الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا- مصادر التفسير ومراحله:
قلنا إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم. وينبغي على هذا أن يكون مأخذ تفسير القرآن من اللغة، أو بعبارة أخرى: أن تكون اللغة العربية طريق معرفة القرآن، قال تعالى: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)[سورة فصّلت، الآيات 1 - 3].
دلّت هذه الآيات على أن العالم باللغة محجوج بالقرآن، ويدل قوله:(لقوم يعلمون) على أن التفسير لمن عرف اللغة جائز. ومن هنا جاء قول ابن خلدون:
«فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه وتراكيبه» علما بأن الصحابة كانوا متفاوتين في هذا العلم، وربما ندّ عن بعضهم مدلولات بعض الألفاظ، أو المراد من بعض العبارات.
ولكن لا خلاف على كل حال على أن آيات القرآن الكريم واضحة المعنى، وبخاصّة تلك التي تتعلق بأصول الدين وأصول الأحكام، وهذا النوع من الآيات يستطيع فهمه جمهور الناس، ولا سيما من كانوا عربا بسليقتهم. وفيه إلى جانب ذلك آيات مبهمة أو متشابهة، يصعب فهمها على العامة، ولا يقف على معناها إلا الخاصة، وفي هذا أيضا يأتي القرآن على قواعد العرب وعادتهم في الكلام؛ قال ابن قتيبة: «إن القرآن الكريم نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار والإطالة والتوكيد، والحقيقة والمجاز، وإغماض بعض المعاني وإظهار بعضها
…
إلخ». وقال أيضا: «ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا، حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة، وماتت الخواطر .. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة» (1).
(1) تأويل مشكل القرآن ص 64، بتحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر رحمه الله تعالى.
وغني عن البيان أن الصحابة- الذين عاصروا التنزيل وشاهدوه- كانوا أقدر الناس على فهم القرآن على الرغم من قلة ما روي عنهم في التفسير، الذي اختلفوا فيه اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ، كما شرحه ابن تيمية في رسالته «مقدمة في أصول التفسير» (1).
ويعود السبب في هذا الاختلاف إلى تفاوت حظهم من المعرفة بالأدب الجاهلي وغريبه، وإلى تفاوتهم في ملازمة النبيّ صلى الله عليه وسلم والوقوف على أسباب نزول الآيات. بالإضافة إلى اختلافهم في معرفة عادات العرب في أفعالهم وأقوالهم، ونحو ذلك من الأسباب.
والمهم هنا أن المؤرخين للتفسير والمشتغلين بعلوم القرآن اصطلحوا على تسمية تفسير القرآن بالقرآن، والتفسير المرفوع إلى النبيّ، والمنقول عن الصحابة ب «التفسير المأثور» فقد قالوا في تعريفه «هو ما جاء في القرآن والسنّة وكلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه» .
أما تفسير القرآن بالقرآن فهو من أولى خطوات المنهج السليم في تفسير القرآن كما سنشير إلى ذلك في صفحة قادمة، وإن كانت تسميته تفسيرا «بالمأثور» فيها نظر. أما المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أنيطت به مهمة البيان عملا بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية 44]- فهو لبّ التفسير بالمأثور، وإن كان مقداره ليس كبيرا إلى جانب التفسير الاجتهادي. أما المنقول عن الصحابة فهو عندنا تفسير «بالمأثور» إن كان فيما لا مجال فيه للرأي- كسبب النزول ونحوه- وإلا فهو داخل في حدود «الاجتهاد» في تفسير القرآن، بحسب المعرفة باللغة وبشروط التفسير الأخرى؛ لأن المصدر
(1) ارجع إلى هذه المقدمة، بتحقيقنا. وانظر فيها تفصيل القول فيما أجملنا خطوطه الرئيسة في هذا الفصل، حول أصول التفسير، وطبقات المفسرين، وحكم التفسير بالرأي
…
وغير ذلك. وانظر تعليقاتنا هناك.
الثاني للتفسير عندهم بعد «المأثور» : الرأي أو الاجتهاد، وعليه أن يعرف مع ذلك الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد في مثله من الشعر الجاهلي ونحوه، ويقف على ما صح عنده من أسباب النزول، وقواعد الترجيح
…
يقدم المفسر مستعينا بهذه الأدوات ويفسر القرآن بحسب ما أداه إليه اجتهاده. والواقع أن كثيرا من الصحابة كان يفسر الآيات من القرآن بهذا الطريق.
ويبدو أن هذين الاصطلاحين (التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي) لم يدلّا على منهجين متميزين في التفسير إلا في آخر هذه الخطوات التي تلخص تاريخ التفسير وتدوينه على حد سواء، والتي نوجزها فيما يلي:
1 -
اتخذ التفسير في مرحلته الأولى شكل الحديث، بل كان جزءا منه وبابا من أبوابه. ومن المعلوم أن الحديث كان هو المادة الواسعة التي شملت جميع المعارف الدينية تقريبا، لأنه كان يقوم على الرواية، التي هي الأصل في نقل جميع العلوم الدينية واللغوية والأدبية
…
وفي هذه المرحلة أخذ المؤلفون في آخر العصر الأموي وأول العباسي يجمعون «الأحاديث» المتشابهة المتعلقة بموضوع واحد، كما فعل الإمام مالك في «الموطأ» ومحمد بن إسحاق في كتاب «السيرة النبوية» .
ويلاحظ في هذه المرحلة أن ما روي عن الصحابة في تفسير القرآن كان قليلا وأن أكثر الصحابة قولا في التفسير: ابن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وعلي بن أبي طالب. كما يلاحظ أن «طبقات المفسرين» بدأت تتضخم شيئا فشيئا، لأن «التابعين» «رووا» كل ما ذكره الصحابة- نقلا أو اجتهادا- ومنهم من «فسر» أيضا، ثم جاءت الطبقة التي تلتهم ففعلت مثل ذلك. وكان لبعض رجال هذه الطبقات اتصال ببعض رجال أهل الكتاب- اليهود- الذين دخلوا في الإسلام، وكان هذا مبدأ دخول «الإسرائيليات» في كتب التفسير، وإن كان عدم التزام المنهج العلمي والموقف الذي أمر النبيّ باتخاذه من رواياتهم- كما فصله
ابن تيمية بدقة في مقدمته في أصول التفسير- قد أدى في المراحل القادمة إلى نتائج سيئة!! حيث ألحقت تشويها ببعض كتب التراث، أو ببعض صفحاته على الأقل. وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم.
إمّا أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه». قال ذلك في الوقت الذي سمح بالتحديث عن بني إسرائيل
…
إشارة إلى أننا نملك أداة الحكم على مروياتهم وكتبهم
…
من خلال المقياس الذي لا يلحقه خلل ولا نقص ولا تشويه، وهو القرآن الكريم
…
ولكن ولع بعض المفسرين بالغرائب أو بتفصيلات وفرعيات لا طائل تحتها
…
أوقعهم في كثير من المحاذير، حتى صعب على بعض الناس في بعض الصور- جهلا أو رغبة في الإساءة والتشويه- أن يفرقوا بين فهم المفسر للقرآن، وبين النص القرآني نفسه
…
وأوضح ما كان ذلك في الإسرائيليات التي دارت حول الكون والطبيعة، وحول قصص الأنبياء وحياتهم (1)
…
(1) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص (فتح الباري 6/ 388) والإمام أحمد في المسند، والترمذي وقال: حسن صحيح. (المسند 9/ 250 والجامع 7/ 314) ط حمص) وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» بلغ مبلغ التواتر؛ راجع فتح الباري 1/ 161 - 165 والترمذي 7/ 307 ومجمع الزوائد 1/ 142 - 148.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «من المعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحديث بالكذب، فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحديث به عنهم» . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد! وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام: «أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايته
…
وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني» مثل أسماء-
2 -
وفي الخطوة- أو المرحلة- الثانية تم تجريد ما ورد في الحديث المرفوع والموقوف من «التفسير» . وقد عني بذلك قوم من التابعين حيث تخصص- اولا- كل جماعة بجمع تفسير عالم مصرهم، ثم جاءت طبقة جمعت كل أقوال الصحابة والتابعين في الأمصار المختلفة، شأنهم في ذلك شأن المحدّثين، كسفيان بن عيينة (ت 198)، ووكيع بن الجراح (ت 196)، وإسحاق بن راهويه (ت 238)، الذين كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبوابه.
3 -
ثم تم بعد هذا الجمع الخاص الشامل: اعتبار التفسير علما قائما بنفسه بعيدا عن الحديث، ووضع التفسير لكل آية من القرآن بحسب ترتيب المصحف، كما فعل بقيّ بن مخلد الأندلسي (ت 276) والإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (المتوفى سنة 310).
4 -
وهنا نصل إلى تميز المنهجين السابقين، حين وجد أن ما نقل عن النبيّ والصحابة في تفسير القرآن لم يكن يشمل جميع القرآن، وإنما كان تفسيرا لما غمض أو لما كان من «غريب» القرآن بالنسبة لهم أو لبعضهم. وكانت الحاجة إلى التفسير تزداد يوما بعد يوم، كلما بعد الناس عن عصر النبيّ والصحابة. وكلما اتسعت الفتوح وكثر اختلاط العرب بالعجم والموالي، فاجتهد المجتهدون وقامت حركة التفسير، ونشطت، واستوت على سوقها، وآتت ثمراتها
…
حيث ولدت مدرستان كما حصل في الفقه والتشريع «مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، فتعمقت فكرة التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي» .
5 -
ولما دوّنت علوم اللغة والنحو والفقه، وأثيرت مسائل الفلسفة
أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت
…
وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة! ونوع الشجرة التي كلّم الله منها موسى
…
«إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة من تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم» راجع مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، بتحقيقنا ص 99، طبع دار القرآن الكريم ببيروت 1972. وانظر فيها تعليقاتنا على هذا الموضوع.
والكلام وبحثت في العصر العباسي أثّرت في علم التفسير أثرا كبيرا، وبخاصة إذا ذكرنا أن القرآن الكريم هو عماد الأمة والمجتمع والدولة
…
وأن عقيدة المسلمين كانت نابعة منه، وراجعة إليه، فإذا كانت حركة البدء والانطلاق والتكوين منه وفي رحابه، فإن أي أمر طارئ كذلك لا بد من أن يحكم هو فيه، لأن هذا الأمر الطارئ- كما حصل أيام الترجمة- لا يكون مقبولا، ولن تكتب له الحياة إلا بمقدار موافقته. فكتب النحاة في «إعراب القرآن» والفقهاء في «تفسير آيات الأحكام» ودخل المتكلمون- وعلى رأسهم المعتزلة- باب «التأويل» لطائفة معينة من الآيات، واصطدموا مع المحدّثين، وأسسوا ما دعي بالمنهج العقلي في تفسير القرآن، الذي يدخل إلى تفسير النص القرآني بمقدمات عقلية ومقررات فكرية مسبقة! كما حاول الصوفية أن يجدوا مواجيدهم ومذاويقهم في ظلال النصوص القرآنية بإشارات بعيدة أو قريبة فولد «التفسير الإشاري» .- وقد تعرضنا لنقد هذه المناهج في مقدمتنا لرسالة ابن تيمية في اصول التفسير، وفي بعض كتبنا الأخرى- وبحسبنا هنا بمناسبة هذه الإشارة إلى التفسير الإشاري أن نفرّق فيه بين صنفين: صنف اخترعته الزنادقة ليعطلوا أحكام الشريعة، أو ليقلبوا حكمة القرآن إلى معان سخيفة- كما يقول محمد الخضر حسين- رحمه الله وهذا باطل ببداهة العقول، وهذا الصنف يعرف عادة بالتفسير الباطني، أو تفسير أهل الباطن.
وصنف ينسب إلى الصوفية، وهو الذي يدعى عادة بالتفسير الإشاري. والفرق بين هذا التفسير وتفسير الباطنية:«أن الباطنية يفسّرون الآيات بتلك المعاني المنبوذة على أنها هي المقصود من القرآن، أما أصحاب الإشارة فيسلّمون أن المراد من القرآن تلك المعاني التي يذكرها أهل العلم بالتفسير، غير أنهم يذكرون عند تفسير الآية معاني تخطر أذهانهم عند التلاوة وإن لم تدل عليها الآية بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي» (1).
(1) من بلاغة القرآن للشيخ محمد الخضر حسين ص 24.
يقول الشيخ محمد الخضر حسين- رحمه الله: «ومع هذا الفرق الواضح بين صنفي التفسير بالباطن، فإن الاقتصار في تفسير ألفاظ القرآن على ما يقتضيه استعمالها العربي، يكفي لتقويم العقول، وتزكية النفوس وإرشادها إلى وجوه الإصلاح الذي تدرك به السعادة في الآخرة والأولى» (1).
ونضيف إلى ذلك أن السماح بالخروج عن الاستعمال العربي، وعن المواضعات اللغوية طريق محفوف بالمخاطر، كما رأينا ذلك في بعض التفاسير الصوفية المتداولة، والتي عرف أصحابها فيما نعلم بنزاهة القصد، وصحة العقيدة، ولا يزكّى على الله أحد، والله تعالى أعلم (2).
(1) من بلاغة القرآن ص 24.
(2)
انظر خلاصة لنقد تأويلات الباطنية في كتابنا «متشابه القرآن» دراسة موضوعية ص 168 - 176. طبع دار الفتح بدمشق 1389 هـ/ 1969 م.