الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه دويّ النحل، ولكنهم لا يميزون كلاما ولا يفهمون حديثا
…
أما النبيّ الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- فلا يلبث أن تسري عنه تلك الشدة، وينجلي عنه الوحي حتى يجد ما أوحي إليه حاضرا في ذاكرته يتلوه على الناس قرآنا وذكرا للعالمين .. «فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال» ! .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا- مع المتخرصين في تفسير ظاهرة الوحي:
ونقف هنا، بكلمة عابرة، أمام تخرصات من زعم أن الوحي على هذه الصورة ضرب من الحالات المرضية التي كانت تعرض لمحمد صلى الله عليه وسلم أو أنها في أحسن أحوالها ضرب من الكشف الذاتي أو الإلهام الخاص، قالوا: إن محمدا لم يزل يفكر حتى تكونت في نفسه، بطريقة الكشف التدريجي المستمر، عقيدة رآها كفيلة بالقضاء على الوثنية! فأذاعها بين الناس
…
وندع الرد على هذا الاحتمال الثاني إلى الفقرة التالية، من خلال بيان مضامين القرآن، وأن العقيدة والمعارف التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تتأتى بالطريقة المبهمة التي أشاروا إليها، مكتفين هنا بالرد السريع على الزعم الأول، الذي ذكره مع الأسف غير واحد من المستشرقين، والذي استعاروه هذه المرة من فروض علماء النفس أو عيادة الأمراض النفسية، في تاريخ تهجمهم الطويل على مقام النبيّ الكريم- عليه صلوات الله وسلامه-، وإنكارهم المستمر لنبوته؛ فنقول:
ألا ما أعجب أن يصدر عن «حالة مرضيّة» أو غير سويّة،- من أي داء مزعوم كانت! - مثل هذا الكلام المعجز، وأن ينفصل هذا الكلام من جنس كلام النبيّ- وهو الحديث النبوي- بوجوه كثيرة تفضله صار بها معجزا على مدى الدهور والعصور! وحتى استحال على جميع الإنس والجنّ- ولذكر الجنّ هنا
دلالة هامة لأنهم من عالم الغيب- أن يأتوا بسورة من مثله، ولا يصعب على بعض الناس أن يحاكي أسلوب النبيّ نفسه، في أحاديثه التي كان يقولها في غير تلك الحالات- المرضية! - فيضع على لسانه حديثا أو أحاديث ربما ظننا أنها من كلامه صلى الله عليه وسلم لولا قواعد المحدّثين في قبول الروايات التي أبانت عن هذه النسبة الكاذبة .. ويبقى القرآن الكريم الذي جاء من طريق الوحي لا يقبل أي كلمة غريبة أو جملة مقحمة، فضلا عن انعدام القدرة على محاكاته في أي سورة من سوره كما هو معلوم. وهكذا وجد عندنا سيل أو ركام من الأحاديث الموضوعة، نفاها المحدّثون بتلك القواعد التي أصّلوها، والعلم الذي استحدثوه- علم مصطلح الحديث- ولكن أحدا لم يحتج، ولن يحتاج أبدا، إلى استخدام تلك القواعد لكي ينفي عن القرآن ما زعم بعض الأعاجم أنه منه .. من نص مفقود أو سورة مجهولة بل إن الإعلان عن مثل هذه السورة، أو الجهر
بها .. سوف يفضح- لدى أي قارئ للقرآن أيا كانت درجة ثقافته- مدى مفارقتها للقرآن وبعدها عنه! وفي جميع الأحوال: لن تكون مثل هذه السورة المزعومة أكثر من كلمات وجمل وعبارات (مسروقة) من النص القرآني نفسه، ولكنها تفتقر في صياغتها إلى أناقة الأسلوب القرآني، ونظمه وإعجازه .. وسوف تختلّ بأفواه قارئي القرآن، وتعتلّ بآذان سامعيه! ولهذا لن يتم الإعلان عنها، أو المجاهرة بها، فضلا عن التحدي ..
في يوم من الأيام! ولهذا لم يكن من باب الطرائف- عندنا- أن نستدل بالأحاديث الموضوعة على الوحي وإعجاز القرآن
…
وربّ ضارة نافعة.
وعلينا أن نذكر هنا، أو بهذه المناسبة، أن الواجب العلمي بات يقتضينا الترفع عن الوقوف أمام هذه الفروض والخزعبلات التي انطلقت عند المستشرقين وضربائهم من عقد تاريخية مستحكمة، ومحاولات دائبة لصرف الناس عن الإسلام، أو لإقامة حواجز تحول دون تأثر أقوامهم به.
على أن في وسعنا أن نؤكد النقطة التي ذكرناها أو اكتفينا بها قبل قليل- لأن
في الفقرة التالية مزيدا من البيان- من خلال الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان حول بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة- رضي الله عنها قالت:
«أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال أقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3).
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال:
زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة: وأخبرها الخبر، «لقد خشيت على نفسي»! فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق
…
الحديث».
إن في هذا الحديث دليلا على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم مع نفسه وعلى صدقه مع ربه، وأن أمر السماء فجأه وهو بغار حراء، فرجف فؤاده وانطلق يقول لخديجة:
«لقد خشيت على نفسي» ! فلم يكن صلى الله عليه وسلم في حالة من حالات الإشراق الروحي! أو حديث النفس، أو فيض الخاطر! ولو كان ينتظر مثل ذلك لما خشيه حين وجده أو اتفق له أو وقع فيه!! وصدق الله العظيم الذي خاطبه في محكم التنزيل بقوله:
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86)[سورة القصص، الآية 86].