الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموسيقى وترنيم الشعر، لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها
…
ولأن الشعر تتحد منه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا، وإذا طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل، بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل، لأنه ينتقل فيه دائما بين ألحان متنوعة، وأنغام متجددة!
…
» (1).
(ب) جمال القرآن اللغوي: قال الزرقاني: «ونريد بجمال القرآن اللغوي:
تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته، ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم» فإذا علمنا أن حروف الهجاء في لغة العرب موزعة بين حروف الإخفاء وحروف الإظهار والحروف المهموسة والحروف الجهرية، وحروف المد، وحروف الاستعلاء، وحروف القلقلة، وحروف التفخيم والترقيق، إلى آخر هذه التقسيمات المعروفة في فقه اللغة وفي علم التجويد
…
أدركنا طرفا من جمال القرآن اللغوي حين رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات «وحين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة، الجامعة بين اللين والشدة، والخشونة والرقة، والجهر والخفية، على وجه دقيق محكم
…
امتزجت فيه جزالة البداوة برقة الحضارة، وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة» (2).
خامسا- تعقيب عام: البيان .. والإنسان:
وقد يقال في خاتمة المطاف: إن قضية الإعجاز البياني تضعنا أمام مشكلتين رئيستين، واجهت عصورا قبلنا، كما تواجهنا نحن اليوم. وهما: كيف يتم فهم هذه القضية أمام انحدار السليقة العربية، أو أمام اختلافنا عن جيل التنزيل بوجه عام
(1) مناهل العرفان للزرقاني 2/ 309 - 310 دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 1980.
(2)
المصدر السابق 2/ 312.
في باب اللغة والبيان، والمشكلة الثانية: كيف يؤمن غير العرب، والإسلام عام لجميع الناس؟
والذين يتحدثون عن هاتين المشكلتين اليوم يريدون إلجاءنا إلى الكلام عما يسمونه «الإعجاز العلمي» أو «الإعجاز التشريعي» ، وهي الأنواع التي تحل اليوم- في قضية الدعوة إلى القرآن بالقرآن- مشكلة العرب والعجم جميعا!.
ونحن لم ننكر أن تكون مضامين القرآن من أهم وسائل تعميمه والدعوة إليه.
وأن تكون براهين أو دلائل على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد. ولكن أنكرنا أن تكون مناط الإعجاز الذي وقع به التحدّي، ومن شاء أن يسمّيها «إعجازا» من باب التجوّز فليفعل، على ما يعود من عمله هذا على القضية الأساسية من بعد وإساءة، أو خلط وتمييع، ولو عن غير قصد.
(أ) أما المشكلة الأولى فقد أجاب عنها بعض العلماء السابقين بأن هذا الإعجاز إذا كان لزم الأوائل- وهم من هم في باب البلاغة والفصاحة والبيان- فلأن يلزم سائر الأجيال من بعدهم من باب أولى!
ونحن نخشى أن يكون في هذا الرأي لون من ألوان الخدش لمسألة البعد التاريخي للقرآن التي أشرنا إليها في موضع سابق من هذا البحث. ولكن نذكّر بأن «حقيقة» الإعجاز واقعة على كل حال، وإن عجزت بعض الأجيال عن إدراك سببه أو وجهه. ونحن نقول من وجه آخر- ونرجو ألا يكون في ذلك حيف أو تجاوز-: إن جيلنا اليوم قد يكون أقدر من أجيال سابقة كثيرة على إدراك بعض مناحي الإعجاز- أي البلاغي- وما بين يدينا اليوم من تراث نقدي وأدبي، في لغة العرب وسائر لغات العالم، ينهض بنا إلى هذا المقام، أو يقوم على الأقل مقام تلك السليقة المطبوعة والبيان الموروث
…
فنظرية النظم- التي ألمحنا إلى فحواها، أو إلى فكرتها الأساسية- لم تكن إلا في عصر التصنيف، أو في العصر الذي استوت فيه العلوم والمعارف الأدبية على سوقها. كما أن الحديث اليوم عن
التصوير والنظم اللغوي أو الموسيقى كان من بعض وجوهه صدى لتيارات أدبية ونقدية مترجمة أو منقولة
…
ولعلنا نملك أن نقول: إن التراث النقدي والأدبي الذي نملكه الآن، ونملك من خلاله أن نقوم النصوص الأدبية
…
يفوق ما كان عليه الوليد بن المغيرة وغيره ممن بهرهم القرآن .. فآمن بعضهم .. ولج في العداوة والمكابرة والبغضاء بعضهم الآخر
…
ولن ينقطع هذا الخيط على كل حال، والتحدّي بالقرآن قائم إلى يوم الدين.
ولكن يبقى علينا أن نضع المسألة في إطارها الصحيح. كما أريد لها أن تكون، ولهذا فلسفته التي سنعرض لها بعد قليل.
(ب) أما مشكلة غير العرب .. فلا أدري هل ينتظر بعض الناس أن ينزل القرآن بكل لغات الأرض! ما كان منها، وما سيكون إلى يوم الدين؟ وهل يتساوق هذا مع طبيعة الأشياء، ومع طبيعة الإيمان الذي أراده الله تعالى من الإنسان؟
أليس في لغات العالم لغة هي مثال اللغات ينزل بها كتاب الله تعالى إلى الإنسان. وشعب هو، من حيث الفطرة والموهبة والاستعداد هو مثال الشعوب ينهض بحمل أعباء هذه الرسالة ويذيعها في العالمين؟ البحث هنا واسع، وقد أشرنا إلى طرف منه في الفصل الأول من فصول هذا الكتاب. ولكن لنقل: يسع العجم ما وسع العرب، كما قال علماؤنا الأوائل. ولنقل: إن بعض وجوه الإعجاز- أي البياني- تلزم حتى غير العرب. ولنقل إن من حق- أو واجب- جميع الناس أن تعمّهم «اللغة المثال» ما دام القرآن الكريم نازلا بلغة واحدة من لغات الأرض
…
إلخ، ولقد قلنا أكثر من مرة: إن في وسعنا أن نقيم الدليل لهؤلاء على أن هذا الكتاب الخالد هو كلام الله
…
من وجوه كثيرة على كل حال.
ولكن علينا أن نبقي الإعجاز الذي وقع به التحدّي في إطاره الصحيح لا نخرج به عنه. ولنذكر في نهاية المطاف ما سبق لنا أن قلناه:
«إن الكلام والبيان هو ما امتاز به الإنسان
…
فجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم
«بيانية» للإشارة إلى أن هذه الرسالة هي رسالة الإنسان
…
حيث كان الإنسان، وفي أي زمان وجد!
…
«بل جعل دليل هذه المعجزة «الناطقة» شيئا زائدا في هذا البيان، بلغ حد التحدّي أن يأتي أحد بسورة منه، فلم يستطع ذلك أحد، ولن يستطيع ذلك أحد، إشارة أيضا إلى فضيلة «البيان» التي قد يتفاضل بها «الناطقون» على قدر تفاوتهم في رقة المشاعر، ورهافة الحس، وحساسية الوجدان
…
ما دامت هذه الرسالة الإنسانية ستخاطب في الإنسان جميع ملكاته وإحساساته ومشاعره
…
«ولعل في ابتداء نزول القرآن الكريم بقوله تعالى (اقرأ) ما يشير إلى هذه «الطبيعة الإنسانية» لآخر رسالات الله تعالى إلى الإنسان: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)[سورة العلق، الآيات 1 - 5].
بل لعل في تخصيص الإنسان بالبيان في قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)[سورة الرحمن، الآيات 1 - 4]؛ ما يؤكد جميع هذه
المعاني، ويوحي بها كذلك؛ فبالبيان يمتاز الإنسان من سائر المخلوقات .. وبميزة البيان تمتاز رسالة الإسلام، وإن شئت قلت: رسالة الإنسان من سائر الرسالات.
ولم يكن البيان- بمعناه الأدق من «المنطق» كما توحي بذلك بعض الآيات القرآنية الأخرى- وقفا على لغة من اللغات، أو أمة من الأمم
…
ولكن اختيار لغة العرب لينزل بها القرآن .. وليحمل بها إلى العالم رسالة الإنسان، يشير إلى فضيلة بيانية جامعة امتاز بها اللسان العربي على كل لسان.
ولأمر ما أسلم من أسلم من العرب بهذا البيان المعجز، وقال فيه من فصحاء العرب المشركين ما قال
…
ولأمر ما يخشع أمام تلاوته من غير المسلمين والعرب من لم يسمع حرفا واحدا من لغة العرب في غابر الأزمان» (1).
(1) البيان النبوي للمؤلف ص 20 - 21. مكتبة دار الفتح بدمشق 1393 هـ.