المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن: - مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه

[عدنان زرزور]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌الباب الأوّل القرآن الكريم واللغة العربية

- ‌الفصل الأول لغة القرآن الكريم

- ‌أولا- اللسان العربي:

- ‌ثانيا- العرب والقرآن:

- ‌الفصل الثاني أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

- ‌أولا- أثره من الوجهة التاريخية:

- ‌(أ) القوة الدافعة:

- ‌ حول تخلف حركة التعريب عن انتشار الإسلام:

- ‌(ب) القوة الواقية:

- ‌ثانيا- الأثر الموضوعي للقرآن في اللغة العربية:

- ‌الفصل الثالث أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية

- ‌الباب الثاني قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه

- ‌الفصل الأول القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة

- ‌أولا- تعريف القرآن والفرق بينه وبين الحديث:

- ‌ثانيا- مقارنة سريعة مع هذه الكتب السماوية:

- ‌العهد القديم: تعريف وملاحظات:

- ‌العهد الجديد: تعريف وملاحظات:

- ‌ثالثا- النتائج والملاحظات:

- ‌رابعا- أسماء أخرى للقرآن، ولون آخر من ألوان الحفظ:

- ‌الفصل الثاني الوحي أو مصدر القرآن الكريم

- ‌أولا- ظاهرة الوحي:

- ‌(أ) مقدمة عن عالم الغيب:

- ‌(ب) معنى الوحي وصوره:

- ‌ثانيا- مع المتخرصين في تفسير ظاهرة الوحي:

- ‌ثالثا- صدق ظاهرة الوحي:

- ‌الجانب الأول- رحابة الموضوعات القرآنية:

- ‌الجانب الثاني- أحوال النبيّ مع هذه الظاهرة:

- ‌الفصل الثالث نزول القرآن والحكمة من تنجيمه

- ‌أولا- الوحي والتنزيل:

- ‌ثانيا- مدة نزول القرآن وأول ما نزل منه وآخر ما نزل:

- ‌ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن:

- ‌رابعا- إضافة وتعليق:

- ‌(أ) توثيق وقائع السيرة النبوية والدلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين:

- ‌(ب) تصويب حركة التطبيق والتنفيذ:

- ‌(ج) وأخيرا:

- ‌الفصل الرّابع جمع القرآن وتدوينه

- ‌أولا- حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم:

- ‌(أ) الحفظ والجمع في الصدور:

- ‌(ب) الكتابة والتدوين:

- ‌ثانيا- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه

- ‌ثالثا- نسخ المصاحف على عهد عثمان- رضي الله عنه

- ‌رابعا- قاعدة عثمان في الجمع ومزايا المصاحف العثمانية:

- ‌خامسا- حرق الصحف والمصاحف الأخرى: (شبهات وردّ):

- ‌سادسا- رسم المصحف أو الرسم العثماني:

- ‌الفصل الخامس الآيات والسور وترتيبهما

- ‌أولا- تعريف الآية والسورة:

- ‌ثانيا- عدد السور وأسماؤها واختلاف مقاديرها:

- ‌ثالث‌‌ا- ترتيب الآياتوالسور:

- ‌ا- ترتيب الآيات

- ‌(ب) ترتيب السور:

- ‌رابعا- حكم مخالفة ترتيب المصحف:

- ‌الباب الثالث إعجاز القرآن

- ‌الفصل الأول الإعجاز: وقوعه ومعناه

- ‌أولا- مدخل وتمهيد:

- ‌ثانيا- الإعجاز حقيقة تاريخية:

- ‌ثالثا- معنى الإعجاز، أو الإعجاز الذي وقع به التحدّي:

- ‌الفصل الثاني آراء ونظريات حول الإعجاز

- ‌أولا- فكرة الصرفة:

- ‌ثانيا- النظم القرآني:

- ‌(أ) الإمام عبد القاهر الجرجاني وفكرة النظم القرآني:

- ‌(ب) تعريف النظم القرآني:

- ‌ثالثا- التصوير الفني:

- ‌1 - التخييل الحسّي والتجسيم:

- ‌2 - التناسق الفني:

- ‌رابعا- النظم الموسيقى:

- ‌خامسا- تعقيب عام: البيان .. والإنسان:

- ‌الفصل الثالث الفاصلة القرآنية

- ‌أولا- تعريف الفاصلة:

- ‌ثانيا- دورها وموقعها:

- ‌(أ) اختلاف الفواصل في آيات متماثلة:

- ‌(ب) التصدير والتوشيح:

- ‌ثالثا- لمحة عن أنواع الفاصلة:

- ‌رابعا- بين الفاصلة والسجع والشعر:

- ‌الباب الرّابع لمحة عن نشأة التفسير وتطوّره

- ‌الفصل الأول حول نشأة التفسير

- ‌أولا- بين التفسير والتأويل:

- ‌ثانيا- مصادر التفسير ومراحله:

- ‌الفصل الثاني معالم التفسير البياني

- ‌الفصل الثالث التفسير «العلمي» لآيات الكون والطبيعة

- ‌أولا- معنى التفسير العلمي وأسباب ظهوره:

- ‌ثانيا- بين التفسير العلمي والمنهج العلمي:

- ‌ثالثا- خطوات المنهج العلمي في القرآن:

- ‌رابعا- شروط التفسير العلمي:

- ‌الفصل الرّابع تعريف بظلال القرآن

- ‌أولا- الصحابة وتفسير القرآن:

- ‌ثانيا- المفسّرون والغرض الأساس للقرآن الكريم:

- ‌ثالثا- الظلال وشروط التفسير المعاصر:

- ‌(أ) من أخطاء التعامل مع الظلال:

- ‌(ب) الظلال يتجاوز عصر الخلاف الجدلي أو الكلامي:

- ‌(ج) الظلال والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية:

- ‌(د) طريقته في التأليف:

- ‌(هـ) تفسير وتفسير

- ‌الفصل الخامس من ألوان التفسير المعاصر

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌أولا- المعنى الإجمالي للسورة:

- ‌ثانيا- أقسام السورة وموضوعها الرئيسي:

- ‌ثالثا- خصائص النص الفكرية:

- ‌رابعا- فن العرض أو الطريقة الأدبية:

- ‌خامسا- صياغة الآيات، أو التراكيب والجمل

- ‌سادسا- الموسيقى في السورة:

- ‌ والخلاصة:

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن:

بعضهم، أخذا من موضوعها، وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وذلك لأن هذه الآية نزلت في يوم عرفة من حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، وقد عاش النبيّ- صلوات الله عليه- بعدها واحدا وثمانين يوما، في حين لم يكن بين وفاته- عليه السلام وبين نزول آية: وَاتَّقُوا يَوْماً

سوى تسع ليال فقط!

وإكمال الدين في الآية المذكورة يراد منه- كما قال بعض المفسرين- إقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه، حتى حجّه المسلمون لا يخالطهم المشركون. يؤيد هذا ما روي عن ابن عباس قال:«كان المشركون والمسلمون يحجّون جميعا، فلما نزلت سورة براءة نفي المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين» فكان ذلك تمام النعمة. والله تعالى أعلم.

‌ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن:

لتنجيم القرآن- أي لنزوله مفرقا على دفعات، وفي هذه المدة الطويلة التي أشرنا إليها- فوائد وحكم كثيرة، بعضها يتصل بشخص النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعضها الآخر يتصل بالمجتمع الإسلامي الوليد الذي كانت تتنزل عليه الآيات .. وبعض هذه الحكم يتصل بالنص القرآني نفسه؛ ونجمل هنا القول في هذه الحكم بما يلي:

1 -

تثبيت فؤاد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإمداده بأسباب القوة والمجابهة أمام حملات المشركين ودسائس المنافقين، فتجديد الوحي يوما بعد يوم وحالا بعد حال، يمثل لونا من ألوان الرعاية الإلهية التي تمده بأسباب الثبات والمضي فيما اختاره الله له، ولهذا فإن المشركين عند ما اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما هي الحال في الكتب السابقة، رد عليهم سبحانه بما في هذا التنجيم من حكمة، فقال تعالى:

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

ص: 89

تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)[سورة الفرقان، الآيات 32 - 33].

كم هي الشدائد التي عرضت للرسول الكريم .. والتي حملتها الأيام المتلاحقة في أوضاع ومناسبات شتى .. والوحي الإلهي يهوّن من تلك الشدائد والأوهاق، ويرسم لها أجلا وقدرا مقدورا: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13)[سورة فصلت، الآية 13].

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)[سورة القمر، الآية 45].

ويقول تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)[سورة هود، الآية 120].

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [سورة الطور، الآية 48].

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)[سورة الكهف: الآية 6].

فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [سورة فاطر، الآية 8].

الآيات التي تعزّي الرسول الكريم والتي تأمره بالصبر والمصابرة كثيرة في كتاب الله، ولكن يبقى مبدأ تجديد اتصال الوحي به، ومتابعة نزوله، يحمل معنى تثبيت فؤاده بإطلاق، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة السابقة في سورة الفرقان.

وتحمل الآية الثانية السابقة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ

الإشارة إلى أن من أهم صور هذا التثبيت: الرد على مزاعم المشركين وشبههم واعتراضاتهم، قال ابن كثير في قوله

تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بحجة ولا شبهة، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي: ولا يقولون قولا يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم. وقال ابن عباس في تفسير «المثل» ما يلتمسون به عيب القرآن والرسول، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي: إلا نزل

ص: 90

جبريل من الله تعالى بجوابهم. قال: «وما هذا إلا اعتناء وكبير وشرف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل بالقرآن صباحا ومساء، وليلا ونهارا، وسفرا وحضرا» (1).

2 -

تسهيل حفظه على الرسول والمؤمنين، كلون من ألوان الحفظ الذي تكفل الله تعالى به: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)[سورة الحجر، الآية 9].

فقد اختار الله تعالى تنزيله على هذا الوجه ليسهل على الناس حفظه، ولهذا جمع بين الأمرين في هذه الآية فقال تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.

وإذا كان الله تعالى قد تكفل لرسوله بحفظه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6)[سورة الأعلى، الآية 6]. فإن أفراد المسلمين كانوا بحاجة إلى أن يعطوا فرصة تمكنهم من حفظه في الصدور، وهو الحفظ الأول والأهم بوصفهم أمّة أميّة كما هو معلوم.

3 -

يمكن القول: إن من حكم هذا التنجيم، بصورة عامة، رسم صورة المجتمع الآخر، أو الفئات الثانية من منافقين ومشركين

وفضح أساليبهم ونواياهم، ومفاجأتهم بحقيقة ما يقولون ويبيّتون ويمكرون. قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)[سورة التوبة، الآية 64].

وتظهر أهمية هذه الفائدة بالمقارنة بالحكمة الرابعة التالية:

4 -

ومن أهم هذه الحكم: تربية الأمة الناشئة وإعدادها لبنة لبنة، وآية آية

بحيث تم بناء هذه الأمة في نهاية المطاف من خلال نصوص القرآن

(1) تفسير ابن كثير 3/ 317. قال الطبري: «ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك من الحق بما نبطل به ما جاءوا به، وأحسن منه تفسيرا» جامع البيان 19/ 11.

ص: 91

الكريم. فإذا ذكرنا أن ولادة هذه الأمة كانت من خلال تلك النصوص، فلنذكر أن ذلك لم يتم في يوم وليلة؛ بل تم خلال ما يقرب من ربع قرن كان القرآن الكريم فيها ينزل منجّما فيربّيها ويعدّها وينشئها .. بل يرسم للإنسانية على الدوام خطوات الصورة المثلى للبناء في الحاضر والمستقبل على حد سواء؛ يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله:«لقد جاء هذا القرآن ليربّي أمة وينشئ مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن، وإلى تأثير وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثير والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا، وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح بالتالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها» .

وقد تم هذا الإعداد الذي اقترن به عند المسلمين القول بالعمل بوسائل متعددة، وأمور كثيرة تحتاج ملاحقتها إلى دراسات خاصة. ونشير هنا إلى نقطتين اثنتين:

(أ) التربية من خلال الواقع، وربط الأمور بأسبابها ومسبباتها، وهذا أدعى إلى بيان مدى الواقعية في هذا الدين، وأن أحكامه أحكام عملية لا نظرية. وأدعى- من وجه آخر- إلى الفهم والتذكر والمسارعة في التنفيذ؛ قال تعالى:

وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [سورة البقرة، الآية 219].

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)[سورة الإسراء، الآية 85].

وهذه امرأة ترفع إلى الرسول شكواها بأن زوجها ظاهر منها؛ فينزل قول الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

[الآيات في صدر سورة المجادلة].

ص: 92

وفي مناسبة أخرى يخاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [سورة الممتحنة، الآية 1].

وقصة الإفك التي تشير إلى حدث اجتماعي- أو ظاهرة في بعض الأحيان- تعالج في الوقت المناسب، وبعد أن يتخذ كل واحد من الناس موقفا أو يفتي برأي!! لتتعلم المجتمعات الإنسانية على مدى الدهر طريقة المعالجة، والموقف الواجب الاتباع: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [سورة النور، الآية 11].

ولعل مما يشير إلى هذه الحكمة أو النقطة قول الله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)[سورة الإسراء، الآية 106].

(ب) التدرج في التشريع، وذلك في الأمور المتمكنة من الأفراد وفي المجتمع بحيث يحتاج اجتثاثها أو التعفية على آثارها إلى وقت يقصر أو يطول؛ أي إن تخلي المجتمع عن مفاسده وشروره تم بواسطة هذا التدرج، وبعمق لم يشهد له التاريخ أو الواقع مثيلا. وكأن العملية التربوية المشار إليها في الفقرة السابقة وهي العمل الإيجابي،

كانت تتم في خط مواز لهذه الناحية السلبية، أو لعلها كانت تأتي على أعقابها في بعض الأحيان، على مبدأ (التخلية ثم التحلية).

ومن أمثلة هذا التدرج المشهورة تحريم الخمر الذي تم على هذه المراحل:

نزل أولا قوله تعالى:* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [سورة البقرة، الآية 219]. فوصفت هذه الآية حالة الخمر والميسر، وأن الإثم فيهما أكبر من النفع (1)، ولكنّها لم تصرّح بتحريمهما أو طلب الكفّ عنهما. فإذا أضفنا إلى ذلك أنها افتتحت بقوله تعالى:

(1) انظر إشارتنا السابقة إلى هذه الآية في الفقرة الثانية (العرب والقرآن) من الفصل الأول.

ص: 93

يَسْئَلُونَكَ

أدركنا أهمية ذلك الوصف في تهيئة النفوس للتحريم، لأن الأمر صار موضع سؤال المجتمع وحديثه.

ثم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [سورة النساء، الآية 43] فحرّمت هذه الآية عليهم أن يصلّوا وهم في حالة السكر، فكأنها وقتت تحريم شرب الخمر بوقت ليس بالقصير، لأن أوقات الصلاة متقاربة لا يذهب خلالها أثر السكر، فامتنعوا عن شربها سحابة النهار، حتى إذا صلوا العشاء الآخر قارف الخمر من أراد، وكأنهم في هذه المرحلة الثانية أعطوا الفرصة لتقوية العزيمة والإرادة على الكف والمنع المطلق- في الوقت الذي كان فيه الجانب التربوي الإيجابي يبنى باستمرار كما قلنا-.

ثم نزل أخيرا قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)[سورة المائدة، الآيتان 90 - 91] .. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ قالوا: يا رب انتهينا، وتركوا الخمر، وقاموا إلى ما في دورهم منها فأهرقوه في طرقات المدينة ....

من أراد أن يقف على أثر هذا التدرج في التشريع، أو هذه الحكمة من فوائد نزول القرآن منجما بوجه عام، فليقارن فعل المجتمع الإسلامي هذا بفعل المجتمع الأمريكي يوم صدر عندهم «قانون المنع» المشهور، والذي رد عليه الناس بمضاعفة الشرب، ومن الأنواع الرديئة، أضعافا مضاعفة .. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عائشة قالت:«إنما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» (1).

(1) صحيح البخاري 6/ 101 باب تأليف القرآن.

ص: 94

5 -

وأخيرا، لعل من أهم حكم تنجيم القرآن: الدلالة على إعجازه وإثبات مصدره.

ففي نزول القرآن خلال هذه المدة الطويلة، وكلما نزلت آية أو آيات قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا» وربما نزلت الآيات التي توضع في آخر السورة قبل الآيات التي توضع في أولها أو مقدماتها، وربما لم يكتمل بناء بعض السور- المفتوحة- إلا خلال سنوات

ثم يكون القرآن الكريم بعد ذلك متسقا هذا الاتساق المعجز، منسّق الآيات والسور، محكم السرد، دقيق السبك، قوي الأسلوب

إن في ذلك جميعه ما يشير بوضوح إلى مصدر هذا الكتاب الكريم وأنه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)[سورة النساء، الآية 82]. لأن الرسول الكريم الذي كان يأمرهم بوضع الآيات عند ما تنزل في موضع كذا من سورة كذا بشر لا يدري ما ستجيء به الأيام، وكيف سيتم بناء هذه السور ومتى يتم في المستقبل؟

والاختلاف المشار إليه في الآية الكريمة يكون من وجهين رئيسيين:

الأول: من حيث النظم والأسلوب والبيان الذي لم يختلف في القرآن أو يتخلف في موطن من المواطن، وذلك على طريقة الأدباء في الاختلاف أيا كان حظهم من التفوق، ومع تفرغهم للعمل الأدبي الواحد في زمن معين أو فترات متقاربة لا يمكن أن تصل إلى ربع قرن!! ومع التقديم والتأخير، واختلاف المناسبات والأحوال!! التي تم فيها وعليها نزول القرآن الكريم. وهذا كما أشرنا دليل الإعجاز.

أما الاختلاف الثاني: فهو اختلاف المعاني والمضامين، فإذا لم تختلف هذه المعاني عند أحد طيلة حياته، فهل يمكن أن تتلاءم أو تتكاتف على أداء طريقة واحدة أو معنى منسجم عند ما يضمّ الكلام بعضه إلى بعض في سنوات طوال؟

ص: 95