الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى كانت العربية اللسان المشترك لشعوب أمة واحدة، هجرت إليها ألسنتها القومية دون أن يجبرها أحد على ذلك، كما لم يكرهها مكره على أن تتخلى عن عقائدها وأديانها لتعتنق الإسلام، بل تركت لغة العرب تخوض معركتها مع لغات الشعوب الداخلة في الإسلام» (1).
(ب) القوة الواقية:
أما «القوة الواقية» أو دور حفظ اللغة العربية وتحصينها، الذي تم بفضل «وجود» القرآن الكريم فهو أخطر دور يمكن أن يؤديه كتاب للغة من اللغات، هذا إن وجد كتاب آخر- سماوي أو وضعي- أدّى قريبا من مثل هذا الدور أو عشره في لغة من لغات الأرض! وغني عن البيان أن مثل هذا الكتاب- أيا كان مصدره- ليس له وجود.
لقد وقف القرآن، وخصوصا في الزمن الذي انقسمت فيه الدولة العربية الإسلامية إلى مدن ودويلات، حائلا وسدا دون سريان اللهجات المحلية وانتشارها، ولولا هذا الكتاب الكريم الذي صانه الله تعالى عن التحريف والتبديل، وتكفّل بحفظه إلى يوم الدين، لما كان نصيب اللغة العربية من التجزؤ والانقسام بأقل منه في اللغة اللاتينية وما آلت إليه اليوم
…
وبفضل هذا الكتاب الخالد بقيت الوحدة اللسانية- والفكرية- قائمة بين شعوب الأقطار العربية، وبفضله كذلك نقرأ اليوم أدب العربية من عصر الجاهلية إلى العصر الحديث
…
في مدة ستة عشر قرنا من الزمان! (2).
(1) لغتنا والحياة ..
(2)
هذا هو منشأ هذه الظاهرة الفريدة، بل لو قدر الله تعالى لرجل مات من ألف عام أن يسمع اليوم المتحدثين بالعربية لعرفها وما أنكرها. وربما علل بعضهم ما أشرنا إليه من عدم تعرّض العربية لخطر التفكك والانحلال بأن ذلك يعود إلى عناية علماء الإسلام بضبط لغتهم، وذلك من أجل المحافظة على القرآن الكريم. وهذا عندنا وارد بدون شك ولا-
يقول ساطع الحصري: «ومما يجب أن لا يغرب عن البال أن اللغة العربية، بعد أن أصبحت لغة الجميع في هذه البلاد الشاسعة (المشار إليها في الفقرة السابقة) تعرضت إلى محن خطيرة، مدة قرون طويلة، بسبب ما طرأ على العالم العربي من التفكك السياسي، والجمود الفكري والاجتماعي، والانحطاط الثقافي، لأن كل ذلك كان من شأنه أن يؤدي إلى انحلال الروابط المادية والمعنوية بين مختلف الأقطار العربية، ويفسح مجالا واسعا لتغلب العامية، ويطلق العنان للهجات المحلية. ولذلك أصبحت اللغة العربية معرضة لخطر التفكك التام، والتفرع إلى لغات عديدة يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا، لا يترك مجالا لتفاهم المتكلمين بها
…
وذلك مثلما حدث للغة اللاتينية» (1).
ونستطيع أن نقول في التعقيب على هذا الموضوع- بكلمة عابرة-: إن الدعوات المشبوهة إلى العامية- التي أرّخت لها بدقة الدكتورة نفوسة زكريا في كتابها: تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر (2) - سيكون نصيبها الفشل المحقق، لا نقول هذا رجما بالغيب، ولكن بالنظر إلى التاريخ الذي تحدثنا عنه
يعارض ما قدمناه، ولكن ذلك الضبط لم يكن في وسعه حماية اللغة العربية من تلك الأخطار لولا وجود القرآن الكريم نفسه. ومعنى ذلك أن القرآن الكريم كان «باعثا» على ذلك الضبط، و «حافظا» لهذه اللغة.
(1)
ما هي القومية؟ ص 207 ويضيف الحصري: «وغني عن البيان أنه لو حدث ذلك، لأدّى حتما إلى انشطار الأمة العربية إلى أمم مختلفة، ولما بقي على البسيطة شيء يستحق التسمية باسم القومية العربية» .
(2)
طبع منشأة المعارف بالإسكندرية.
قبل قليل، والذي أثبت استعصاء اللغة العربية الفصيحة على الاضمحلال والتفكك والزوال، ما دام القرآن موجودا يعلن خلود لغته خلوده،، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)، وصدق الله العظيم.
إن التكفل الإلهي بحفظ القرآن الكريم- بوصف الإسلام الدين الخاتم إلى يوم الدين- يتضمن تلقائيا، أو في طياته تكفلا بحفظ اللغة العربية من التحلل والتفكك والزوال
…
فبقاء القرآن يعني بقاء لغته الشريفة! أن اللغة العربية لن يأتي عليها زمان- من وقت نزول القرآن إلى يوم الدين- تصبح فيه لغة ميتة أو تاريخية
…
أو بحيث يصبح فهمها والتعامل معها- فضلا عن استخدامها- لا يقوى عليه إلا الخاصة، أو يحتاج إلى ترجمان! ولسوف تبقى العربية مع ذلك التكفل الإلهي لسان الملايين
…
وبخاصة إذا تذكرنا أيضا قول الله تبارك وتعالى:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)[سورة القمر، الآية 17].
وعلى الرغم من اعتقادنا الجازم بأن مسألة انتصار اللغة العربية الفصيحة على سائر اللهجات و «العاميّات» في البلاد العربية، مسألة محسومة، ولا تحتاج منا إلى جهد يذكر! فإننا ننظر إلى دعوة بعضهم- اليوم وبعد الاستعمار اللغوي الثقافي الطويل في الجزائر وغيرها- إلى الكتابة بالعامية- كسعيد عقل ولويس عوض وضربائهما- على أنها دعوات مشبوهة، هدفها الأخير قطع الأمة العربية الإسلامية عن ماضيها وتراثها وتاريخها، لتبدأ- على زعمهم- من الصفر، ولتتمزّق من ثم إلى شعوب متباينة وأمم شتى! وكأن أصحاب هذه الدعوى- بالنظر إلى ما قدمناه من فضل القرآن الكريم ويده الطولى على العربية، بل ما منحه إياها من الشرف والرفعة والسموّ والقداسة- إن صح التعبير- يقومون بحركة التفاف وتطويق حول القرآن الكريم نفسه، وحول الثقافة العربية والفكر الإسلامي على وجه العموم؛ علّهم ينجحون حيث أخفق الكثير من محترفي الاستشراق والتبشير: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)[سورة الأنفال، الآية 30].