الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله صلى الله عليه وسلم، ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لأن الأحقاف مكية، وسورة الفتح مدنية بلا خلاف فيهما.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من يدخل الجنة". وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه، فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل، والنفي على الإِحاطة من حيث التفصيل، وفي آخر هذا الحديث، في رواية الشهادات، في باب القرعة، وفي رواية التعبير قالت أم العلاء: ورأيت لعثمان في النوم عينًا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"ذلك عمله يجري له" فقيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيءٌ من عَمِلَه، بقي له ثوابه جاريًا كالصدقة.
وأنكره مُفَلطاي وقال: لم يكن لعثمان بن مظعون شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرها مسلم من حديث أبي هُريرة، رفعه، "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" وهذا النفي مردود، فإنه كان له ولد صالح شهد بدرًا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر، وهو أحد الثلاثة.
وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته، فقد أخرج ابن سعد من مرسل أبي بُردة بن أبي موسى قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرأين هيأتها، فقلن: مالك ما في قريش أغنى من بعلك، فقالت: أما ليلُهُ فقائم .. الحديث.
ويحتمل أن يراد بعمل عثمان بن مظعون مرابطته في جهاد أعداء الله، فإنه ممن يجري له عمله، كما ثبت في السنن، وصححه الترمذيّ وابن حبان والحاكم عن فَضالة بن عبيد، رفعه "كل ميت يختمُ على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يُنْمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر"، وله شاهد عند مسلم والنسائي والبزار عن سلمان رفعه "رباطٌ يوم وليلة في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأَمِن الفتّان".
وله شواهد أخرى، فليحمل حال عثمان بن مظعون على ذلك، ويزول الإشكال من أصله، والعين الجارية في النوم، قال المُهَلَّب: تحتمل وجوهًا، فإن كان ماؤها صافيًا عبرت بالعمل الصالح، وإلا فلا. وقال غيره: العين الجارية عمل جارٍ من صدقة أو معروف لحي أو ميت أحدثه أو أجراه. وقال آخرون: عين الماء نعمة وبركة، وخير وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورًا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة يبكي لها أهل داره.
رجاله ستة:
مرت الأربعة الأول منهم بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، والباقي اثنان من السند،
وعثمان بن مظعون المذكور في الحديث.
الأول منهم خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ البخاريّ، أبو زيد المدنيّ. قال أبو الزناد: كان أحد الفقهاء السبعة، وقد مرَّ ذكرهم عند أولهم ذِكرًا في البخاري عروة بن الزبير في الثاني من بدء الوحي. وقال مصعب الزبيريّ: كان خارجة وطلحة بن عبد الله بن عوف يقسمان المواريث، ويكتبان المواثيق، وينتهي الناس إلى قولهما. وقال العجلى: مدنى تابعي ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.
وقال ابن خراشٍ: خارجةُ بن زيد أجلُّ من كل من اسمه خارجة، أدرك عثمان، وروى عن أبيه وعمه يزيد، وأسامة بن زيد وسهل بن سعد وأم العلاء وغيرهم. وروى عنه ابنه سليمان، وابنا أخويه سعيد بن سليمان بن زيد، وقيس بن سعد بن زيد، وأبو الزناد والزهري، وغيرهم. وقال ابن سعد: إن خارجة قال: رأيت في المنام أني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تدهورت، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. فمات فيها. مات بالمدينة سنة تسع وتسعين، وقيل سنة مئة.
الثانية: أم العلاء بنت الحارث بن ثابت بن حارثة بن ثعلبة بن الحِلاس بن أمية بن خُدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، يقال إنها والدة خارجة بن زيد بن ثابت الراوي عنها، كانت من المبايعات، وحديثها في الصحيحين، وفيه أنها "رأت لعثمان عينًا جارية، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذلك عمله" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعودها في مرضها.
الثالث: عثمان بن مظعون، بالظاء المعجمة، بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح الجُمَحِيّ. قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية هو وابنه السائب الذي يُكنى به في جماعة، فلما بلغهم أن قريشًا أسلمت، رجعوا فدخل عثمان في جوار الوليد بن المغيرة. ثم ذكر رده جواره، ورضاه بما عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر قصته مع لبيد بن ربيعة حين أنشد قوله:
ألا كل شيءٍ ما خَلا الله باطلٌ
فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد:
وكُل نعيم لا محالةَ زائلُ
فقال عثمان: كذبت. نعيم أهل الجنة لا يزول. فقام سفيه منهم إلى عثمان فلطم عينه فأخضرَّت.
وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص "رد النبي صلى الله عليه وسلم، على عثمان بن مظعون التبتُّلَ، ولو
أذن له لاختصينا" وروى ابن شاهين والبيهقيّ في "الشعب" عن عثمان قال: "قلت يا رسول الله، إني رجل تشق علي الغُربة، فتأذن لي في الخصي فأختصي؟ فقال: لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم".
قال أبو عمر: كان عابدًا مجتهدًا من فضلاء الصحابة، وقد كان هو وأبو ذر وعلي بن أبي طالب هَمَّوا أن يختصوا ويتبتلوا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت فيهم {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. لم يختلف في كونه شهد بدرًا وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية. وقال لا أشرب شربًا يُذْهِبُ عقلي ويُضْحِك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي.
وروى الترمذيّ عن عائشة قالت: "قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي وعيناه تذرفان". وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع، ولما توفي قال النبي عليه الصلاة والسلام:"نعم السَّلَفُ هو لنا عثمان بن مظعون". كان موته سنة اثنتين من الهجرة، وقيل بعد اثنين وعشرين شهرًا من مقدمه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وقيل: مات على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة، بعد شهوده بدرًا. وأول من تبعه إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولما مات قال عليه الصلاة والسلام:"إلحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون" وقيل إنه قال ذلك حين توفيت ابنته زينب، وأعْلَمَ صلى الله عليه وسلم قَبره بحجر، وقال: هذا قَبْرُ فَرَطِنا ندفن إليه من مات منّا، وكان يزوره.
وروى ابن عبد البر، بسنده عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل على عثمان بن مظعون حين مات، فانكبَّ عليه، فكأنهم رأوا أثر البكاء في عينيه، ثم جثا الثانية، ثم رفع رأسه، فرأوه يبكي، ثم جثا الثالثة ثم رفع رأسه وله شهيق، فعرفوا أنه يبكي، فبكى القوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما هذا من الشيطان" ثم قال: "استغفر الله، أشهد عليك أبا السائب، لقد خرجت منها ولم تلتبس منها بشيء". ولما بكت النساء جعل عمر يُسَكِّتُهنّ، فقال عليه الصلاة والسلام:"مهلًا يا عمر" ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان، فمهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد فمن الشيطان". ورثته إمرأته فقالت:
يا عينُ جُودي بدمعٍ غير ممنونَ
…
على رَزِيّةِ عثمانَ بن مَظعونِ
على امرىء بأن في رضوانِ خَالقِهِ
…
طُوبى لهُ من فقيدِ الشخصِ مَدفونِ
طابَ البقيعُ له سُكنى ومَرقَدُهُ
…
قد أشرقت إضَمٌ من بعد تفنين
وأورث القلبَ حزنًا لا انقطاعَ لَهُ
…
حتى المماتِ فما تَرقى لَه شونِ
قال في الإصابة: له حديثٌ واحد.