الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم السادس
في مراكز البريد، والحمام، وهجن الثلج
والمراكب المسفرة به في البحر، والمناور والمحرقات
الباب الأول: في البريد
اعلم أن البريد المحرر هو أربعة فراسخ، والفرسخ هو ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي، والذراع أربعة وعشون إصبعا، والإصبع أربعة شعيرات: ظهر واحدة إلى بطن أخرى، والشعيرة أربع شعرات من ذنب بغل. فهذا هو البريد المعمول عليه كل عمل.
فأما مراكز البريد الموضوعة الآن فإنها ليست على هذا العمل، لتفاوت الأبعاد، إذا ألجأت الضرورة إلى ذلك: تارة لبعد ماء، وتارة للأنس بقرية، حتى إنك لترى في هذه المراكز البريدين قدر بريد واحد؛ ولو كانت على التحرير الذي عليه الأعمال لما كانت تفاوتت.
وقد كان البريد في عهد الأكاسرة والقياصرة، ولكن لا أعرف على أي الحالين كان، ولا أظنه إلا على المحرر، إذ كانت حكمتهم تأبى إلا ذلك.
فأما أول من وضع البريد في الإسلام فمعاوية بن أبي سفيان
- رضي الله عنه حين استقرت له الخلافة، ومات أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وسلم له ابنه الحسن، وخلا من المنازع، فوضع البريد لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأمر بإحضار رجال من دهاقين الفرس وأهل أعمال الروم وعرفهم ما يريد، فوضعوا له البرد واتخذوا لها بغالا بأكف كان عليها سفر البريد.
وقيل: إنما فعل ذلك زمن عبد الملك بن مروان حين خلا وجهه من الخوارج عليه: كعمرو بن سعيد الأشدق، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد. وكان الوليد بن عبد الملك يحمل عليه الفسيفساء - وهو الفص المذهب - من القسطنطينية إلى دمشق، حتى صفح منه حيطان المسجد الجامع. ومساجد مكة والمدينة والقدس الشريف. ولم يبق الآن إلا ما هو بجامع دمشق في الصحن، وبقية بمكة في توسعة المهدي، قريب باب بني شيبة ودار العجلة، وإلى الآن به اسم المهدي، وبقية بقبة الصخرة؛ وأما باقيه فذهب.
ثم لم يزل البريد قائما، والعمل عليه دائما، حتى آن لبناء الدولة المروانية أن ينتقض،
ولحبلها أن ينتكثن فأنقطع ما بين خراسان والعراق، لانصراف الوجوه إلى الشيعة القائمة بالدولة العباسية. ودام الأمر على هذا حتى انقرضت أيام مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، وملك السفاح ثم المنصور ثم المهدي والبردي لا يشد له سرج، ولا يلجم له دابة.
ثم إن المهدي أغزى ابنه هارون الرشيد الروم، وأحب أن يزال على علم قريب من خبره، فرتب ما بينه وبين معسكر ابنه بردا كانت تأتيه بأخباره، وتريه متجددات أيامه؛ فلما قفل الرشيد قطع المهدي تلك البرد؛ ودام الأمر على هذا باقي
مدته ومدة خلافة موسى الهادي بعده.
فلما كانت خلافة هارون الرشيد ذكر يوما حسن صنيع أبيه في البرد التي جعلها بينهما، فقال له يحيى بن خالد: لو أمر أمير المؤمنين بإجراء البريد على ما كان عليه صلاحا لملكه، فأمره به، فقرره يحيى بن خالد ورتبه على ما كان عليه أيام بني أمية، وجعل البغال في المراكز؛ وكان لا يجهز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر، ثم استمر على هذا. ولما دخل المأمون بلاد الروم ونزل على نهر البرذون، وكان الزمان حرا والفصل صيفا، قعد على النهر ودلى رجليه فيه وشرب ماءه، فاستعذبه واستبرده واستطابه، وقال لمن كان معه: ما أطيب ما شرب عليه هذا الماء؟ فقال كل رجل برأيه، فقال: أطيب ما شرب عليه هذا الماء رطب (إزاز)، قالوا له: يعيش أمير المؤمنين حتى يأتي العراق ويأكل من رطبها الإزاز، فما استتموا كلامهم حتى أقبلت بغال البريد تحمل ألطافا منها رطب إزاز، فأتي المأمون منها فأكل وأمعن، وشرب من ذلك الماء فأكثر، فعجب الحاضرون لسعادته في أنه لم يقم من مقامه حتى بلغ أمنيته، على ما كان يظن من تعذرها؛ فلم يقم المأمون من مقامه حتى حم حمى حادة كانت فيها منيته.
ثم قطع بنو بويه البريد حين علوا على الخلافة وغلبوا عليها؛ وإنما أرادوا بقطعه أن يخفى على الخليفة ما يكون من أخبارهم وحركاتهم أحيان قصدهم بغداد؛ وكان الخليفة لا يزال يأخذ بهم على بغتة.
وجاءت الملوك السلاجقة على هذا؛ وأهم ملوك الإسلام اختلاف ذات بينهم وتنازعهم، فم يكن بينهم إلا الرسل على الخيل والإبل، في كل أرض بحسبها.
فلما أتت الدولة الزنكية أقامت لهذا النجابة، وأعدت لهم النجب المنتخبة.