الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك فيها
…
ثبت أنه في النظم والتأليف
…
» (1).
(ب) تعريف النظم القرآني:
والآن، ما تعريف النظم القرآني، وماذا يريد منه هذا الإمام الحصيف؟
عرّف عبد القاهر «النظم» في مواضع كثيرة من كتابه، فقال:«ليس النظم شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم» (2) وقال أيضا: «ليس النظم شيئا غير
توخّي معاني النحو فيما بين الكلم، وأنك ترتب المعاني أولا في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك» (3) وقال:
«اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم النحو» وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخلّ بشيء منها» (4)
…
إلخ.
لقد اتسع كتاب «دلائل الإعجاز» كما قلنا لشرح هذه الفكرة والدفاع عنها، بكل ما يتطلبه ذلك من الموازنة والنقد والترجيح، والأمثلة والشواهد
…
استمع إليه يقول في النص التالي، شارحا وموازنا:
«واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس.
«وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا في ذلك، علمنا أن
(1) دلائل الإعجاز ص 250.
(2)
المصدر السابق ص 392.
(3)
المصدر السابق ص 454.
(4)
نفس المصدر ص 81.
لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيدا له، أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنّيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمّنت معنى ذلك الحرف. وعلى هذا القياس» (1).
هذه هي خلاصة ما يعنيه عبد القاهر بمسألة النظم. وفي وسع الدارس لكتابه أن يلاحظ كيف خرّج عليها، وناقش وانتقد من خلالها، جميع النقاط السابقة- وسواها- التي أنكر عبد القاهر أن تكون مناط الإعجاز.
ونسوق- فيما يلي- نقده أو تخريجه لمسألة الألفاظ أو الكلم المفردة، أولا من باب الشرح والتمثيل، وثانيا: لأنه أتبعه بشاهد قرآني جلّى من خلاله «النظم النحوي» الذي قعّده أو تحدث عنه في هذه الخلاصة.
يقول عبد القاهر: «إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة المعنى التي تليها
…
» (2).
«وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه: قلقة، ونابية، ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنّبوّ عن سوء التلاؤم
…
» (3).
(1) دلائل الإعجاز ص 55.
(2)
المصدر السابق ص 46.
(3)
المصدر السابق ص 45.
ثم قدم الدليل على ذلك من قوله تعالى في سورة هود: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)[الآية 44] فقال:
«إن شككت، فتأمّل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل ابْلَعِي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء ب «يا» دون «أي» نحو «يا أيتها الأرض» ثم إضافة الماء إلى الكاف، دون أن يقال ابلعي الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل وَغِيضَ الْماءُ فجعل الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ثم إضمار السفينة قبل الذّكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة قِيلَ في الخاتمة ب قِيلَ في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب» (1).
ويوضح عبد القاهر أن رفضه للاستعارة والمجاز، وللأبواب السابقة أن تكون مناط الإعجاز، لا يعني أكثر من إنكارها مفردة، أو خارج نطاق «النظم
(1) دلائل الإعجاز ص 45 - 46.
النحوي» بمعنى أنه يقرّها ويعنى بها، ويتتبع أثرها- في الإعجاز- بوصفها جزءا من مقتضيات النظم ذاته قال- رحمه الله:
«فإن قيل: إن النظم يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك لا مساغ له!
قال: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني، التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وضروب المجاز من بعدها، من مقتضيات والنظم، وعنه يحدث، وبه يكون، لأنه لا يتصوّر أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخّ فيما بينها حكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألّف مع غيره! أفلا ترى أنه إن قدّر في «اشتعل» من قوله تعالى:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [سورة مريم، الآية 4] ألا يكون «الرأس» فاعلا له، ويكون «شيبا» منصوبا على التمييز، لم يتصوّر أن يكون مستعارا؟ وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك» (1).
يقول بعض الأدباء النقّاد (2):
«فأنت تراه قد قدّر مكان الاستعارة القرآنية وما هو بسبيلها من الصور الأدبية من دلائل الإعجاز، وإن رجع بها في ذكاء قادر إلى قضية النظم النحوي، ولكنه أغفل إغفالا تاما مكانة اللفظ ومكان المقطع والفاصلة، مدعيا أن شيئا من ذلك لا قيمة له ما لم يراع النظام النحوي في تركيبه، وفي ذلك بعض الغلوّ الذي ندفعه بما نملك من رأي، وشاهدنا على ذلك أن عبد القاهر حين تحدث عن الآية الكريمة: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)[سورة هود، الآية 44] جعل مبدأ العظمة في أن
(1) دلائل الإعجاز ص 393.
(2)
الأستاذ الدكتور محمد رجب بيومي في كتابه: البيان القرآني.
نوديت الأرض وكان النداء ب «يا» ، ثم بإضافة الكاف إلى الماء، ثم بنداء السماء وأمرها بما يخصها، ثم بمجيء الفعل «غيض» على صيغة «فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، ثم تأكيد ذلك بقوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة ب «قيل» في الفاتحة: أجل، جعل الجرجاني ما سماه بمبدإ العظمة فيما أسلف من القول.
وعلى قياسه نستطيع أن نقول: وقيل يا أرض اشربي ماءك ويا سماء امنعي، وأزيل الماء ونفّذ الأمر واستقرت على الجودي وقيل هلاكا للقوم الظالمين. فيتحقق بذلك كل ما جعله الجرجاني مبدأ العظمة وحده، ويوازي القول دون نقص».
ولكن مهلا، فإن اختيار لفظ البلع دون الشرب، وكلمة اقلعي دون امنعي، وفعل قضي المبني للمجهول، دون «نفذ» المبني للمجهول أيضا، واستوت على الجودي، دون استقرت. كلّ ذلك مما يرتفع بالآية إلى الإعجاز، وهو في صميمه راجع فيما يرجع إليه إلى اللفظ دون الإسناد.
«وما نقوله في ذلك نقوله في المقاطع والفواصل، وإن شئت فانظر مثلا قول الله عز وجل: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) [سورة المدثّر، الآيات 11 - 15] وحاول أن تقرأه على هذه الصورة: «ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت به مالا مبسوطا، وبنين حاضرين، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أكثر» فإنك إذا فعلت ذلك لم تخرج عن قضية النظم النحوي كما عناه عبد القاهر، ولكنك تغفل أثر المقطع والفاصلة، فتهبط بالكلام من مستوى إلى مستوى، وذلك ما كان ينبغي أن يلتفت إليه هذا الدارس الحصيف، وما أحراه أن يدخل اختيار اللفظ وجمال المقطع في ترتيب النظم بحيلة فكرية كما أدخل الاستعارة من قبل» (1).
(1) البيان القرآني ص 64.