الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل في نعوتها وصفاتها» (1).
ثم يقول بعد كلام طويل: «وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان» .
(أ) الإمام عبد القاهر الجرجاني وفكرة النظم القرآني:
ثم جاء الإمام عبد القاهر (المتوفى سنة 471 أو 474) فقطع شوطا بعيدا وهاما في إدراك الإعجاز، من خلال كتابه القيّم:«دلائل الإعجاز» الذي أعطى فيه لفكرة النظم القرآني صورتها الزاهية- ولعلها أزهى الصور في تاريخ الإعجاز- بل الذي أراد أن يؤسس فيه علما جديدا استدركه على من سبقه من الأئمة الذين كتبوا في «البلاغة» وفي «إعجاز القرآن» كما يلاحظ الأستاذ محمود شاكر- مدّ الله في عمره-. على الرغم من أن عمله- كما يقول الأستاذ شاكر- «كان مشوبا بحميّة جارفة لا تعرف الأناة في التبويب والتقسيم والتصنيف. وكأنّه كان في عجلة من أمره، وكأنّ منازعا كان ينازعه عند كل فكرة يريد أن يجلّيها ببراعته وذكائه وسرعة لمحه، وبقوة حجّته ومضاء رأيه» (2).
وليس في وسعنا، ولا من مهمتنا في هذه العجالة، أن نلخص نظرية الإمام عبد القاهر هذه في النظم القرآني- وقد بسط فيها القول ودافع عنها في مئات الصفحات- وقد يكون بعض جوانبها، النظرية والتطبيقية، بحاجة إلى شرح لا إلى اختصار. ولهذا، فإننا سوف نكتفي بتقديم «تعريف» لهذه النظرية، أقرب ما يكون
(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 24.
(2)
من مقدمة الأستاذ الكبير محمود شاكر لكتاب: دلائل الإعجاز، وقد قرأه وعلّق عليه، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة 1404 هـ.
إلى «تعريفات» العلوم! على النحو الذي كتبه عبد القاهر بقلمه- رحمه الله.
بالإضافة إلى تقديم طرف من نقده لبعض الآراء والأفكار الأخرى، بالقدر الذي يعين على إدراك ما يعنيه عبد القاهر بالنظم القرآني، وعلى وضعه في موضعه، وتقديره حق قدره!
يبدأ عبد القاهر، أو ينطلق من أمر مسلّم لا يتصور فيه خلاف، وهو أن الإعجاز، أو الوصف الذي صار به القرآن معجزا «ينبغي أن يكون وصفا قد تجدّد بالقرآن، وأمرا لم يوجد في غيره، ولم يعرف قبل نزوله» (1).
ثم ينفي أن يكون هذا الوصف في «الكلمات المفردة» أو في «ترتيب الحركات والسكنات» أو في «المقاطع والفواصل» ، أو في «الاستعارة» ؛ تمهيدا لبيان أن الإعجاز، أو هذا الوصف، قائم في «النظم القرآني»:
1 -
أما الكلمات المفردة فأوضاع اللغة، وهي لذلك ملك للجميع، ينطق بها البلغاء وغيرهم! وينكر الإمام عبد القاهر أن تكون هذه الكلمات قد حدث في «مذاقة حروفها وأصدائها» - بحسب عبارته- أو في معانيها جميعا وصف أو وضع لم يكن لها قبل نزول القرآن.
(1) دلائل الإعجاز ص 386.
(2)
المصدر السابق ص 386.
ويقول أيضا: «ولا يجوز أن تكون في «معاني الكلم المفردة» التي هي لها بوضع اللغة، لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدّد في معنى «الحمد» و «الرب» ومعنى «العالمين» و «الملك» و «اليوم» و «الدين» وهكذا، وصف لم يكن قبل نزول القرآن.
وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إيّاه» (1).
2 -
وكذلك لا يمكن أن يكون هذا الوصف- المعجز- في «ترتيب الحركات والسكنات» في الجمل والآيات القرآنية «حتى كأنهم تحدّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة كلمات القرآن» (2) كما يقول عبد القاهر! لأن مسيلمة وغيره قد تعاطوه في بعض حماقاتهم التي عارضوا فيها القرآن، فلم ينتهوا إلى شيء .. سوى الدلالة على إعجاز القرآن، وسخافة ما جاءوا به!
3 -
أما «المقاطع والفواصل» فليست «أكثر من التعويل على مراعاة الوزن، وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر» قال عبد القاهر: «وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدّي إلا في «فصول» من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك، ولم يتعذّر عليهم» (3) أي أن العرب الذين جاءوا بروائع القصيد، عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، والفواصل هنا، كالقوافي هناك!
4 -
وأخيرا، يستبعد عبد القاهر أن يكون الإعجاز في الاستعارة والمجاز، لأن ذلك يؤدي إلى ن يكون الإعجاز في بعض القرآن دون بعض، والقرآن معجز كله! قال عبد القاهر:«فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عدّدناه، لم يبق إلا أن يكون في النظم» و «الاستعارة» . قال: «ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السّور الطوال مخصوصة، وإذا امتنع
(1) دلائل الإعجاز ص 386.
(2)
نفس المصدر ص 387.
(3)
المصدر السابق، نفس الصفحة.