الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لطائف إسناده:
فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والسماع والقول، ورواته بين بصريّ وواسطيّ وكوفيّ، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الصلاة ببيت المقدس، وفي الحج وفي الصوم، ومسلم في المناسك، والتِّرمِذِي في الصلاة، والنَّسَائيّ في الصوم، وابن ماجه في الصوم وفي الصلاة.
والثاني حديث أبي هريرة، وهو الخامس عشر.
ورجاله خمسة:
قد مرّوا، مرّ عليّ بن المَدِيْنيّ في الرابع عشر من العلم، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، والزُهريّ في الثالث منه، وسعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه.
لطائف إسناده:
فيه التحديث بالجمع والقول والعنعنة، ورواته مدنيون ما عدا سفيان، فإنه مكيّ، أخرجه مسلم وأبو داود في الحج، والنَّسَائيّ في الصلاة.
الحديث السادس عشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبيدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَاّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
قوله: "صلاة في مسجدي هذا" قال النوويّ: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم، دون ما زيد فيه بعده؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وقد أكده بقوله:"هذا" بخلاف مسجد مكة، فإنه يشمل جميع مكة، بل رجح النوويّ أنه يعم جميع الحرم، وقد اختلف العلماء هل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم؟ فقد صرّح النوويّ فيما مرّ عنه أنه خاص بما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، والجمهور على خلاف ما قاله النوويّ، فَلِما زيد في مسجده الشريف حكمُ المسجد الأصليّ عندهم.
وقوله: "إلا المسجد الحرام" قال ابن بطال: يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد فإنه مساوٍ لمسجد المدينة، أو فاضلًا أو مفضولًا، والأول أرجح؛ لأنه لو كان فاضلًا أو مفضولًا لم يعلم مقدار ذلك إلَاّ بدليل، بخلاف المساواة. قال في "الفتح": دليل الثاني ما أخرجه الإِمام أحمد وصححه
ابن حِبّان عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في هذا"، وفي رواية ابن حِبّان:"وصلاة في ذلك أفضل من مئة صلاة في مسجد المدينة".
قال ابن عبد البَرّ: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي، وفي ابن ماجه عن جابر مرفوعًا:"صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلَاّ المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض النسخ: "من مئة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه فيما سواه إلاّ مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مئة صلاة في مسجد المدينة.
ورجال إسناده ثقاتٌ، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية عن جابر وابن الزبير. وروى البزّار والطبرانيّ عن أبي الدرداء، رفعه "الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مئة صلاة. قال البزّار: إسناده حسن، فوضح بذلك أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام، وهو يرد على تأويل عبد الله بن نافع وغيره. وروى ابن عبد البَرّ عن يحيى بن يحيى اللَّيْثيّ أنه سأل عبد الله بن نافع عن تأويل هذا الحديث، فقال: معناه فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف، قال ابن عبد البر: لفظ "دون" يشمل الواحد، فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسع مئة وتسع وتسعين، وحسبك بقول يؤول إلى هذا ضعفًا.
قلت: ما قاله لا يبطل التأويل، فكما أن الدون يشمل الواحد، فكذلك يشمل النصف والثلث والربع وغير ذلك، فتكون أفضل من مكة بدون ألف بخمس مئة أو ثلاث مئة أو بمئة أو مئتين، وإنما ذكر الواحد الذي هو أقل العدد ليحصل الاستبشاع، ولو استلزمناه وقلنا إنها أفضل منها بالعدد المذكور، ما يلزم على ذلك من المحذور. واستدل بهذه الأحاديث على تفضيل مكة على المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة، وهو قول الجمهور، وحُكِيَ عن مالك، وبه قال ابن وهب ومطرف وابن حبيب من أصحابه، لكن المشهور عن مالك، وهو مذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين، وهو أحد الروايتين عن أحمد.
واستدل ابن عبد البر على تفضيل مكة على المدينة بحديث عبد الله بن عديّ بن الحمراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الخَزْوَرَة فقال: "والله إنك لخيرُ أرْضِ الله، وأحبّ أرضِ الله إلى الله. ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" وهو حديث صحيح، أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمِذِيّ وابن خُزيمة وابن حِبّان وغيرهم. قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف،
فلا ينبغي العدول عنه. قلت: أجيب عن هذا الحديث بما قاله السَّمْهُوديّ بأن ذلك محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابةُ دعوته وصيرورتها أحب مطلقًا، ولهذا افترض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم الإقامة بها، وحث هو صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به في سكناها، والموت بها، فكيف لا تكون أفضل؟
واستدل القائلون بتفضيل المدينة بحديث البخاريّ "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" مع قوله: "موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها"، وقول ابن عبد البر: هذا استدلال بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة تحامل منه بعيد من الصواب، فإن الحديث نص في تفضيل المدينة؛ لأن معنى الحديث كما قال ابن أبي جَمرة وغيرها: أنها تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة. وأنَّ العمل فيها يوجب لصاحبه روضة من رياض الجنة؛ لأن البقع المباركة والأيام المباركة ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا، إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا، وإنما كانت هكذا لعلو منزلته عليه الصلاة والسلام، فلما خص الخليل عليه الصلاة والسلام بالحجر من الجنة، خص الحبيب عليه الصلاة والسلام بالروضة من الجنة.
واستدل المفضلون لمكة بما مرّ من المضاعفة في حديث ابن الزبير وجابر، وأجاب عنه القَرَافيّ وغيره بأنَّ سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود. قال السمهودي: فالصلوات الخمس، بمنىً للمتوجه لعرفة، أفضل منها بمسجد مكة. وإنْ انتفت عنها المضاعفة إذ في الاتباع ما يربو عليها، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة. قال: ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة تفضيلَ مكة، إذ غايته أن للمفضول مزية ليس للفاضل، مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شاملٌ للأمور الدينية أيضًا، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة.
وإن أُريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب أنَّ الكلام فيما عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك، لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عيّاش المخزوميّ: أنت القائل لَمَكَّة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته. فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا. ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له عمر:"لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" فأشير إلى عبد الله فانصرف.
واستدل المفضلون للمدينة بما في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ بقرية تأكل القرى" يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفى الكِيْرُ خَبَثَ الحديد، أي: أمرني الله بالهجرة إليها إن كان قاله، عليه الصلاة والسلام، بمكة. أو بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. قال
القاضي عبد الوهاب: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا رجوح فضلها على القرى، وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: أن الفضائل تضمحلّ في جنب عظيم فضلها، حتى تكون عَدَمًا، وهذا أبلغ من تسمية مكة أم القرى؛ لأن الأُمومة لا ينمحي معها ما هي له أُم، لكن يكون لها حق الأمومة. ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب حمله عليهما، وهو أبلغ في الفرض المسوق له.
واستدلوا أيضًا بما رواه أبو يعلى عن أبي بكر الصديق أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبض النبي إلا في أحبّ الأمكنة إليه" ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى الله ورسوله فكيف لا يكون أفضل؟
وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة، ومثله معه،، ولا ريب أن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل من دعاء إبراهيم؛ لأن فضل الدعاء على فضل قدر الداعي، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" وفي رواية: "بل أشد" وقد أُجيبتْ دعوته حتى كان يحرك دابته، إذا رآها، من حبها.
وروى الحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "اللَّهمّ إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكنيّ في أحب البقاع إليك" أي: في بلد تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. وقد قيل: إن ابن عبد البر ضعَّفه، وإنه لو سلمت صحته، فالمراد أحب إليك بعد مكة، لحديث:"إن مكة خير بلاد الله". وفي رواية: "أحب أرض الله إلى الله" ولزيادة التضعيف بمسجد مكة، وتعقب هذا المسهوديّ بأن ما ذكره لا يقتضي صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته، بأن يصيرها الله كذلك، وحديث:"إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر إلى آخر ما مر.
قلت: كيف يصح تضعيف هذا الحديث مع ما صح من دعائه عليه الصلاة والسلام: "أن تكون المدينة أحب إليه"؟ وقد مرّ قريبًا أن حبه تابع لحب ربه، فلا معنى لتضعيفه. وروى الطبرانيّ: المدينة خيرٌ من مكة، وفي رواية للجنديّ:"أفضل من مكة" وفيه محمد بن عبد الرحمن الرداد، وقد تكلم فيه، واستدلوا أيضًا بما رواه ابن عبد البَرّ في آخر تمهيده عن عطاء الخراسانيّ موقوفًا "أن المرء يدفن في البقعة التي أُخذ منها ترابُه عندما يخلق، فتكون هذه البقعة أشرف البقاع لشرف من خلق منها.
وروى الزبير بن بكّار أنّ جبريل أخذ التراب التي خلق منها النبي صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة. قال الناصرون لتفضيل مكة: فعلى هذا فالبقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة من تراب الكعبة، فيرجع لفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك. قلت: هذا لا دليل فيه لما قالوا، بل عليه تكون البقعة جمعت فضل الكعبة ومكة، لكونها من الكعبة وحلت بالمدينة، وقد أجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة عليه الصلاة والسلام، أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة. كما قاله
ابن عساكر والباجيّ والقاضي عياض، بل نقل تاج الدين السّبكيّ كما ذكره السيد السَّمهودِيّ عن ابن عُقيل الحنبليّ أنه أفضل من العرش. وصرّح الفاكهانيّ بتفضيلها على السموات، فقال، وأنا أقول: هي أفضل من بقاع السموات أيضًا. وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطىء قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها بكونه عليه الصلاة والسلام حالاًّ فيها لم يبعد، بل هو المتعيِّن عندي. وحكاه بعضهم عن الأكثرين، لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها. لكنْ قال النوويّ: الجمهور على تفضيل السماء على الأرض ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة، وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة، بأن أفضلية الأماكن والأزمان إنما تكون بكثرة الثواب على الأعمال، ولا عمل على القبر، والجواب أن هذا ممنوع، ويلزمه أن لا يكون جلد المصحف بل المصحف مفضلًا، وبطلانه معلوم من الدين.
وتعقبه تقي الدين السبكيّ بما حاصله أنّ الذي قيل لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيها، وإن لم يكن عملًا لأن قبره عليه الصلاة والسلام ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد. بل هو مستحق للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأيضًا قد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حي كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن، ففضل البقعة باعتبارين، أحدهما ما قيل، أن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه كما مرّ، والثاني تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله تعالى، ولا نسلّم أن الفضل للمكان لذاته، ولكن لأجل من حلّ فيه صلى الله عليه وسلم.
وقد استنبط العارف ابن أبي جَمرة من قوله عليه الصلاة والسلام المروي في البخاريّ "ليس من بلد إلَاّ سيطؤه الدَّجَال إلَاّ مكة والمدينة" التساويّ بينهما. قال: ظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأن جميع الأرض يطؤها الدّجّال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما في الفضل. قال: ويؤيد ذلك أيضًا من وجه النظر أنه إن كانت المدينة خصت بمدفنه عليه الصلاة والسلام، وإقامته بها، ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه عليه الصلاة والسلام بها، ومبعثه، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة مكة، ومغربها المديها، وإقامته بعد النبوءة بمكة مثل إقامته بالمدينة، عشر سنين في كل واحدة منهما على قول. قلت: قد عُوّضت المدينة عن العُمرة ما صح في إتيان مسجد قُباء مما يأتي، وعن الحج ما جاء في فضل الزيارة النبوية والإقامة بالمدينة بعد النبوة، وإن كانت أقل من مكة على المشهور، فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره ونزول أكثر الفرائض، وإكمال الدين حتى كثر تردد جبريل عليه الصلاة والسلام بها، ثم استقر بها صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ولهذا قيل لمالك: أيُّما أحب إليك المقام بالمدينة أو مكة؟ فقال: هاهنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة؟
وقد جاءت أحاديث كثيرة دالّة على تفضيل المدينة، منها ما أخرجه مسلم:"يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه، هَلُمّ إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده، لا يخرج أحد رغبة عنها إلَاّ أَخلف الله فيها خيرًا منها". ففي الحديث الذم لمن خرج منها إلى أي محل كان من غير تقييد بمكة، وحكى المحبُّ الطبريّ عن قوم أنه عامٌّ أبدًا مطلقًا. قال: وهو ظاهر اللفظ، ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يصبر على لْأواءِ المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة" أو "شهيدًا".
وفيه عن سعيد مولى المَهَرِيّ أنه جاء إلى أبي سعيد الخُدريّ ليالي الحَرَّة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكى إليه أسعارها، وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك، لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يصبر أحد على لأوائها إلَاّ كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة" واللأواء، بالمد، الشدةُ والجوع. وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين، أو للعالمين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علوُّ مرتبة وزيادةُ منزلةٍ وحُظوةٍ، وهذه الشفاعة لأهل المدينة تكون بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات، ككونهم على منابر، أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات.
ومنها ما أخرجه البخاريّ عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها" أي: ينقبضِ وينضم ويلتجىء، مع أنها أصلُ في انتشاره. ومنها ما أخرجه التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وابن حِبّان في صحيحه عن ابن عُمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، ورواه الطبرانيّ في الكبير عن سُبَيعة الأسلمية، إلى غير هذا من الأحاديث.
وقد ذكر الشِّهاب الخَفَاجِيّ بحثًا حق له أن يكتب بماء الذهب، ولفظه هاهنا "بحث"، وهو أن البقعة التي ضمت الجسد العظيم، إذا كانت أفضل من سائر البقاع، يلزم أن تكون المدينة أفضل من مكة بلا نزاع؛ لأن المدينة هي تلك البقعة، مع زيادة، وزيادة الخير خير، فكيف يُتَصَوَّر الخلاف بينهم على هذا؟ بل نقول: المدينةُ بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إليها، وإقامته بها، تَفْضُلُ مكةَ حينئذ، لأن شرف المكان بالمكين، فلابد من تحرير الخلاف حتى يقام عليه الدليل. منه وإيضاح هذا البحث هو أن المذاهب، إذا سلّموا أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل من الكعبة التي شُرِّفت مكة بسببها، كيف يقولون إن مكة أفضل من المدينة؟ فإن الكعبة صارت مفضولة، ومعلوم عند كل أحد أن التابع للأفضل أفضل من تابع المفضول، ولهذا كانت أصحابه صلى الله عليه وسلم أفضل من أصحاب غيره من الأنبياء، لفضله هو عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء عليهم السلام.