الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مال ولا رجال، وجزيرته ذات قحط لا يطر شاربها بزرع، ولا يدر حالبها بضرع، إلا أنها تنبت هذه الشجرة فتحمل منها وتجلب، وترسى السفن عليها بسببها وتطلب؛ وفي ملكها خدمة لرسلنا إذا ركبوا ثبج البحر، وتجهيز لهم إلى حيث أرادوا، وتنجيز لهم إذا توجهوا وإذا عادوا.
ورسم المكاتبة إليه: كالذي قبله.
أدعية تليق به: (وفقه الله لطاعته، وأنهضه من الولاء بقدر طاقته).
دعاء آخر: (وفقه الله لطاعته، وقبل منه قدر استطاعته).
دعاء آخر: (أطاب الله قلبه، وأدام إلينا قربه).
دعاء آخر: (لا زال إلى الطاعة يبادر، وعلى الخدمة أنهض قادر، ومكانه تزم إليه ركائب السفن بكل وارد وصادر).
الأذفونش ملك الأندلس
وبيده جمهور الأندلس، وبسيوفه فنيت جحاجحها الشُّمُس، وهو وارث ملك
(لذريق) الملك. وكان بأيديهم قطعة منها - أعني النصارى - أيام بني أمية حتى زالت أيامهم، ونكست أعلامهم، وخمدت سورتهم، وأخذ قسورتهم، وتقسم ملك الخلافة بأيدي ملوك الطوائف كبني عباد وبني الأفطس وبني صمادح وبني جهور وبني سعيد وغيرهم من كل قريب وبعيد، وأصبحت البلاد نهبا صيح في حجراته، وقلبا قطع بحسراته، وفرق ذلك الشمل الملتم، وأخمد ذلك الجمر المضطرم؛ ثم عاثت ذئاب النصارى في سرح الإسلام، ودبت عقاربهم في ظلل الظلام، وأمد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله بعساكره الجزيرة،
وقرب نواه الشطون
من تلك المدن المستزيرة، وطرد على نعاجهم الذئاب، وقهر عداهم وأسرع الإياب؛ وكانت تلك الكائنة التي أخذ فيها ابن عباد، وانقرض ملكه وباد.
وعادت النصارى تزأر عواديها، وتسأر الموت في كؤوس ساقيها، وأخذت عرائس تلك المدن مثل دار الخلافة قرطبة، والزهراء، والزاهرة، وإشبيلية، وبلنسية، وتلك الجبال الراسية والسفن المرسية؛ وكانت قد أخذت طليطلة، وهي القاعدة الأولى، والمملكة العضمى، والعقيلة الكبرى، وأم إقليم الأندلس، وتخت لذريق الملك، وأخذ الثغر الأعلى: سرقسطة، وطوي بساط تلك البسطة، واستعلت اليد الكافرة، واستعلنت الكلمة الظافرة، وحبس آخر من بقي من رمق المسلمين في شرق الأندلس نواحي أغرناطة والمرية، في بقعة كمفحص القطاة ضيقا، ومدرج النمل طريقا، وقد أناخ به كلكله، وأديم به توكله؛ إلا أن الله وعد دينه أن لا يخذل، وأن مصونه لا يبذل؛ وها هم الآن - وابن الأحمر، ملك المسلمين بالأندلس، آونة وآونة تارة محاربة وتارة مهادنة؛ إلا أن الله قد جرد لهم من السلطان أبي الحسن المريني - أعز
الله به حزب الإيمان - سيفا تخسأ لديه أكلبهم، ويداوي ببرد مائه كلبهم، ولولاه لاجتاحوا البقية، واحتاجوا - أعني بقية إلى الإسلام - إلى التقية.
وقد كان الأذفونش ممن قوي طمعه في بلاد مصر والشام في أخرى ليالي الايام الفاطمية، وواطى (الريد فرنس)، وحدثتهم أمانيهم بافتراس البلاد، وأملوا ما لم يكن الله مبلغه لهم، وأرسوا على دمياط وأخذت، وراشقتهم السهام فما نفذت؛ ثم عادت المساورة، وكادت المثاورة، وتقاذف الساحل رجالا زمان بني أيوب رحمهم الله ونزل على دمياط الملك الصالح أيوب، وكشف الله غمام الغمة أعقاب تلك الأيام، وأخرجت من يد دمياط تلك الشوكة الخبيثة، وأسر (الريد فرنس) وكان هو جالب تلك الرزايا، ورامي صوائب تلك البلايا، وأمسك بالخناق، ثم نفس عنه وترك في دار الصاحب فخر الدين، إبراهيم بن لقمان، كاتب الغنشاء بالمنصورة، مرسما عليه. وكان الطواشي الكبير (صبيح) ترسيمه، ثم من عليه، وأطلق على حال قرر
معه، وقال القائل وهو (ابن مطروح) من أبيات:
قل للفرنسيس إذا جئته
…
مقالة من ذي وداد نصيح
دار ابن لقمان على حالها
…
فالقيد باق والطواشي صبيح
حدثني رسول الأذفونش، بتعريف ترجمان موثوق به من أهل العدالة يسمى صلاح الدين الترجمان الناصري، أن الأذفونش من ولد هرقل المفتتح منه الشام، وأن الكتاب الشريف النبوي الوارد على هرقل متوارث عندهم محفوظ مصون، يلف بالديباج والأطلس، ويدخر أكثر من ادخار الجوهر والأعلاق، وهو إلى الآن عندهم لا يخرج، ولا يسمح بإخراجه، ينظر فيه بعين الإجلال، ويكرمونه غاية الكرامة، بوصية توارثها منهم كابر عن كابر، وخلف عن سلف؛ والذي أقول أن هرقل لم يكن الملك نفسه، وإنما كان متسلم الشام لقيصر، وقيصؤ بالقسطنطينية لم يرم، وإنما كتب النبي
صلى الله عليه وسلم إلى هرقل لأنه كان مجاورا لجزيرة العرب من قبل الشام، وعظيم بصرى كان عاملا له.
والريد فرنس: هو الملك الكبير المطاع، وإنما الأذفونش هو صاحب السطوة، وذكره أشهر في المغرب لقربه منهم وبعد الريد فرنس، إذ كانت مملكته وراء الأندلس شرقا، في الأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة، وكرسي ملكه فرنسة، وكرسي ملك الأذفونش طليطلة. ومكاتباته متواصلة، والرسل بيننا وبينهما تنقطع على سوء مقاصده وخبث سره وعلانيته: أهدى مرة إلى السلطان سيفا طويلا وثةبا بندقيا وطارقة طويلة رقيقة تشبه النعش، وفي هذا ما لا يخفى من استفتاح باب الشر والتصريح المعروف بالكناية، فكان الجواب إرسال حبل أسود وحجر، أي أنه كلب إن قيد في الحبل وإلا رمي بالحجر.
وأما (الريد فرنس) فلا أذكر له إلا فرد رسول ورد، وأبرق وأحرق بناره وأرعد، جاء يطلب بيت المقدس، على أنه يفتح له ساحل قيسارية أو عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة مع ولاته، والبلاد مناصفة، ومساجد المسلمين قائمة، وإدرارات قومهما دارة، على أنهه يبذل مائتي ألف دينار تعجل وتحمل في كل سنة نظير دخل نصف البلاد التي يتسلمها على معدل ثلاث سنين، ويطرف في سنة بغرائب التحف والهدايا. وحسن هذا كتاب من كتبة القبط، كانوا صاروا رؤوسا في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد وإن سرى في البلدان هذا السم، وتطلب له الدرياق فعز، وقالوا: هذا مال جليل يتعجل! ثم ما عسى أن يكون منهم وهم نطفة في بحر، وحصاة في دهناء.
وبلغ هذا أبي رحمه الله فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر
عليه، ولو لاوى السلطان على رأيه إن أصغى إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلم، ولو خضبت منا ثيابنا بدم، وراسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الاستعداد، فلما بكرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، أحضرت الرسل، وكان بعض أولئك الكتبة حاضرا، فاستعد لأن يتكلم، وكذلك استعدينا نحن، فما استتم كلامهم حتى غضب السلطان وحمي غضبه، وكاد يتضرم عليه حطبه، ويتعجل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاءا بما بلغه السلطان مما رده بخيبته، فصد ذلك الشيطان، وكفى الله المؤمنين القتال، وردت على راميها النصال. وكان الذي قاله السلطان:(والكم! أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكان جماعة أفراد ملفقة مجمعة، وما كان هؤلاء بعد الترك وما كان يشغلنا عنكم إلا قتال التتار، ونحن اليوم بحمد الله صلح، نحن وإياهم من جنس واحد، ما يتخلى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلا الابتداء، فأما الآن فتحصلوا وتعالوا، وإن لم تجوا فنحن نجيكم ولو أننا نخوض البحر بالخيل؛ والكم صارت لكم ألسنة تذكر القدس! والله ما ينال أحد منكم ترابة إلا ما تسفيها الرياح عليه وهو مصلوب!) وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردهم أقبح رد، ولم يقرأ لهم كتابا، ولا رد عليهم سوى هذا جوابا.
وأما رسم المكاتبة إليه: (أطال الله بقاء الحضرة السامية حضرة الملك