الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وللسورة القرآنية أيضا، أو ينجح- كما قلنا- في نفي وقوع التعارض في الآيات التي تواردت على موضع واحد .. نقول بتقديم هذا التفسير، لأننا نلمح فيه صورة من صور المقاربة، أو الاتفاق مع ما فهمه الصحابة من القرآن وعملوا عليه- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.
(ب) الظلال يتجاوز عصر الخلاف الجدلي أو الكلامي:
وهنا يأتي دور الإشارة إلى النقطة الثالثة، أو الأمر الثالث من مزايا ظلال القرآن، وهو تجاوزه عصر الخلاف، أو عصر المذهبية الفكرية في تفسير القرآن الكريم؛ لأن خطأ المقرر الفكري المسبق إنما كان من قبل ذلك التجزي الذي أشرنا إليه، والذي رفضه صاحب الظلال- رحمه الله، أو بعبارة أدق: لم يقع فيه، كما لم يقع فيه الجيل القرآني الأول كما قدمنا. وهذا مما دعانا إلى المقارنة أو الدعوى السابقة بأن سيدا- رحمه الله استشعر معاني القرآن كما عاشت في نفوس ذلك الجيل الفريد، ونقلها أو عبر عنها بلغته العالية على الورق والصحائف، والله أعلم.
وتحسن الإشارة هنا- بهذه المناسبة- إلى الخطأ الشنيع الذي يقع فيه بعض القراء والدارسين، وبخاصة ممن شدا شيئا من علمي التفسير والخلاف؛ حين يحاكمون الظلال إلى الصورة الكلامية التي انتهت إليهم، أو تلقوها ونشئوا عليها وآمنوا بها .. سواء في ذلك الصورة الأشعرية- وقد تكون أقرب المذاهب الكلامية من الصورة القرآنية الكاملة، من حيث النتائج لا من حيث المنهج- أو الاعتزالية، أو صورة المرجئة أو الخوارج أو الماتريدية
…
بحيث إن لم يدخل سيد- رحمه الله في باب التأويل لبعض النصوص أو إن خرج عن مدلول المذهب الأشعري في بعض المواقف؛ ظن القارئ أنه وافق الخوارج في تفسير بعض الآيات، والمعتزلة في تفسير بعض الآيات الأخرى .. كما صرح بذلك بعض من نظر في الظلال من العلماء والدارسين!! والذي نرجّحه أنهم إنما طلبوا تفسير هذه الآيات،
أو نظروا في بعض صفحات الكتاب، وحاكموا الأمر إلى ما استقر عندهم لا ما دلت عليه الآيات القرآنية بسياقها وسباقها، وموضعها من سائر أجزاء الصورة القرآنية؛ وبطريق الفهم المبتدأ أو الخضوع المباشر للآيات القرآنية بعيدا عن التعمل والتأويل!!
ونحن نقول هنا بوضوح كامل: إن آراء رجال المذاهب الكلامية ليست أصلا تفسّر في ضوئه نصوص القرآن! وليست مقرراتهم الفكرية المسبقة مقدّمات ضرورية لفهم القرآن، علما بأن هذه المقررات ليست إلا فهما مجزّأ للنص القرآني! إن الأصل عندنا لا يصير فرعا، والفرع لا ينقلب أصلا!! إن سيدا- رحمه الله لم يذهب مذهب الخوارج في مسألة، ولا رأي المعتزلة في مسألة أخرى، ولا رأي المرجئة في مسألة ثالثة- وهؤلاء جميعا وقعوا في خطأ التجزي، وخطأ التعصب للرأي المبني عليه، وليسوا على التحقيق كفارا ولا زنادقة كما نعتقد، وندين به أمام الله سبحانه وتعالى! - ولكنه كان يدخل إلى تفسير النص القرآني الكريم، بتلك الثقافة العالية، وذلك الإحساس المرهف، وتلك التجربة العملية الناضجة في حقل إقامة أمة القرآن، وإعادة صياغة المسلم وفقا لمنهج الله مرة أخرى، .. وكان يفسر النص القرآني الكريم ويستلهمه لينطق بما يدل عليه- لا بما يريد المفسّر أن ينطقه به هو بناء على مقدماته السابقة- فإن صادف أن هذا المدلول المباشر ذهب إلى مثله مرجئ أو معتزلي- مثلا- فهذا تفسير للقرآن، أو مدلول من مدلولاته، وليس اعتزالا أو إرجاء أو غير ذلك مما يظنه بعض القراء والدارسين!! ومن العجيب حقا أن يتجاوز مفسر مثل سيد- رحمه الله مثل ذلك المدلول المباشر لآية قرآنية، ويسلك فيه سبيل التأويل؛ خشية أن يطابق هذا المدلول رأيا مغايرا لرأي الأشعري أو الماتريدي
…
كأن القوم معصومون عن الخطأ في الفهم، أو كان رأيهم هو الأصل الذي يجب أن تؤول الآيات لتطابقه ولا تخالفه! إن هذا الموقف يمثل عندنا تعصبا مقيتا لا نتردد في تجاوزه ورفضه، وإن
من العجيب حقا أن يستنكر بعض الناس التعامل المباشر مع القرآن لمن يقدر على ذلك! .. فضلا عمن حلّ كثيرا من معضلات التاريخ، ونفى عن القرآن الكريم ظن التعارض الذي ألجأ السابقين إلى التأويل، وفي أدق قضايا العقيدة وغيرها كذلك.
ولا نعني بذلك أن هذا التفسير خلو من الأخطاء أو أنه لا تفسير بعده! أما هذه- الثانية- فلأن هذا يتعارض مع كون القرآن الكريم كتاب جميع العصور، وأن أبناء كل جيل واجدون من المعاني والدلائل ما لم تكن الأجيال السابقة قد تنبّهت إليه أو وقفت عليه (1).
وأما الخطأ في الشرح والتفسير، أو في الفهم والتعبير (2)؛ فذلك لا سبيل إلى إنكاره في هذا التفسير أو في غيره من التفاسير. وربما كان من المفارقات الجديرة بالتأمل- فيما نرجح- أن ما أخذه سيد نفسه على من دخل إلى تفسير القرآن
(1) ولهذا قلنا في بعض بحوثنا اللاحقة إن «المعاصرة» بالنسبة للقرآن- على الرغم من نزوله في زمن أو تاريخ معين- تتمثل في لحظة تلقي الخطاب: يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا
…
لأن هذا الخطاب قائم ومستمر. انظر: «التوجيه الإسلامي للعلوم والمعارف» للمؤلف ص 49 مؤسسة الرسالة 1412 هـ 1992 م بيروت.
(2)
يأتي فهم «عقيدة القرآن» بهذا العمق والتنزيه، والتعبير عنها على هذا النحو من السلاسة والوضوح، من أبرز ما وفّق إليه سيد قطب في تفسيره الكبير. ويتبين لنا ذلك من خلال أدنى مقارنة بين هذه العقيدة وعقائد المتكلمين، أو سائر ما يمكن تسميته: تاريخ الفكر العقائدي عند المسلمين. وقد تركت هذه العقيدة أثرها على سيد رحمه الله في السلوك والأعمال ومواقف الحياة! ومع ذلك، فإن عبارة هنا، وكلمة هناك .. حين تفرد من سائر كلامه في الشرح والتفسير، قد تكون موهمة بعض الشيء (انظر كلامه عن أحدية الوجود في تفسير سورة الإخلاص ص 4002) ولكن التدقيق في جملة كلامه في
الموطن ذاته، ثم معارضته بسائر ما كتبه في تفسيره رحمه الله إن كان ثم ضرورة لمثل هذه المعارضة! - تنفي أي لبس أو إيهام. ولكن قد لا تنفيه مع الجهالة وسوء الظن أو ضيق العطن!