الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - التناسق الفني:
أما التناسق الفني فهو الذي يبلغ الذورة في تصوير القرآن
…
وفي بيان القرآن، فإننا نشير هنا إلى طرف من خطوطه العامة:
(أ) فهنالك التناسق الناشئ عن المقابلات الدقيقة بين الصور التي ترسمها التعبيرات «والتقابل: طريقة من طرق التصوير، وطريقة من طرق التلحين، كما يقول سيد قطب» من ذلك هاتان الصورتان اللتان يعرضهما لإماتة الأحياء، وإحياء الموتى في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)[سورة السجدة، الآيتان 26 - 27].
وهنالك أيضا المقابلة النفسية بين الكافرين والمؤمنين، والتقابل بين صورة حاضرة الآن، وأخرى ماضية في سابق العهد والأوان: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)[سورة النحل، الآية 4].
وقال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
(1) التصوير الفني ص 67.
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)[سورة الواقعة، الآيات 41 - 46].
فالسّموم والحميم، والظل الذي ليس له من الظل إلا اسمه لأنه «من يحموم» «لا بارد ولا كريم»
…
صورة هذا الشظف تقابل صورة الترف: «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» !
يقول سيد قطب- رحمه الله بعد ذلك في التعقيب على هذه الآية- وهو تعقيب جدير بالتدبّر والتأمّل
…
والإفادة منه في فهم نصوص وصور قرآنية أخرى كثيرة في كتاب الله عز وجل يقول: «وهنا موضع تأمل لطيف في هذا التصوير وفيما يماثله: فهؤلاء المتحدّث عنهم يعيشون في الدنيا الحاضرة، وصورة الترف هي الصورة القريبة، أما ما ينتظرهم من السموم والحميم والشظف فهو الصورة البعيدة. ولكن التصوير هنا لفرط حيويته يخيل للقارئ أن الدنيا طويت، وأنهم الآن هناك، وأن صورة الترف قد طويت كذلك، وصورة الشظف قد عرضت.
وأنهم يذكّرون في وسط السموم والحميم بأنهم «كانوا قبل ذلك مترفين» !
…
وذلك من قوة الإحياء حتى لينسى المشاهد أن هذا مثل يضرب، ويحسّ بأنه حاضر يشهد!» (1).
(ب) وهنالك تناسق بين أجزاء الصورة القرآنية المعروضة، من حيث ما يسمّى بوحدة الرسم، أي عدم التنافر بين جزئيات الصورة، ثم توزيع تلك الأجزاء على الرقعة بنسب معيّنة يزحم بعضها بعضا، ولا يطغى في ذلك بعضها على بعض، ويأتي أخيرا دور اللون الذي ترسم به، والتدرج في الظلال بما يحقق الجو العام المتسق مع الفكرة والموضوع (2).
(1) التصوير الفني ص 79.
(2)
راجع للتوسع في هذا اللون كتاب التصوير الفني ص 90 فما بعدها.
يقول الأستاذ سيد- رحمه الله: «خذ سورة من السور القصيرة التي ربما يحسب البعض أنها شبيهة بسجع الكهان
…
خذ سورة الفلق. فما الجو المراد إطلاقه فيها؟ إنه جو التعويذة، بما فيه من خفاء وهيمنة وغموض وإبهام، فاسمع:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5).
فما الفلق الذي يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر
…
لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام سيأتي.
يعوذ برب الفجر «من شر ما خلق» هكذا بالتنكير، وب «ما» الموصولة الشاملة. وفي هذا التنكير يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم، و «من شر غاسق إذا وقب»: الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شيء ويمسي مرهوبا مخوفا.
«ومن شر النفاثات في العقد» وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا في الظلام. «ومن شر حاسد إذا حسد» والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس، غامض كذلك مرهوب.
الجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله رب كل شيء، فلم خصصه هنا «برب الفلق» ؟ لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه. ولقد كان من المتبادر أن يعوذ من الظلام بربّ النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكم، إنما المحكّم هو حاسة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد، ولا مع جو الحسد، و «الفلق» يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، وهو مرحلة قبل سطوع النور، تجمع بين النور والظلمة، ولها جوها الغامض المسحور.
ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد؟.
هي من ناحية «الفلق والغاسق» مشهدان من مشاهد الطبيعة، ومن ناحية «النفاثات في العقد» و «حاسد إذا حسد» مخلوقان آدميان.
وهي من ناحية: «الفلق» و «الغاسق» مشهدان متقابلان في الزمان. ومن ناحية: «النفاثات» و «الحاسد» جنسان متقابلان في الإنسان.
وهذه الأجزاء موزعة على الرقعة توزيعا متناسقا، متقابلة في اللوحة ذلك التقابل الدقيق، ذات لون واحد، فهي أشياء غامضة مرهوبة، يلفّها الغموض والظلام، والجو العام قائم على أساس هذه الوحدة في الأجزاء والألوان» (1).
وتأمل هنا- بلمحة خاطفة- وحدة الصورة، أو اللوحة القرآنية، التي رسمت في الآيات التالية من سورة الرعد بخطوطها العريضة: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)[الآية 2].
ثم قال تعالى في الآية التالية- وما تزال تعرض تلك الخطوط العريضة فحسب. ولكن لاحظ كيف ينزل الخط التصويري إلى الأرض-: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(3)
[الآية 3].
وتأمل على سبيل التذكير: الخطوط المتقابلة في هذه الصورة: الرواسي والأنهار
…
وزوجان اثنان من كل الثمرات
…
والتي رسمت على الرقعة الممتدة: «وهو الذي مدّ الأرض
…
» إلخ الآية الكريمة.
أما الآية الثالثة من السورة فقد صورت «لقطة» من صورة الأرض هذه
…
فيها خطوط أكثر تفصيلا
…
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ
…
[الآية 4].
(1) التصوير الفني ص 90.
ولاحظ في هذه اللوحة التناسق في اللون والشكل، وأثر ذلك في ملء فراغات اللوحة كما يقال: بين جنّات الكروم المعروشة
…
والزرع المنبسط، والنخيل السامق!!
…
(1)
وانظر أخيرا إلى هذه اللوحة الطبيعية التي رسمت ببضع لمسات عريضة، قال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)[سورة الغاشية، الآيات 17 - 20].
إنها لوحة قاعدتاها: السماء والأرض: اتجاهان أفقيان. بينهما في الاتجاه الرأسي: الجبال والجمال
…
أبرز الأشكال والأحجام على الأرض في عالم الجماد وعالم الحيوان
…
والجمل هو الحيوان المناسب في الاتجاه الرأسي على كل حال
…
بالإضافة إلى أنه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء والجبال!!
…
وانظر كذلك هذه الدعوة إلى النظر والتأمل كيف بدأت بالإبل
…
تلك المخلوقات البارزة على الأرض التي يقف عليها الإنسان، ثم انتقلت به من تلك النقطة الرأسية إلى السماء في اتجاه الصعود إلى فوق
…
ثم كيف نزل ذلك الخط التصويري بالناظر المتأمل من السماء إلى الجبال إلى الأرض
…
حيث مواقع أقدامه، مرة أخرى (2).
وفي سورة الغاشية لوحات بلغ فيها التناسق الفني هذا أوجه كذلك
…
وفي وسع القارئ أن يقف في كتاب التصوير الفني وفي الظلال على ألوان أخرى من التناسق
…
وبخاصة ذلك التناسق الذي تستقل برسمه كلمة واحدة
(1) راجع: في ظلال القرآن ص 2044 فما بعدها. ط دار الشروق 1397 هـ.
(2)
التصوير الفني في القرآن لسيد رحمه الله، وانظر تفسيره في ظلال القرآن ص 3898 فما بعدها.
في بعض الأحيان
…
والتناسق الناشئ عن المدة المقررة لبقاء المشهد أو الصورة معروضة على الأنظار في النفس والخيال
…
علّنا ندرك الأبعاد الكاملة، أو شيئا غير قليل من هذه الكلمة التي ختم بها الأستاذ سيد قطب- رحمه الله بحثه الدقيق والواسع في التناسق والتصوير عند ما قال:
«وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق من التناسق والاتّساق:
فمن نظم فصيح، إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل، إلى لفظ معبّر، إلى تعبير مصوّر، إلى تصوير مشخّص، إلى تخييل مجسّم، إلى موسيقى منغّمة، إلى اتساق في الأجزاء، إلى تناسق في الإطار، إلى توافق في الموسيقى، إلى تفنّن في الإخراج.
وبهذا كله يتم الإبداع، ويتحقق الإعجاز».
يقول الأستاذ الدكتور صبحي الصالح: «ولعل الغاية التي انتهى إليها سيد قطب من فهم الأسلوب القرآني أن تكون أصدق ترجمة لمفهومنا الحديث لإعجاز القرآن لأنها تساعد جيلنا الجديد على استرواح الجمال الفني الخالص في كتاب الله، وتمكن الدارسين من استخلاص ذلك بأنفسهم، والاستمتاع به بوجدانهم وشعورهم» (1).
قلت: ولعل الأمر الذي انتهى إليه سيد في شأن الإعجاز بالتصوير- إن صح هذا التعبير- يوضح بعض جوانب نظرية عبد القاهر الجرجاني، ويضيف إليها؛ لا أنه يليغها ويعفّي عليها (2) .. كما أن هذه الملاحظات الدقيقة بشأن دور الألفاظ في مسألة التصوير لعلها أن تكون قد انتهت إلى سيد، حيث أوضحها ووضعها في
(1) مباحث في علوم القرآن- الطبعة الثانية: مطبعة جامعة دمشق ص 368.
(2)
أشار سيد قطب رحمه الله إلى أن عبد القاهر بلغ غاية التوفيق المقدر لباحث في عصره، وأنه كان على وشك إدراك الناحية التصويرية والتخييلية في أسلوب القرآن «ولقد كان النبع منه على ضربة معول فلم يضربها!» التصوير الفني لسيد قطب، مرجع سابق ص 29.