الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة
أي هل تجب إجابتها أَمْ لا؟ وإذا وجبت هل تبطل أم لا؟ في المسألتين خلاف، ولذلك حذف المصنف جواب الشرط، فالأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلًا، وعُلِم تأذّي الوالد بالترك، وجبت الإجابة، وإلا فلا. وإن كانت فرضًا وضاق الوقت لم تجب الإعادة، وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين، وخالفه غيره، لأنها تلزم بالشروع، وإذا أجابها بطلت. وحكى الرَّويانيّ عدم البطلان بالإجابة، وحكى الرويانيّ وجهًا في مذهب الشافعيّ بجواز قطع الصلاة لنداء الأم، فرضًا كانت أو نفلًا، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها إذا يمكنه التخفيف. وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب.
وعند ابن أبي شيبة من مرسل محمد بن المنكدر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها، وإن دعاك أبوك فلا تجبه" وبه قال مكحول، وقيل إنه لم يقل به من السلف غيره، وقال العينيّ: لا يجوز للمصلي إذا دعت أمه أو غيرها أن يقطع صلاته، لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، وحق الله تعالى الذي شرع فيه آكد من حق الأبوين حتى يفرغ منه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فلو دعا أحدًا وجبت عليه إجابته. وقال صاحب التوضيح: صرح أصحابنا بأن ذلك من خصائصه ولا تبطل الصلاة بإجابته. وعند المالكية قولان في بطلان الصلاة بإجابته عليه الصلاة السلام، ورجح عليّ الأجهوريّ عدم البطلان، وإنما كانت إجابته واجبة، لما أخرجه البخاريّ أنه عليه الصلاة والسلام "دعا أبا سعيد فأبطأ وقال: كنت أصلي، قال: ألم تسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . وفي الترمذيّ عن أبي هُريرة أنه عليه الصلاة والسلام "دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة، فخفف فجاء، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلّي، قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} قال: بلى؟ ولأجيبُ إن شاء الله تعالى.
وقال الليث حدثني جعفر عن عبد الرحمن بن هرمز قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، نادت امرأة ابنها وهو في صومعة قالت يا جريج قال اللهم أمي وصلاتي قالت اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس. وكانت تأوي إلى صومعته راعيةً ترعى الغنم فولدت فقيل لها ممن هذا الولد قالت من جريج نزل من صومعته قال جريج أين هذه التي تزعم أن ولدها
إلي قال: يا بابوس من أبوك؟ قال راعي الغنم.
وصله الإسماعيلي عن عاصم بن علي أحد شيوخ البخاريّ عن الليث مطولًا، ووصله المؤلف في أحاديث الأنبياء في باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وأخرجه أيضًا بهذا الإسناد في المظالم، ورواه الأعرج عنه كما هنا، ورواه أبو رافع عنه كما عند مسلم وأحمد، ورواه أبو سلمة عنه كما عند أحمد، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة عمران بن حصين.
وقوله: "نادت امرأة ابنها وهو في صومعته، قالت: يا جُريج" أي بجيمين مصغرًا، وأول حديث أبي سلمة "كان رجل في بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسنَّ تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له جريج" فذكر الحديث، ودل ذلك على أنه كان بعد عيسى بن مريم، وأنه كان من أتباعه؛ لأنهم هم الذين ابتدعوا الترهّب، وحبس النفس في الصوامع. والصَّوْمَعَةُ، بفتح المهملة وسكون الواو، البناء المرتفع المحدد أعلاه، ووزنها فَوْعَلَةٌ من صمعت إذا وقفت؛ لأنها دقيقة الرأس.
وفي رواية أحاديث الأنبياء "كان يصلي فجاءته أمه"، وفي رواية أبي رافع "كان جُرَيج يتعبد في صَوْمعته، فأتته أمه"، وليس في شيء من الطرق تسميتها، وفي حديث عمران بن حصين "وكانت أمه تأتيه فتناديه، فيشرف عليها فيكلمها، فأتته يومًا وهو في صلاته" وفي رواية أبي رافع عند أحمد "فأتته أمه ذات يوم فنادته، قالت: أيّ جُريج، أَشْرِف عليَّ أكلمك، أنا أمك".
وقوله "اللهم أمي وصلاتي" وفي رواية أحاديث الأنبياء "فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي" وفي رواية المظالم "فأبى أن يجيبها" ومعنى قوله: "أمي وصلاتي" أي: اجتمع علي إجابة أمي وإتمام صلاتي، فوفقني لأفضلهما، وفي رواية أبي رافع "فصادفته يصلي، فوضعت يدها على حاجبها، فقالت: يا جُريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته، فصادفته يصلي فقالت: يا جُريج أنا أمك فكلمني، فقال مثله"، فذكره وفي حديث عمران بن حُصين أنها "جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاث مرات"، وفي رواية الأعرج عند الإسماعلي "فقال أمي وصلاتي لربي، أوثر صلاتي على أمي، ذكره ثلاثًا" وكل ذلك محمول على أنه قاله في نفسه لا أنه نطق به، ويحتمل أن يكون نطق به على ظاهره؛ لأن الكلام كان مباحًا عندهم. وكذلك كان في صدر الإِسلام كما مر.
قال ابن بطّال: سبب دعاء أم جريج عليه أن الكلام كان في شرعهم مباحًا في الصلاة، فلما آثر استمراره في صلاته ومناجاته على إجابتها، دعت عليه لتأخيره حقها والذي يظهر من ترديده في قوله "أمي وصلاتي" أن الكلام عنده يقطع، فلذلك لم يجبها.
وقد روى الحسن بن سفيان وغيره، عن الليث عن يزيد بن حَوْشب عن أبيه، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان جريج عالمًا لعلم أن إجابته أمه أولى من عبادة ربه". قال في "الفتح" يزيد مجهول، وحوشب بمهملة ثم معجمة، وزن جَعْفر. ووهم الدّمياطيّ فزعم أنه ذو ظليم، والصواب خلافه؛ لأن ذا ظليم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وقع التصريح بسماعه.
وقوله: قالت: "اللهمَّ لا يموت جريج حتى ينظر في وجه الميَامِيس". وفي رواية أبي ذَرٍّ "وجوه" بصيغة الجمع، وفي أحاديث الأنبياء "اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات"، وفي رواية أبي رافع "حتى تريه المومسة" بالإفراد. وفي حديث عمران بن حصين "فغضبت، فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات".
والمومسات جمع مُوْمِسة، بضم الميم وسكون الواو وكسر الميم بعدها مهملة، وهي الزانية، تجمع على مواميس بالواو ومد الميم، وجمعت في الطريق المذكور مياميس. وقال ابن الجوزي: إثبات الياء فيه غلط، والصواب حذفها، وخُرِّج على إشباع الكسرة، وحكى غيره جوازه. وفي رواية الأعرج "أبيت أن تطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة".
وقوله: "وكانت تأوي إلى صومعته راعيةٌ ترعى الغنم، فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته" وفي رواية أحاديث الأنبياء "فتعرضت له امرأة، فظلمته، فأبى، فأتت راعيًا، فأمكنته من نفسها. وفي رواية وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عند أحمد "فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت بَغِيّ منهم، وكانت يُتَمثل بحسنها: إن شئتم لأفتنَنَّه. قالوا شئنا، فأتته فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت ففسها من راعٍ كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج".
ولم تُسمَّ هذه المرأة، لكن في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية. وفي رواية أبي سلمة "وكان عند صومعته راعي ضأن وراعية معزى" ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جُريجًا. فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل صومعته، لتتوصل بذلك إلى فتنته.
وقوله: "قالت مِنْ جُريج" في رواية أبي رافع فقالت: "هو من صاحب الدير" وفي رواية أحمد "فأخذت، وكان من زنى منهم قتل، فقيل لها: "ممن هذا؟ قالت: هو من صاحب الصومعة" وفي رواية الأعرج "قيل لها: من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب، نزل إليّ فأصابني" زاد أبو سلمة في روايته "فذهبوا إلى الملك فأخبروه، قال أدركوه، فائتوني به" وفي رواية أحاديث الأنبياء "فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه" وفي رواية أبي رافع "فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم إلى الدير، فنادوه فلم يكلمهم، فأقبلوا يهدمون ديره" وفي حديث عمران "فما شعر حتى سمع بالفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم ويلكم مالكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى".
وقوله: "وسبوه" زاد أحمد عن وهب بن جرير "وضربوه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه" وفي رواية أبي رافع عنده "فقالوا: أيْ جُريج، أنزل، فأبى يقبلُ على صلاته، فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل، فجعلوا في عنقه وعنقها حبلًا، وجعلوا يطوفون بهما في الناس" وفي رواية أبي سلمة، فقال له الملك: ويحك يا جريج، كنا نراك خير الناس، فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه". وفي حديث عمران "فجعلوا يضربونه ويقولون: مراءٍ تخادع الناس بعملك" وفي رواية الأعرج "فلما مرّوا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن، فتبسم، فقالوا: لم يضحك حتى مرَّ بالزواني" وفي الرواية المذكورة زيادة "فتوضأ وصلى" وفي رواية وهب بن جرير "فقام وصلى ودعا" وفي حديث عمران "قال: فتولَّوا عنه، فتولَّوا عنه، فصلى ركعتين".
وقوله: "يا بابوس من أبوك؟ قال: راعي الغنم" وبابوس، موحدتين بينهما ألف والثانية مضمومة وآخره سين مهملة، قال القزاز: هو الصغير. وقال ابن بطال: الرضيع، وهو بوزن جاسوس، واختلف هل هو عربي أو معرب، وأغرب الداوديّ الشارح فقال: هو اسم ذلك الولد بعينه، وفيه نظر، وقد قال الشاعر:
حَنَّتْ قَلُوصي إلى بابوسها جَزَعًا
قال الكرمّانيّ: إن صحت الرواية بتنوين السين، تكون كنية له، ويكون معناه يا أبا الشدة، وفي رواية أحاديث الأنبياء، ثم أتى الغلام، فقال:"من أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي" زاد في رواية وهب بن جرير "فطعنه بإصبعه، فقال: بالله يا غلام، من أبوك؟ قال: أنا ابن الراعي" وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك في البر والصلة "أنه سألهم أن يُنْظِروه فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول: أيته السنحلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم. وفي رواية أبي رافع "ثم مسح رأس الصبيِّ فقال: من أبوك؟ فقال: راعي الضأن" وفي روايته عند أحمد "فوضع أصبعه على بطنها" وفي رواية أبي سلمة "فأتي بالمرأة والصبيّ، وفمه في ثديها، فقال له جُريج: يا غلام، من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثّدي وقال: أبي راعي الضأن" وفي رواية الأعرج فلما أدخل على ملكهم قال: اين الصبي الذي ولدته؟ فأُتي به، فقال: من أبوك؟ فقال: فلان، سمَّى أباه. قال في "الفتح": لم أقف على اسم الراعي، ويقال إن اسمَه صهيب، وقد مرَّ قريبًا أن الابن لم يُسَمَّ، إلا ما قال الداوديّ، ومرَّ أنه مردود، وفي حديث عران "ثم انتهى إلى شجرة، فأخذ منها غصنًا، ثم أتى الغلام وهو في مهده، فضربه بذلك الغصن، فقال من أبوك؟ " وفي التنبيه لأبي الليث السَّمَرْقَنْدِيّ بغير إسناد، أنه قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فأتى تلك الشجرة، فقال: يا شجرة، أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها: راعي الغنم. ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر، بأنه مسح رأس الصبي ووضع أصبعه على بطن أمه، وطعنه بأصبعه، وضربه بطرف العصا التي كانت معه. وأبعد من جمع بينها بتعدد القصة، وأنه استنطقه وهو في بطنها قبل أن تلد، ثم استنطقه بعد أن ولد.
زاد في رواية وهب بن جرير "فوثبوا إلى جريج، فجعلوا يقبّلونه" وزاد الأعرج في روايته "فَأبَرّ الله جريجًا، وأعظم الناس أمر جُريج" وفي رواية أبي سلمة "فسبح الناس، وعجبوا" وفي رواية أحاديث الأنبياء "قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين" وفي رواية وهب بن جرير "ابنوها من طين كما كانت" وفي رواية أبي رافع "فقالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا، ولكن أعيدوه كما كان، ففعلوا" وفي نقل أبي الليث، فقال له الملك: نبنيها من ذهب، قال: لا، قال: من فضة؟ قال: لا، إلا من طين" وفي رواية أبي سلمة "فردوها فرجع في صومعته، فقالوا: بالله ممن ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليّ أمي".
وفي رواية أحاديث الأنبياء "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى وجريج هذا، ثم قال: وكانت امرأة ترضع ابنًا لها من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة"، بالشين المعجمة، أي: صاحب حسن، وقيل: صاحب هيأة ومنظر وملبس حسن يتعجب منه، ويشار إليه. وفي رواية خلاس "ذو شارة حسنة" وهي عند أحمد وفيها "فارس متكبر، فقالت اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها، فأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه". قال أبو هريرة: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه، ثم مرت بأمَةٍ فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها. وقال: اللهم اجعلني مثلها.
وفي رواية وهب بن جرير عند أحمد "تضرب"، وفي رواية الأعرج:"تجرر ويلعب بها" فقالت له ذلك، أي: سألت ابنها عن سبب كلامه، فقال: الراكبُ جَبّار. وفي رواية الأعرج "فإنه كافر، وهذه الأمة يقولون: سرقتِ زنيتِ، ولم تفعل. وفي رواية أحمد يقولون: سرقتِ ولم تسرق، زنيتِ ولم تزنِ، وهي تقول: حسبي الله.
وفي رواية خلاس المذكورة أنها كانت حبشية أو زنجية، وأنها ماتت فجروها حتى ألقَوها، وهذا معنى قوله في رواية الأعرج "تجرر". وفي رواية الأعرج يقولون لها: تزني وتقول: حسبي الله، ويقولون لها تسرق، وتقول: حسبي الله. قال في "الفتح": لم أقف على اسم المرأة، وعلى اسم ابنها، ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة.
قال القرطبيّ: في هذا الحصر في الثلاثة نظر، إلا أن يحمل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك، قبل أن يعلم الزيادة على ذلك، وفيه بُعد. ويحتمل ان يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدًا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال في غير مهد، لكنه يعكر عليه، أنّ في رواية ابن قتيبة، أنَّ الصبي الذي طرحته أمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر، وصرح بالمهد في حديث أبي هريرة، وفيه تعقّب على النووي في قوله: إن صاحب الأخدود لم يكن في المهد، والسبب في قوله هذا ما في حديث ابن عباس عند أحمد والبزار وابن حبان والحاكم "لم يتكلم في المهد إلا أربعة" فلم يذكر الثالث الذي هنا. وذكر شاهد يوسف والصبي الرضيع الذي قال لأمه، وهي ماشطة بنت فرعون، لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار: اصبري يا أمَّه فإنّا على الحق. وأخرج الحاكم
نحوه عن أبي هريرة، فيجتمع من هذا خمسة. ووقع ذكر شاهد يوسف أيضًا في حديث عمران بن حصن، لكنه موقوف، وروى ابن أبي شيبة من مرسل هلال بن يساف مثل حديث ابن عباس، إلا أنه لم يذكر ابن الماشطة.
وفي مسلم عن صهيب في قصة أصحاب الأخدود أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمَّه اصبري، فإنك على الحق. وزعم الضحاك في تفسيره، أن يحيى تكلم في المهد، أخرجه الثعلبىّ، فإنْ ثبت صاروا سبعة. وذكر البغويّ في تفسيره أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد، وفي سير الواقديّ أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد، وقد تكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة، وقصته في "دلائل النبوءة" للبيهقيّ من حديث معرض، بالضاد المعجمة.
وقد اختلف في شاهد يوسف، فقيل:"كان صغيرًا، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس" وسنده ضعيف، ومرَّ قريبًا من ذكره في أصحاب المهد، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وأخرج عن ابن عباس أيضًا ومجاهد: أنه كان ذا لحية، وعن قتادة والحسن أيضًا أنه كان حكيمًا من أهلها.
وفي هذا الحديث باعتبار طرقه من الفوائد إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبِرُّها واجب، ولذا أجيبت فيه الدعوة اعتبارًا بكونه ترك الصلة، وحسنت عاقبته، وظهرت كرامته اعتبارًا بحق الصلاة، ولم يكن هذا تناقضًا بل هو من جنس قوله عليه الصلاة والسلام "واحتجبي منه يا سَوْدة" اعتبارًا للشبه المرجوح، وقول ابن بطال: إن سبب دعائها عليه لإباحة الكلام إذ ذاك مُعارضٌ بقول جريج المشهود له بالكرامة "أمي وصلاتي" إذ ظاهره عدم إجابته كما مرَّ، ولا يقال إنْ كان جريج مصيبًا في نظره وأخذ بإجابة الدعوة فيه لزم التكليف بما لا يطاق، لأن الحق أن المؤاخذة هنا ليست عقوبة، وإنما هي تنبيه على عظم حق الأم، وإن كان مرجوعًا في اعتقاده.
وقال النوويّ: إنما دعت عليه فأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفف ويجيبها لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا وتعلقاتها. وفيه نظر، لما من من أنها كانت تأتيه فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره، وتقنع برؤيته وتكليمه، وكأنه لم يخفف ثم يجيبها؛ لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. وفيه أيضًا عظم بِرِّ الوالدين، وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذورًا، لكن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة، أو القتل. وفيه أن صاحب الصدق مع الله، لا تضره الفتن. وفيه قوة يقين جريج المذكور، وصحة رجائه؛ لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه.
وفيه أن الأمرين إذا تعارضا بُدىء بأهمهما وأن الله يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخارج، وإنما