الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة
وجه التسوية بينهما أنه ربما ظهر من كل منهما حرفان، وهما أقل ما يتألف منه الكلام، وأشار المصنف إلى أن بعض ذلك يجوز، وبعضه لا يجوز، فيحتمل أنه يرى التفرقة بين ما إذا حصل من كل منهما كلام مفهوم أو لا، أو الفرق ما إذا كان حصول ذلك محققًا وإلّا فلا، وقال العينيّ: لا دلالة في الترجمة على ذلك، وإنما تدل على أن كل واحد منهما جائز، والظاهر عندي ما قاله صاحب "الفتح" فإن "من" في قوله:"ما يجوز من البصاق" دالةٌ على التبعيض.
ثم قال: ويذكر عن عبد الله بن عمر "ونفخ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سجوده في كسوف" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد، وصححه ابن خُزَيمة والطّبريّ، وابن حِبّان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله ابن عمرو، قال: كَسَفِت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام وقمنا معه، الحديث بطوله. وفيه:"وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد" وذلك في الركعة الثانية، وإنما ذكره البخاريّ بصيغة التمريض؛ لأن ابن السائب مختلف في الاحتجاج به، وقد اختلط في آخر عمره، لكنه أخرجه ابن خزيمة عن سفيان الثوري عنه، وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه، وأبوه وَثَّقه العجليّ وابن حبان، وليس هو من شرط البخاريّ. قال ابن بطال: رُوي عن مالك كراهة النفخ في الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام، وهو قول أبي يوسف وأشْهَب وأحمد وإسحاق. وفي المدونة "النفخ بمنزلة الكلام، ويقطع الصلاة".
قلت: مشهور مذهبه أن النفخ اليسير إذا لم يفعله عبثًا لا يُفسد، سواء كان بحرف أو لا. ولابن قَدّاح: إنْ نطق فيه بألف وفاء أبطل الصلاة، لا من الأنف مطلقًا، والنَّفْث، وهو ريح كالنفخ بغير بصاق، أو هو بصاق بلا صوت، فإن كان فعله للحاجة فلا ضرر فيه، كان بصوت أو بغيره، وإن كان لغير حاجة أفسدَ الصلاةَ عَمْدُه، وسجد لسهوه، هذا إذا كان بصوت، وإن كان بغير صوت فهو مكروه، وكذلك التنحنح، إذا كان لحاجة لا ضرر فيه، وإن كان لغير حاجة، فقيل: كالكلام يُفَرّق بين عَمْده يُبطل، وسهوه يسجد له. وقيل: لا يبطل الصلاة مطلقًا، وهو المختار.
والحاجة المنفية، قيل: المراد بها حاجة تتعلق بالصلاة، فلابد أن يكون على غير وجه العبث، وقيل: عدم الحاجة مطلقًا، تعلقت بالصلاة أم لا، وعن أبي حنيفة ومحمد: إن كان يُسمع فهو بمنزلة الكلام، وإلا فلا. قال ابن بَطّال: والقول الأول أولى، وليس في النفخ من النطق بالهمزة والفاء، أكثر مما في البصاق من النطق بالتاء والفاء. قال: وقد اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة،
فدل على جواز النفخ فيها، إذا لا فرق بينهما، ولذلك ذكره البخاري معه في الترجمة.
والمصحح عند الشافعية أنه إن ظهر من النفخ أو التنخم أو البكاء أو الأنين أو التأوه أو التنفس أو الضحك أو التنحنح حرفان، بطلت صلاته، وإلا فلا. قال ابن دقيق العيد: ولقائلٍ أن يقول: لا يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام أن يُكَوّن كل حرفين كلامًا، وإن لم يكن كذلك فالإبطال به لا يكون بالنص، بل بالقياس، فيراعى شرطه في مساواة الفرع للأصل. قال: والأقرب أن ينظم إلى مواقع الإجماع والخلاف، حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما، فما أُجمع على إلحاقه بالكلام أُلحق به، وما لا فلا.
قال: ومن ضعيف التعليل قولهم في إبطال الصلاة بالنفخ: إنه ليشبه الكلام، فإنه مردود لثبوت السنة الصحيحة، أنه صلى الله عليه وسلم نفخ في الكسوف، وأجيب بأن نفخه عليه الصلاة والسلام، محمولٌ على أنه لم يظهر منه شيء من الحروف، ورُبَّما ثبت في أبي داود عن عبد الله بن عمرو، فإن فيه "ثم نفخ في آخر سجوده، فقال أفٍ". فصرح بظهور الحرفين، وفي الحديث أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام قال:"وعُرِضت عليَّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرُّها".
والنفخ لهذا الغرض لا يقع إلا بالقصد إليه، فانتفى قول من حمله على الغلبة والزيادة المذكورة من رواية حماد بن سلمة عن عطاء، وقد سمع منه قبل الاختلاط في قول يحيى بن مُعين وأبي داود والطَّحاويّ وغيرهم. وأجاب الخطَّابيُّ بأن "أفٍ" لا تكون كلامًا حتى يشدد الفاء، قال: والنافخ في نفخه لا يخرج ألفًا صادقة من مخرجها. وتعقبه ابن الصّلاح بأنه لا يستقيم على قول الشافعية أن الحرفين كلام مبطل، أفهما أو لم يفهما، وأشار البيهقيّ، إلى أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وَرد بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل.
وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الضحك يبطل الصلاة، ولم يقيده بحرف أو حرفين، وكان الفرق بين الضحك والبكاء، أن الضحك يَهْتك حرمة الصلاة بخلاف البكاء ونحوه، ومِن ثَمّ قال الحنفية وغيرهم: إنْ كان البكاء من أجل الخوف من الله تعالى لا تبطل به الصلاة مطلقًا، قلت: الضحك المبطل للصلاة عند المالكية هو ما كان منه بصوت، وهو المسمى بالقَهْقَهة، وأما ما كان بغير صوت، فهو التبسم، ولا بطلان فيه، وعمده مكروه، ومرت مذاهب الأئمة في البكاء في باب "حد المريض أن يشهد الجماعة".
وقد ورد في كراهة النفخ في الصلاة حديث مرفوعٌ أخرجه التِّرمذيّ عن أم سَلَمة قالت: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا لنا يقال له أفْلَح، إذا سجد نفخْ، فقال: يا أفلح، تَرِّب وَجْهَك" رواه التِّرمذيّ وقال: ضعيف الإِسناد، ولو صلح لم تكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ؛ لأنه لم يأمره بإعادة الصلاة، وإنما استفاد من قوله "ترب وجهك" استحباب السجود على الأرض، فهو نحو النهي عن مسح الحصى.