الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا- التصوير الفني:
وعلينا أن نشير هنا إلى لونين آخرين من ألوان الإعجاز أو البيان القرآني التي ترفد نظرية عبد القاهر، وهما: التصوير الفني، والجانب الصوتي والنغم القرآني- أو ما دعاه الرافعي ب «النظم الموسيقى» .
أما التصوير الفني فإن أول من تحدث عنه الأستاذ سيد قطب- رحمه الله في كتابه القيم الذي خصّه بهذا الموضوع «التصوير الفني في القرآن» . وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور صبحي الصالح رحمه الله تعالى:
«وقد نحا سيد قطب في دراسته للقرآن منحى آخر، فلم تكن مفردات القرآن وحدها شاغلة له بموسيقاها، ولا تراكيب القرآن مستأثرة باهتمامه بتناسقها وترابطها،
وإنما كان نظره مركزا في الأداة المفضلة للتعبير في كتاب الله، ولقد وجدها في التصوير، وراح يتحدث عنها بأسلوب شعري يستهوي النفوس، ويهديها بحق إلى جمال القرآن».
قال سيد قطب: «التصوير هو الأداة المفضّلة في أسلوب القرآن، فهو يعبّر بالصورة الحسية المتخيّلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية.
ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة مجسّمة مرئية.
فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة. فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل؛ فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر،
وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنمّ عن الأحاسيس المضمرة.
«إنها الحياة هنا، وليست حكاية الحياة!» .
ثم يقول:- وهذا هو الأمر الذي ربط به سيد فكرته بقضية الإعجاز- «فإذا ذكرنا أن الأداة التي تصوّر المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخّص النموذج الإنساني أو الحادث المرئي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصوّر، ولا شخوص تعبّر أدركنا موضع الإعجاز في تعبير القرآن» (1).
وقد تحدث سيد قطب- رحمه الله عن آفاق هذا التصوير الفني في القرآن، فذكر «أنه تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالإيقاع
…
» (2)
وقال: «وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصورة، تتملاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان» ، ووصف هذا التصوير بأنه «تصوير حي منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة. تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات. فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة» (3).
ونكتفي هنا ببعض النماذج على مسائل التصوير البارزة، أو الموضحة لهذه القاعدة الهامة:
(1) التصوير الفني في القرآن- دار المعارف- ص 33.
(2)
المرجع السابق ص 102.
(3)
المرجع السابق ص 32.
(أ) من المعاني الذهنية، التي أخرجت في صورة حسية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)[سورة الأعراف، الآية 40]. والمعنى الذهني الذي تقرره الآية هو أن الكفار لن ينالوا القبول عند الله، وأنه يستحيل عليهم دخول الجنة! ولكن هذا المعنى المجرد يعرض بهذا الأسلوب التصويري
…
فيدعك «ترسم بخيالك» صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ في سمّ الخياط، ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم «الجمل» خاصة في هذا المقام، ويدع للحسّ أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة في أعماق النفس» (1).
(ب) وتأمّل هذا الشاهد في تصوير الحالات النفسية والمعنوية: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)[سورة الأنعام، الآية 71].
حيث «تبرز صورة هذا المخلوق التعيس الذي استهوته الشياطين في الأرض- ولفظ الاستهواء لفظ مصوّر لمدلوله- ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه، فيكون راحة ذي القصد الموحد، ولو في طريق الضلال! ولكن هناك من الجانب الآخر إخوان له يدعونه إلى الهدى، وينادونه: «ائتنا» وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء «حيران» موزع القلب، لا يدري أي الفريقين يجيب، ولا أي الطريقين يسلك، فهو قائم هناك شاخص متلفّت» (2).
(1) التصوير الفني ص 32.
(2)
المصدر السابق ص 38.