الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والستون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ الْعَلَاءِ وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوِ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى.
قوله: عن محمد، قد رواه عارم فيما أخرجه الطبرانيّ عن حماد، فقال: عن حماد عن حفصة، بدل محمد، وله أصل عن حفصة، كما سيأتي في الأحكام عن عبد الوارث عن أيوب عنها، وكذلك أخرجه في تفسير سورة "الممتحنة" عن أيوب عن حفصة، فكأنَّ حمادًا سمعه من أيوب عن كل منهما. وقوله: عند البيعة، أي: لما بايعهنَّ على الإِسلام. وقوله: فما وفت، أي: بترك النوح، وأم سليم هي بنت مِلحان، والدة أنس، وابنة أبي سَبْرة، بفتح المهملة وسكون الموحدة.
وأما قوله: أو ابنة أبي سَبرة، وامرأة مُعاذ، فهو شك من أحد رواته، هل ابنة أبي سَبرة هي امرأة معاذ أو غيرها؟ ويأتي في كتاب الأحكام من رواية حفصة عن أم عطية بالشك أيضًا، والذي يظهر أن الرواية بواو العطف أصح، لأن امرأة معاذ بن جبل هي أم عمرو بنت خِلاد بن عمرو السُّلمية، فعلى هذا فابنة أبي سَبرة غيرها.
وفي الدلائل لأبي موسى عن حفصة عن أم عطية، وأم معاذ بدل قوله "وامرأة معاذ" وكذا في رواية عارم، لكن لفظه "أو أم معاذ بنت أبي سبرة" وفي الطبرانيّ من رواية ابن عَوْن، عن ابن سيرين عن أم عطية، "فما وفت غير أم سليم وأم كلثوم وامرأة معاذ بن أبي سبرة" والصواب ما في الصحيح "امرأة معاذ وبنت أبي سبرة" ولعلّ بنت أبي سَبرة يقال لها أم كلثوم؟
وإن كانت الرواية التي فيها أم معاذ محفوظة، فلعلها أم معاذ بن جبل. وهي هند بنت سَهْل الجُهَنية، ذكرها ابن سعد أيضًا، وعرف بجموع هذا النسوة الخمس، وهي أم سليم وأم العلاء، وأم كُلثوم وأم عمرو وهند، إن كانت الرواية محفوظة، وإلاّ فيظهر أن الخامسة أم عطية راوية الحديث. ويؤيده ما أخرجه الطبرانيّ عن عاصم عن حفصة عن أم عطية بلفظ "فما وفت غيري وغير أم سليم" لكن يعارضه ما أخرجه إسحاق بن راهَوَيْه في مسنده عن حفصة عن أم عطية قالت: كان فيما أخذ علينا أن لا ننوح. وزاد في آخره: وكانت لا تعد نفسها لأنها لما كان يوم الحَرّة لم تزل النساء بها حتى قامت معهن، فكانت لا تعد نفسها لذلك.
ويجمع بينهما بأنها تركت عد نفسها من يوم الحرة، وكان يوم الحرة قتل فيه من الأنصار من لا يحصى عدده، ونهبت المدينة الشريفة، وبذل فيها السيف ثلاثة أيام، وكان ذلك في أيام يزيد بن معاوية. وقال عياض: معنى الحديث لم يف ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع أم عطية، في الوقت الذي بايعت فيه النسوة، إلا المذكورات، لأنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة، فيه مصداق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم "بأنهن ناقصات عقل ودين".
وفيه فضيلة ظاهرة للنسوة المذكورات، ولم أر من عرّف واحدة ممن ذكرن سوى أم سليم، وأم العلاء. وفي حديث أم عطية في سورة الامتحان زيادة "ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: أسْعَدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فانطلقت، ورجعت فبايعها".
قوله: ونهانا عن النياحة، في رواية مسلم عن أم عطية قالت:"لما نزلت هذه الآية {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كان منه النياحة". وقوله: فقبضت امرأة يدها، في رواية عاصم فقلت: يا رسول الله، إلا آل فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلابد من أنْ أُسعدهم. وآل فلان المشار إليهم لم يُعرفوا. وفي رواية النَّسائيّ: قلت إن امرأةً اسعدتني في الجاهلية. ولم يعرف اسم المرأة. وتبين أن أم عطية، في رواية عبد الوارث، أبهمت نفسها. ودلت هاتان الروايتان على ما مرَّ من أن الخامسة هي أم عطية.
وقوله: أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، وفي رواية عاصم: فقال إلَاّ آلَ فلان، وفي رواية النَّسائيّ: قال: فإذ هي فأسعديها، قالت: فذهبت فساعدتها ثم جئت، فبايعت.
والإِسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلَاّ في البكاء والمساعدة عليه. ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه، عند التعاون على ذلك. قال النووي: هذا محمول على أن الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل لها ولا لغيرها في غير آل فلان، كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخص من العموم من شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم في هذا الحديث، وفيه نظر، إلا أن يُدَّعى أن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا. وفيه بعد، وإلاّ فليدعْ مشاركتهم لها في الخصوصية، وسيأتي قريبًا بيانُ ما يقدح في خصوصية أم عطية بذلك.
واستشكل القاضي عياض وغيره هذا الحديث، وقالوا فيه أقوالًا عجيبة، والمقصود التحذير من الاغترار بها، فإن بعض المالكية قال: إن النياحة ليست بحرام لهذا الحديث، وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية من شق جيب وخمش خد ونحو ذلك. قال: والصواب ما ذكرناه أولًا،
وأن النياحة حرامٌ مطلقًا، وهو مذهب العلماء كافة.
وقد جاء النقل من غير هذا المالكيّ أن النياحة ليست بحرام، وهو شاذٌ مردود، وقد أبداه القرطبيُّ احتمالًا، ورده بالأحاديث الواردة في الوعيد على النياحة، وهو دال على شدة التحريم، لكن لا يمتنع أن يكون النهيُ أولًا ورد بكراهة التنزيه، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم، فيكون الإذن لمن ذكر وقع في الحالة الأولى، لبيان الجواز، ثم وقع التحريم، فورد حينئذ الوعيد الشديد.
وقد لخص القرطبيّ بقية الأقوال التي أشار إليها النوويّ، منها دعوى أن ذلك كان قبل تحريم النياحة، قال: وهو فاسد، لمساق حديث أم عطية هذا، ولولا أن أم عطية فهمت التحريم، لما استثنت، ويؤيده أيضًا أن أم عطية صرحت بأنها من العصيان في المعروف، وهذا وصف المحرم، ومنها أن قوله: إلا آل فلان، ليس فيه نصٌّ على أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة معه، وهذا أشبه مما قبله، بل يرد على الأول ورود التصريح بالنياحة كما مرَّ كثيرًا، ويرو على الثاني أن اللقاء والبكاء المجرد لم يدخل في النهي كما مرَّ، فلو وقع الاقتصار عليه، لم يحتج إلى تأخير المبايعة حتى تفعله.
ومنها يحتمل أن يكون أراد "إلاّ آل فلان" على سبيل الإِنكار، كما قال لمن استأذن عليه فقال: مَنْ ذا؟ فقال: أنا، فقال: أنا أنا، فأعاد عليه كلامه منكرًا عليه. ومنها أن ذلك خاص بأُم عطية، قال: وهو فاسد فإنها لا تختص بتحليل شيء من المحرمات، ويقدح في دعوى تخصيصها أيضًا ثبوت ذلك لغيرها.
ويعرف منه أيضًا الخدش في الأجوبة الماضية، فقد أخرج ابن مَرْدَوَيه عن ابن عباس قال: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء، فبايعهن على أنْ لا يشركنَ بالله شيئًا الآية، قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله، كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني، وقد مات أخوها .. الحديث. وأخرج التِّرمذيّ عن أم سلمة الأنصارية أسماء بنت يزيد قالت: قلت يا رسول الله، إن بني فلان أسعدوني على عمي، ولابد من قضائهن، فأبى، قالت: فراجعته مرارًا، فأذن لي، فلم أنح بعد.
وأخرج أحمد والطبريّ عن مصعب بن نوح قال: أدركتُ عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذ علينا "ولا ينحن" فقالتْ عجوزٌ: يا نبي الله، إن ناسًا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أُريد أن أُسعدهم. قال: فاذهبي فكافئيهم. ثم إنها أتت فبايعته. وظهر من هذا كله أن أقرب الأجوبة أنها كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريم.