الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسِّدْر
أي: بيان حكمه، وقد نقل النوويّ الإِجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، وهو ذهول منه شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية، حتى أن القرطبيّ في شرح مسلم رجَّح أنه سنّة، ولكن الجمهور على وجوبه، وأجاب العينيّ عن النوويّ بأن مراد القرطبيّ بقوله:"سنة" أي: مؤكدة، وهي في قوة الوجوب، وهذا الجواب باطل، فإن الخلاف عند المالكية في وجوبه وسنته مشهور، وهو نص خليل في مختصره، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بالوجوب، فقال: قد توارد به القول والعمل، وغُسِل الطاهرُ المطهرُ فكيف بمن سواه؟ وأصل وجوب غسل الميت، ما في المسند، أن آدم عليه الصلاة والسلام غسلته الملائكة وكفنوه وحنطوه، وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه. ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه، ووضعوا عليه اللِّبن، ثم خرجوا من قبره، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سبيلكم، ورواه البيهقيّ بمعناه.
وأما قوله: ووضوئه، فقال ابن المنير: ترجم بالوضوء، ولم يأت له بحديث، فيحتمل أن يريد انتزاع الوضوء من الغسل؛ لأنه منزل على المعهود من الأغسال، كغُسل الجنابة، أو أراد وضوء الغاسل، أي: لا يلزمه وضوء، ولهذا ساق أثر ابن عمر، وفي عود الضمير على الغاسل، ولم يتقدم له ذكر بعد، إلا أن يُقال: تقديرا لترجمة "باب غسل الميت" فالمصدر مضاف لمفعوله، لأنّ الميت لا يتولى ذلك بنفسه، فيعود الضمير على المحذوف فيتجه، قلت: على هذا أيضًا الأولى عَودُ الضمير إلى أقرب مذكور.
قال في الفتح: والذي يظهر أنه أشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، مما يأتي قريبًا، في حديث أم عطية "ابْدأنَ بميامنها ومواضع الوضوء منها" فكأنه أراد أن الوضوء لم يرد الأمر به مجردًا، وإنما ورد البداءة بأعضاء الوضوء، كما يشرع في غُسل الجَنابة، أو أراد أن الاقتصار على الوضوء لا يجزىء، لورود الأمر بالغُسل.
وقوله: بالماء والسدر، قال الزين بن المنير: جعلهما معًا آلة لغَسل الميت، وهو مطابق لحديث الباب؛ لأنّ قوله: بماء وسدر، يتعلق بقوله: اغلسنها، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل، وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير؛ لأنّ الماء المضاف لا يتطهر
به، وقد يمنع لزوم كون الماء يصير مضافًا بذلك، لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر، ثم يغسل بالماء في كل مرة، فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك. وقال القرطبيّ: يجعل السدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده، ثم يصب عليه الماء القراح، فهذه غسلة.
وحكى ابن المنذر أن قومًا قالوا: تطرح ورقات السدر في الماء، أي لئلا يمازج الماء فيتغير وصفه المطلق، وحكى عن أحمد أنه أنكر ذلك، وقال: يغسل في كل مرة بالماء والسدر، وأعلى ما ورد في ذلك ما رواه أبو داود عن قتادة عن ابن سيرين "أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية، فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور" قال ابن عبد البر: كان يقال: كان ابن سيرين من أعلم التابعين بذلك.
وقال ابن العربيّ: من قال الأُولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، أو العكس، والثالثة بالماء والكافور، فليس هو في لفظ الحديث. وكأن القائل أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصرف المطلق، لأنه هو المطهر حقيقة، وأما المضاف فلا. قلت: الذي نفى ابن العربيّ وجوده في الحديث هو الذي صرح في المحيط، والمبسوط أنه مذهب الحنفية الأولى، بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وكذا الحكم عند المالكية، إلا أنهم يندب عندهم الغسل سبع مرات، ويندب جعل الكافور في الأخيرة، سواء كانت ثالثة أو سابعة.
وعند سعيد بن المسيب والثوري يغسل في المرة الأولى والثانية بالماء القراح، والثالثة بالسدر. وقال الشافعيّ يختص السدر بالأولى، وبه قال ابن الخطاب من الحنابلة. وعن أحمد يستعمل السدر في الثلاث كلها، وتمسَّك بظاهر الحديث ابن شعبان وابن الفرضى وغيرهما من المالكية، فقالوا: غسل الميت إنما هو للتنظيف، فيجزيء بالماء المضاف كماء الورد ونحوه، قالوا: وإنما يكره من جهة السرف، والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبديّ يشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة، وقيل: شرع احتياطًا لاحتمال أن يكون عليه جنابة، وفيه نظر، لأنّ لازمَه أن لا يشرع غُسل متن هو دون البلوغ، وهو خلاف الإجماع، وكرهت الشافعية وبعض الحنابلة الماءَ المسخّن، وعندهم الماء البارد وأفضل، إلا أن يكون عليه وسخ أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، أو يكون البرد شديدًا. وعند المالكية البارد والمسخّن سيّان.
ثم قال: وحنط ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، ابنًا لسعيد بن زيد، وحمله وصلى ولم يتوضأ.
قوله: حَنَّط، بفتح المهملة والنون الثقيلة، أي: طيبه بالحنوط، وهو كل شيء يخلط من الطيب للميت خاصة، فيدخل فيه المسك، وأجازه أكثر العلماء، وأمر به علي، رضي الله تعالى
عنه، واستعمله أنس وابن عمر وابن المسيب، وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق، وكرهه عطاء الحسن ومجاهد، وقالوا: إنه ميتة، واستعماله في حنوط النبيّ صلى الله عليه وسلم حجةٌ عليهم، وفي "الروضة": ولا بأس يجعل المسك في الحنوط. ويجعل الحنوط بين أكفانه وحَواسّه ومَرَاقّه، نصت على ذلك المالكية، ويستحب فيه شيء من الكافور، وتعلق هذا الأثر وما بعده بالترجمة، من جهة أن المصنف يرى أن المؤمن لا ينجس بالموت، وأن غسله إنما هو للتعبد؛ لأنه لو كان نجسًا لم يطهره الماء والسدر ولا الماء وحده، ولو كان نجسًا ما مسه ابن عمر ولغسل ما مسه من أعضائه، وكأنه أشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود عن عمرو بن عُمير عن أبي هُريرة، مرفوعًا "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ".
رواته ثقات إلا عمرو بن عمير، فليس بمعروف. وروى التِّرمذيّ وابن حِبّان عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُريرة نحوه، وهو معلول، لأنّ أبا صالح لم يسمعه من أبي هُريرة، رضي الله تعالى عنه، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: الصواب عن أبي هُريرة موقوف، وقال أبو داود: تخريجه هذا منسوخ ولم يبين ناسخه، وقال الذهلي فبما حكاه الحاكم في تاريخه: ليس "فيمن غسل ميتًا فليغتسل" حديث ثابت.
وقد اختلف أهل العلم في الذي يغسل الميت، فقال بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم: إذا غسل ميتًا فعليه الغسل. وقال بعضهم: عليه الوضوء، وقال مالك: استحب غُسل من غسل الميت، ولا أرى ذلك واجبًا، وكذلك يندب عنده نية اغتسال غاسله، وفائدة ذلك أن يبالغ في تنظيف الميت، ولا يحترز من مخالطته. وقال ابن حبيب: لا غسل عليه ولا وضوء، وقال الشافعيّ في الجديد: يُندب الغسل لغاسله، وفي القديم بالوجوب.
وقال أحمد: من غسل ميتًا أرجو أن لا يجب عليه الغسل، فأما الوضوء فاضل ما فيه. وقال إسحاق: لابد من الوضوء، وروى عن ابن المبارك أنه قال: لا يغتسل ولا يتوضأ من غسل الميت، قال الخطابيّ لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه، وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه.
وهذا الأثر وصله مالك في الموطأ، عن نافع، وابن عمر قد مرَّ في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، والابن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد، ولم يذكر في الصحابة، ولا فيمن ولد على عهده عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: المسلم لا ينجس حيًا ولا ميتًا، وهذا وصله سعيد بن منصور عن ابن عباس بلفظ "قال لا تبخسوا موتاكم، فإن المؤمن ليس ينجس حيًا ولا ميتًا" إسناده صحيح، وقد روى، مرفوعًا، أخرجه الدارقطنيّ عن عبد الرحمن بن يحيى المخزوميّ عن