الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إضافته تعالى القرآن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أو إلى جبريل، فلبيان أنه ليس بسحر كما زعم بعضهم، ولكنه كلام رَسُولٌ* مرسل به من رب العالمين، أو كلام مرسل رسول كريم، على مجاز الحذف، قال الله تعالى في سورة الحاقة: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)[الآيات 38 - 43].
وقال تعالى في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)[الآية 19].
ثانيا- مدة نزول القرآن وأول ما نزل منه وآخر ما نزل:
1 -
كانت مدة نزول القرآن الكريم ثلاثا وعشرين سنة؛ لأن مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكة كان ثلاث عشرة سنة اتفاقا، ومقامه في المدينة عشر سنوات على أشهر الروايات.
وقد تتابع نزول القرآن خلال هذه المدة الطويلة، فكانت تنزل السورة مرة، وتنزل الآية أو الآيات مرة أخرى، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ضعوا هذه الآية في موضع كذا من سورة كذا، كما سنرى عند الكلام على تأليف القرآن- جمعه- على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى تم نزول هذا الكتاب الكريم قبيل وفاة النبيّ- عليه الصلاة والسلام.
2 -
وكان أول ما نزل من القرآن قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)(1).
أنزل عليه القرآن يخشى أن يتفلّت منه، فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ:
أن نجمعه في صدرك. وَقُرْآنَهُ: أن تقرأه .. الحديث: البخاري 6/ 76.
(1)
نشير هنا إلى أن المناخ العقلي الذي أشاعه القرآن الكريم والشروط النفسية والاجتماعية التي أوجدها، والتي كانت السبب في الاكتشاف والتقدم العلمي في الإسلام، كما سنشير في مبحث التفسير العلمي للقرآن في الباب الرابع، بدأت مع بداية الوحي.-
يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة الذي أشرنا إليه عند الكلام على الوحي وصوره في البحث السابق. غير أنه قد روى الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟
فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو (اقرأ باسم ربك الذي خلق). فقال أحدثكم ما حدّثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي (1)، فإذا هو جبريل، فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ
…
»).
ولكن هذه الرواية تشير في الواقع إلى أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي، بدليل ما رواه الشيخان أيضا من حديث جابر نفسه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني
يقول الأستاذ مالك بن نبي: «بينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنه على عملية التجسيد، ينفتح القرآن على الجانب العقلي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ....
اقْرَأْ
…
هذه هي الكلمة الأولى التي تفتح إليها أول ضمير إسلامي، ضمير محمد، ويتفتح لها بعده كل ضمير مسلم.
إن الحروف هي حقا أداة النقل للروح، لكل رسالة، لكل بلاغ، فهي الحامل والرمز لكل معلومة من المعلومات، فأول ما نزل به القرآن يشير إلى أهميتها، ويخصص موضوعها بالذكر، ويرسم في الضمير الإسلامي قيمتها منذ اللحظة الأولى في كلمة اقْرَأْ.
«إن الحرف ينقل ويبلغ الروح، وفي نفس الوقت يحفظه من الضياع، وسيحفظ أولا وقبل كل شيء القرآن نفسه، ذلك الكتاب الذي لم يتغير فيه حرف واحد منذ أربعة عشر قرنا، على خلاف كل الكتب الأخرى
…
» كتاب «إنتاج المستشرقين» للأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ص 32.
(1)
زاد في رواية: فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء.
بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثيت (1) حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زمّلوني زمّلوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ
…
إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. قال: فحمي الوحي وتتابع».
فكأن جابر بن عبد الله حدث بالحديث الأول قبل ما سمعه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من نزول الملك عليه بسورة «اقرأ» .
3 -
أما آخر ما نزل من القرآن، فهو قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ كما نقل ذلك عن ابن عباس. وفي رواية للبخاري عن ابن عباس أيضا أن آخر آية نزلت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وعن سعيد بن المسيب «أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدّين وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ- إلى قوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- وهي أطول آية في القرآن، وقال السيوطي- رحمه الله: إن هذه الآراء الثلاثة يمكن الجمع بينها، لأن هذه الآية نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصاحف (2) لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وإن كان من الراجح أن آخر ما نزل بإطلاق هو قول تعالى:
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
لأن بعض الروايات تنص على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفى بعد نزول هذه الآية بتسع ليال فقط (3).
على أن الزركشي في البرهان عدد بضع روايات في آخر ما نزل، كما بلغ بها بعضهم إلى عشرة أقوال، ليس من بينها كلها آية سورة المائدة التي اشتهرت عند
(1) جثيت على وزن فرحت: ثقل جسمي عن القيام.
(2)
آية الدّين رقمها في سورة البقرة (282)، وآية وَاتَّقُوا يَوْماً
…
إلى قوله لا يُظْلَمُونَ) رقمها 281.
(3)
انظر البرهان للزركشي 1/ 209 - 210.