الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن
يعرف مبني للمجهول، ومَنْ موصولة، والضمير لها، ويحتمل أن يكون لمصدر جلس، أي جلوسًا يعرف فيه، ولم يفصح المصنف بحكم هذه المسألة، ولا التي بعدها، حيث ترجم من لم يظهر حزنه عند المصيبة، لأن كلًا منهما قابل للترجيح. أما الأول فلكونه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني من تقريره، وما يباشره بالفعل أرجح غالبًا. وأما الثاني فلأنه فعلٌ أبلغ في الصبر، وأزجر للنفس، فيرجح ويحمل فعله صلى الله عليه وسلم المذكور على بيان الجواز، ويكون فعله في حقه في تلك الحالة أولى.
وقال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة، لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلّد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، بأن يجلس المصاب جلسة حنيفة، بوقارٍ وسكينة، تظهر عليه مخايل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة.
الحديث الثامن والخمسون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَاللَّهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ. فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ.
قوله: لما جاء النبي الخ، هو بالنصب على المفعولية، والفاعل قوله "قتل ابن حارثة"، وهو زيد، وأبوه بالمهملة والمثلثة، وجعفر هو ابن أبي طالب، وابن رُواحة هو عبد الله، وكان قتلهم في
غزوة مؤتة، وقد تقدمت قصتهم مستوفاة في الباب الثالث من كتاب الجنائز، وقوله: جلس، زاد أبو داود "في المسجد" قوله: يعرف فيه الحزن، قال الطيبي: كأنه كَظَم الحزن كظمًا، فظهر منه ما لابد للجبلّة البشرية منه.
وقوله: صائر الباب، بالمهملة والهمزة بعدها، وفسر في نفس الحديث بقوله "شَق الباب"، وهو مفتح الشين المعجمة، أي الموضع الذي ينظر منه، ولم يَرد بكسر المعجمة، أي: الناحية، إذ ليست مرادة هنا. قاله ابن التين، وهذا التفسير الظاهر أنه من قول عائشة، ويحتمل أن يكون ممن بعدها. قال المازريّ: وقع في الصحيحين "صائر" والصواب، أي: بكسر أوله وسكون التحتانية، وهو الشن، قال أبو عبيد في "غريب الحديث"، عند حديث من نظر من صير الباب، ففُقئت عينه فهي هدر: الصِّير الشق، ولم نسمعه إلا في هذا الحديث. وقال ابن الجوزي: صائر وصير بمعنى واحد، وفي كلام الخطابي نحوه.
وقوله: فأتاه رجل، قال في الفتح: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمدًا لما وقع في حقه من غضِّ عائشة منه، وقوله: إن نساء جعفر، أي: امرأته أسماء بنت عميس، ومن حضر عندها من أقاربها وأقارب جعفر، ومن في معناها. ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء، ويأتي قريبًا تعريفها في السند. وقوله: وذكر بكاءَهُنّ، كذا في الصحيحين. قال الطيبيّ: هو حال من المستتر في قوله: فقال، وحذف خبر إنَّ من القول المحكي لدلالة الحال عليه، والمعنى قال الرجل: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا، مما لا ينبغي، من البكاء المشتمل مثلًا على نَوح.
وعند أبي عُوانة: قد كثر بكاؤهن، فإنْ لم يكن تصحيفًا فلا حذف ولا تقدير، ويؤيده ما عند ابن حبّان بلفظ "قد أكثرن بكاءهن". وقوله: فذهب فَنَهاهُنّ فلم يُطِعنه، وقوله: ثم أتاه الثانية لم يطعنه، أي أتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم المرة الثانية، فقال: إنهن لم يطعنه. وفي رواية أبي عُوانة. "فذكر أنهن لم يطعنه".
وقوله: فقال انهض، أي: قال له عليه الصلاة والسلام: "انهض فانههن". وقوله: والله غلبننا، وفي رواية الكشميهنيّ "لقد غلبننا" وقوله: فزعمت، أي: عائشة، وهو مقول عَمرة، والزعم قد يطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا. وقوله: إنه قال، في الرواية الآتية بعد ثلاثة أبواب "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال". وقوله: فاحثُ، بضم المثلثة وكسرها، يقال: حتى يحثُو ويحثي. وقوله: التراب، في الرواية الآتية "من التراب".
قال القرطبيّ: هذا بدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح، بخلاف الأعين مثلًا. ويحتمل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر، أو المعنى "أعلمهن أنهن خائبات من الأجر المترتب على الصبر، لما
أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب لم يحصل في يده إلَاّ التراب"، لكن يُبعد هذا الاحتمال قول عائشة الآتي "لم تفعل ما أمرك" وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته، قال عياض: هو بمعنى التعجيز، أي: أنهن لا يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإنْ أمكنك فافعل.
وقال القرطبيّ: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي، لكونه لم يصرح لهن بكون النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن، فحملن ذلك على أنه مُرشد للمصلحة من قِبَل نفسه، أو علمن ذلك، لكن غلب عليهن شدةُ الحزن، لحرارة المصيبة. ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إنْ لم يسكتن. ويحتمل أن يكون بكاءًا مجردًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن، لأنه لم يقر على باطل. ويبعد تمادي الصاحبيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم.
وفائدة نهيهنّ على الأمر المباح خشية أَنْ يسترسلن فيه، فيفضي بهنّ إلى الأمر المحرم، لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرم. وقوله: فقلت، هو مقول عائشة، وقوله: أَرْغم الله أنفك، بالراء والمعجمة، أي ألصقهُ بالرّغام، بتثليث الراء، وهو التراب، والرُّعام، بضم الراء وإهمال العين المخاطُ. قال أحد أصدقائنا:
أعجم وثلث في التراب للرّغام
…
أهمل وضم في المخاط للرّعام
ذكره العلامة الحفنيّ
…
وهو إمامٌ عالمٌ مَرْضِي
وإنما قالت له ذلك إهانة وإذلالًا، ودعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة، لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة تردده إليه في ذلك.
وقوله: لم تفعل، قال الكرمانيّ: أي: لم تبلغ النهي ونفته، وإن كان قد نهى ولم يطعنه لأن نهيه لم يترتب عليه الامتثال، فكأنه لم يفعل، ويحتمل أن تكون أرادت أنه لم يفعل، أي: الحثو بالتراب. قال في الفتح: لفظة "لم" يعبر بها عن الماضي، وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجه فمن أين علمت أنه لم يفعل؟ فالظاهر أنها قامت عندها قرينة بأنه لا يفعل، فعبرت عنه بلفظ الماضي، مبالغة في نفي ذلك عنه، وهو مشعر بن الرجل المذكور كان من أزلام النسوة المذكورات.
وفي الرواية الآتية بعد أبواب "فوالله ما أنت بفاعل ذلك" وكذا المسلم وغيره، فظهر أنه من تصرف الرواة. وقوله: من العَناء، بفتح المهملة والنون والمد، أي المشقة والتعب. وفي رواية لمسلم "من الفِيّ"، بكسر المهملة وتشديد التحتانية، وفي رواية العُذريّ "الفَيّ" بفتح المعجمة، بلفظ ضد الرشد.
قال عياض: ولا وجه له هنا، وتعقب بأنه له وجهًا، ولكن الأول أليق لموافقته لمعنى العناء الذي هو رواية الأكثر. قال النوويّ: مرادها أن الرجل قاصر عن القيام بما أمر به من الإنكار والتأديب، ومع ذلك لم يفصح بعجزه عن ذلك، ليرسل غيره فيستريح من التعب.
وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المتحجبات إلى الرجال الأجانب، وتأديب من نهي عما لا يبتغي فعله إذا لم ينته، وجواز اليمين لتأكيد الخبر، واختلف في المستحق لاسم الصبر، فقال بعضهم: المستحق لاسم الصبر هو الذي يكون في حاله مثلها قبلها، ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان، كما زعت الصوفية أن الولي لا تتم له الولاية إلا إذا تم له الرضى بالقدر، ولا يحزن على شيء، والناس في هذا الحال مختلفون، فمنهم من في قلبه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذي يكون طبعه الجزع ويملك نفسه ويستعر الصبر أعظم أجرًا من الذي يتجلد طبيعة.
قال الطبريّ كما روي عن ابن مسعود: أنه لما نُعي أخوه عتبة قال: لقد كان من أعز الناس عليّ، وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيًا، قالوا: كيف وهو أعز الناس عليك؟ قال: إنني لأُوجر فيه أحب إليّ من أن يؤجر فيّ، وقال ثابت: إن الصلت بن أشْيم مات أخوه. فجاء رجل وهو يطعم، فقال: يا أبا الصهباء، إن أخاك مات، قال: هلمَّ فكل، قد نُعي إلينا فكل. قال: والله ما سبقني إليك من نعاه، قال: يقول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .
وقال الشعبيّ: كان شُريح، رضي الله تعالى عنه، يدفن جنائزه ليلًا، فيغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح، فسأله عن المريض، فيقول هذا: لله الحمد والشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا، وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت أخته حفصة، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف في وجهه.
وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يومَ تصيبه المصيبة مثلَه قبل أن تصيبه، وأما جزع القلب وحُزن النفس ودمع العين، فإن ذلك لا يخرج العبد عن معاني الصابرين، إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز فعله، لأن نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب، وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التي جبلت عليها، لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها.
وروى المقْبَريّ عن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال الله تعالى "إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل" وقد مرَّ عند الترجمة أن الأفضل ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام من عدم الإفراط في