن ذلك لا يختص بعجوز دون شابة، لما يترتب عليه من المصالح الدينية.
الحديث الرابع عشر
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِىَ تَبْكِي فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي.
قوله: بامرأة، قال في الفتح: لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر، وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها، ولفظه "تبكي على صبي لها"، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق، ولفظه "قد أصيبت بولدها"، وسيأتي في أوائل كتاب الأحكام، عن شعبة عن ثابت، أن أنسًا قال لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم. قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بها، فذكر الحديث.
وقوله: فقال اتقي الله، في رواية أبي نعيم في "المستخرج" فقال: يا أَمةَ الله، اتقي الله. قال القرطبيّ: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نَوْح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. ويؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور "فسمع منها ما يكره، فوقف عليها"
وقال الطيبيّ: قوله: اتقي الله، توطئة لقوله "واصبري" كأنه قال لها: خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي ليحصل لك الثواب، واقتصر المصنف هنا على هذا القدر من الحديث،
وذكر تكملته في باب زيارة القبور، وهي: قالت إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. فقيل لها: أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
قوله: إليك عني، هو من أسماء الأفعال، ومعناه تَنَحّ وابعد. وقوله: لم تُصَب بمصيبتي، يأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة، بلفظ "فإنك خِلْوٌ من مصيبتي" بكسر المعجمة وسكون اللام، ولمسلم "ما تبالي بمصيبتي"، ولأبي يعلى عن أبي هُريرة أنها قالت: يا عبد الله، إنّي أنا الحَرَّى الثَّكْلى، ولو كنت مصابًا عذرتني.
وقوله: ولم تعرفه، جملة حالية، أي: خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: فقيل لها، في رواية الأحكام "فمر بها رجل، فقال: إنه رسول الله، فقالت ما عرفته". وفي رواية أبي يعلى المذكورة قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا. وللطبرانيّ في الأوسط عن عطية عن أنس، أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية لها "فأخذها مثلُ الموت"، أي: من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، خجلًا منه ومهابة.
وقوله: فلم تجد عنده بوابين، في رواية الأحكام "بوابًا" بالإِفراد. قال الزين بن المنير: فائدة هذه الجملة، من هذا الخبر، بيانُ عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابًا مع قدرته على ذلك، تواضعًا. وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى، كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة، فلم تعرفه، مع ما كانت فيه من شاغل الوَجْد والبكاء.
قلت: الجملة الثانية ظاهرة في عذر المرأة، وأما الأُولى فلم تطلع عليها إلا بعد المراجعة، فلا عذر لها بها. وقال الطيبيّ: فائدةُ هذه الجملة أنه لما قيل لها أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفًا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه مثل الملوك له حاجبٌ وبوابٌ يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته.
وقوله: فقالت لم أعرفك، في حديث أبي هريرة "فقالت والله ما عرفتك". وقوله: إنما الصبر عند الصدمة الأولى، في رواية الأحكام "عند أول صدمة" ونحوه لمسلم، والمعنى إذا وقع الثبات أولَ شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكأس الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب.
قال الخطابي: المعنى أن الصبر، الذي يحمد عليه صاحبه، ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه على الأيام يسلو. وحكى الخطابيّ عن غيره أن المرء لا يؤجر على