الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا- الأثر الموضوعي للقرآن في اللغة العربية:
أما الأثر الخاص أو الموضوعي الذي تركه القرآن الكريم في اللغة العربية، فأكبر من أن تتسع له هذه الصفحات أو المقدمات. وبحسبنا أن نشير إلى ما نقله السيوطي في التدليل على أن القرآن الكريم كان السبب المباشر في نشأة معظم علوم العربية والعلوم الإسلامية، وكيف أن العلماء تفرغوا على خدمته والعناية به في علوم كثيرة أنشئوها لذلك
…
وما زالت هذه العلوم تنمو وتتفرع حتى قامت على سوقها في القرن الرابع الهجري الذي يعتبر أزهى عصور التأليف في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.
وربما كان موضوع العلوم التي نشأت راجعة إلى القرآن الكريم، أو نشأت في سبيل خدمته وتيسير فهمه أدخل في الأثر التاريخي السابق، أو أدخل في باب الثقافة التي سنتحدث عنها في فقرة ثالثة. ولكننا على كل حال نذكّر هنا بالآثار الموضوعية- المباشرة والمحدودة- التالية:
1 -
توحد لهجات العرب: كان للعرب قبل نزول القرآن الكريم لهجات كثيرة متباينة تربو على العشرين (1) - منها الرديء المستنكر؛ ومنها الفصيح المقبول- نتيجة لاختلاف الأقاليم وظروف الحياة البدوية والحضرية ونحو ذلك،
(1) انظر الكتيب الخاص بهذه اللهجات بعنوان «لهجات العرب» للعلامة المحقق أحمد تيمور باشا رحمه الله. المكتبة الثقافية بمصر، العدد 290. وقد عدّ من هذه اللهجات: القطعة:
كقوله يا بلحكم، بدل: يا أبا الحكم- فيقطع كلامه-. وهي لثغة في بني طيّئ.
والعجعجة: إبدال الياء- جميعا- جيما في الوقف، نحو تميمج- في تميمي. وهي في قضاعة وناس من بني سعد. والعنعنة: إبدال العين من الهمزة. وتنسب إلى تميم، قال ذو الرمة: أعن ترسمت من خرقاء منزلة. أراد: أأن. والكشكشة: إبدال الشين من كاف الخطاب. والتلتلة: كسر أول حرف المضارعة. والطمطمانية: ما يشبه كلام العجم، والطمطمة: إبدال اللام ميما. والتضجع: إمالة الحرف إلى الكسر. والفحفحة: جعل الحاء عينا
…
إلخ.
ولكنها على ذلك متقاربة في أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، ولم تكن المغايرة بينها تخرجها- على كل حال- عن اعتبارها في الأصل لغة واحدة ذات قوانين تطرد في جميعها، ما عدا لغة حمير فإنها تخالف لغة مضر خلافا ظاهرا، ولا توافقها في أكثر أوضاعها ومقاييسها (1).
وإلى جانب هذا الاختلاف من حيث هيئة النطق وما إليه مما يسمى باللهجة؛ فقد كان هنالك اختلاف لغوي آخر من حيث معاني الكلمات، على نحو ما ذكر السيوطي في كتابه «المزهر» وأكده ببعض القصص، على بعد بعضها وغرابته!!
وعلى أية حال فقد قضى القرآن الكريم حين نزل بلغة قريش على هذا التناكر والاختلاف، وجمع العرب على هذه اللهجة- أو اللغة- على المدى البعيد، وقد قيل في لغة قريش: إنها كانت أفصح اللغات وأعذبها لأنها صقلت بحياة الحضر، وبكثرة الاختلاط بالقبائل العربية، نظرا لمكانة قريش الدينية والتجارية في جزيرة العرب، وقد كانت هذه اللغة يومئذ أوسع اللغات انتشارا في الجزيرة، وكان الناس يقبلون عليها ويستريحون إليها أكثر من غيرها. ويوجز الشيخ العلامة محمد الخضر حسين أسباب تفضيل لغة قريش عن سائر لغات العرب، واعتبارها أفصح هذه اللغات، بوجهين:
أحدهما: بعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ولهذا لم يحتجّ أهل الصناعة العربية إلا بلسانهم أو ما كان قريبا منه، ولم يعتمدوا لغات القبائل التي
(1) اللغة العربية (لغة مضر أو عرب الشمال في نجد) هي إحدى اللغات الأعرابية التي يقال لها خطأ: «اللغات السامية» . وإذا نظرنا في تمام القاموس العربي وفي كمال الصرف والنحو، وجب أن نعدّ اللغة العربية أمّا للغات الأعرابية جمعاء. وهذه اللغات هي: العربية والحميرية والعبرية والآرامية والبابلية وأخواتها. وسماها الدكتور فروخ أعرابية، لأنها كلها نشأت في شبه جزيرة العرب. راجع كتاب: عبقرية اللغة العربية للأستاذ الدكتور عمر فروخ رحمه الله، ص 7 دار الكتاب العربي- لبنان 1981.
تجاور غيرها من الأمم، كلغة لخم وجذام وقضاعة وغسان، ولم يخالفهم في شرطهم هذا إلا أبو عبد الله بن مالك، فنقل في كتبه لغة لخم وقضاعة وغيرهم ممن يسكن أطراف الحجاز.
ثانيهما: أن العرب كانوا يفدون عليهم في موسم الحج ويقيمون عندهم قريبا من خمسين يوما، فيتخيرون من لغات أولئك الوفود ما تعادلت حروفه وخف وقعه على الأسماع، ويرفضون كل ما يثقل على الذوق ولا يجد في السمع مساغا (1).
فإذا ذكرنا الجامعة التي أقامها القرآن للعرب، وتوحيدهم الذي تم على يديه، ذكرنا فضله في الذهاب بالجانب الأعظم من تناكر اللغات واختلاف اللهجات، وهم يقرءونه
بلغة قريش في الاعتبار الأول.
2 -
أثر القرآن في ألفاظ العربية ومعانيها: أما التأثير الذي أحدثه القرآن في ألفاظ العربية ومعانيها فهو تأثير هائل، أو هو ثورة كبرى في الواقع. وهذا الموضوع جدير بأن يفرد ببحث جاد دقيق، وبحسبنا في هذا التقديم السريع أن نقول: إذا كانت اللغة صورة لحياة الأمة وبيئتها ومعارفها، ووعاء لأفكارها وثقافتها؛ فإن تأثير القرآن الكريم في كل ذلك بالنسبة للعرب كان هائلا
…
لقد تأثرت ألفاظ اللغة العربية تأثرا مباشرا من حيث تهذيبها وترقيق حواشيها- والقرآن ينقل العرب من حال إلى حال، من البداوة إلى الحضارة، ومن الجزيرة إلى الأمصار- ومن حيث هذا الحشد من الألفاظ المشتركة والاصطلاحية والألفاظ الإسلامية الجديدة.
أما الألفاظ الاصطلاحية فيراد بها تلك التي خرجت عن دلالتها الأولى إلى الدلالة عن معان جديدة- اصطلاحية- لم تكن معروفة وموجودة عند العرب، فقد اقتضى القرآن- فوق الحياة الجديدة ونظام الدولة وما يتصل بذلك- علوما
(1) دراسات في العربية وتاريخها ص 128 طبع دار الفتح بدمشق.
شرعية ولغوية وكلامية وطبيعية
…
وفي كل علم مصطلحاته وتعريفاته
…
حتى لقد قام بعض المصنّفين بوضع معاجم خاصة لتلك المصطلحات العلمية مثل كتاب «التعريفات» للجرجاني و «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي
…
قال ابن فارس: «كان العرب في جاهليتهم على إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت، فعفّى الآخر الأول، وشغل القوم- بعد المغاورات والتجارب وتطلّب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة- بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتفقه في دين الله عز وجل، وحفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام.
فصار الذي نشأ عليه آباؤهم ونشئوا عليه كأن لم يكن!
وحتى تكلموا في دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دوّن وحفظ حتى الآن».
وبعد أن ذكر ابن فارس طائفة من العلوم الشرعية ومصطلحاتها التي جدت على لغة العرب، قال:«فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عما ألفوه ونشئوا عليه وغذوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه» .
ثم عرض لبعض التعريفات أو الألفاظ الإسلامية التي جاءت على وفق المعاني اللغوية، وما أضافته إليها وقيدته، وقال: «فالوجه في هذا إذا سئل الإنسان عنه أن يقول: في الصلاة اسمان لغوي وشرعي، ويذكر ما كانت العرب تعرفه، ثم ما جاء الإسلام به. وهو قياس ما تركنا ذكره من سائر العلوم
…
» (1).
(1) الصاحبي 44 - 47 المكتبة السلفية 1910.
قلت: هذا كلام قيم، وإن كان الأمر أبعد من مسألة الاصطلاحات والتعريفات، لأنه ينطلق من أن القرآن الكريم كان المحور الذي نشأت حوله جميع معارف العرب التي جدّت في حياتهم بعد الإسلام، حتى صح لنا ما أشرنا إليه في مناسبة سابقة من أن القرآن الكريم يشكل المصدر الأول للثقافة العربية الإسلامية- وملاذها الأخير- هذه الثقافة الغنية الواسعة التي اشتملت على علوم القرآن والحديث، والأدب واللغة والسيرة والفلسفة والفقه والأصول
…
والتي اتسعت لها لغة العرب بعد نزول القرآن الكريم.
ولعل هذا يختصر علينا طريق المتابعة في الأغراض والمعاني التي تركها القرآن في اللغة العربية؛ لأن الألفاظ في الواقع ليست أكثر من وعاء للمعاني والأغراض الجديدة، ولكن كما أثّر القرآن في معاني اللغة من حيث ما جاء به من اشتراع جديد، كان له أثر في ظهور معان جديدة. «فقد تناول أيضا معانيهم التي كانوا يتعاورونها بينهم فتصرّف فيها وهذّبها، وزاد بها أو نقص منها ووضعها مواضع تناسبها، بحيث أصبحت تلائم كل الأذواق في كل العصور، بعد أن كان فيها ما لا يسمح لها بالبقاء إلا في عصر جاهليّ له ذوق خاص» .
هذا وقد تأثرت معاني اللغة العربية أيضا من خروجها الجديد إلى الممالك المتحضرة تنتزع منها معاني وأخيلة هي وليدة الحضارة وربيبة المدنية، بل هي تراث أمم مختلفة ونتاج لغات متعددة.
وقد لخص العلّامة الشيخ محمد الخضر حسين- رحمه الله تأثير الإسلام في اللغة العربية- من هذه الجهة- بقوله:
«طلع الإسلام على العرب وفي هدايته من المعاني ما لم يكونوا يعلمون، بل في هدايته ما لم تف اللغة يومئذ بالدلالة عليه، فعبر عن هذه المعاني بألفاظ ازدادت بها اللغة نماء.
«ومن الجليّ أن القرآن الكريم والحديث النبويّ قد سلكا في البلاغة مذاهب ينقطع دونها كل بليغ. ثم إن فتح الممالك الكبيرة كبلاد الفرس والروم زاد مجال اللغة بسطة
بما نقل إليها من المعاني العلمية أو المدنية».
(1) دراسات في العربية وتاريخها، مصدر سابق.