الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب الإنسان، ستحمل لنا المزيد من الأدلة، وتصب في نهاية المطاف في هذا البحر المحيط.
أولا- ظاهرة الوحي:
(أ) مقدمة عن عالم الغيب:
تمثل ظاهرة الوحي مبدأ اتصال عالم الغيب بعالم الشهادة- بحسب المصطلح القرآني عن الطبيعة وماوراء الطبيعة- كما يمثل الوحي، مصدر المعرفة الإنسانية عن عالم الغيب، في حين يشكل العقل- والحواس- مصدر هذه المعرفة عن عالم الشهادة. والأمر الجوهري الذي لا غنى لنا عن الإشارة إليه هنا بين يدي الكلام على ظاهرة الوحي أن الإيمان بعالم الغيب ليس خارجا عن نطاق القدرة العقلية، فضلا عن أن يكون فيه مناقضة لهذا العقل أو خروج عن قوانينه الفطرية. إن في وسع العقل- بوصفه صاحب الدور الأول في إدراك عالم الشهادة (1) - أن يستدل بعالم الشهادة على عالم الغيب، أو على رأس الإيمان بعالم الغيب، وهو الإيمان بالله تعالى، ولا يكون العقل بذلك قد سلم بسر باطل أو عقيدة مستحيلة. نذكر هنا من القوانين التي تحكم عالم الشهادة، والتي جعلها الفيلسوف الشهير «كانت» من جملة قوى العقل وقوانينه الفطرية، قانون السببية أو العليّة الذي يملي فيه العقل البحث عن المؤثر عند حدوث الأثر، وعن الصانع عند رؤية المصنوع. إن هذا القانون، كما يتناول الظواهر الجزئية في الكون فيطلب لكل معلول علة، ولكل مسبّب سببا، يتناول من باب أولى مجموع الكون ككل، فيتطلب بالبداهة نفسها علة وسببا لوجوده. وممارسة هذا القانون- قانون العلية- وتطبيقه على
الكون ككل، وطلب علة له بجملته واقع في دائرة القدرة العقلية بدون
(1) الحواس هي منافذ للمعرفة، والعقل هو الذي يقف وراءها فيجعل من إحساساتها إدراكات أو معارف حقيقة، بمعنى أنه ينقلها من الغرائز والانعكاسات التي يشترك فيها سائر الحيوانات التي تملك مثل تلك الحواس.
شك، لأن عالم الحس كما يشمل المحسوسات الجزئية فإنه يشمل المحسوس العام الأعظم وهو العالم .. بل إن العقل «مضطر» إلى هذا الطلب
…
صعدا من طلبه علة لكل شيء جزئي محسوس (1).
يضاف إلى ذلك أن العقل الإنساني نفسه لا يقنع بكل ما جمعته البشرية من علوم وفنون ومتع بدنية وعقلية فيستغني بها عن طلب تفسير لهذا الكون، أو عن دوره هو فيه ومصيره من بعده؟! وسوف يبقى أمام هذا العقل في طرفي الوجود، وهما المبدأ والمصير، أو المصدر والغاية، شيء لا تفسره المعارف العلمية بوجه من الوجوه.
نعود من هذا إلى القول إن التسليم بعالم الغيب ليس خارجا عن نطاق العقل، بل إن العقل نفسه يدل على ساحة هذا العالم، كل ما في الأمر أنه يعجز عن اقتحامها أو معرفة كنهها بوسائل عالم الشهادة- العقل والحواس-. وهنا يأتي دور الوحي الذي يعرّف الإنسان بحقيقة هذا العالم، ويقفه على طبيعة الصفات الإلهية، ويرسم له طريق الحياة الأمثل
…
إلى غير ذلك من موضوعات الوحي.
فاعجب بعد ذلك لمن يقدم على إنكار عالم الغيب أو ماوراء الطبيعة بحجة عدم دخوله تحت سلطان الحسّ والمشاهدة!! وإذا تركنا الحديث عن الوعي بوجود الله تعالى- أساس الإيمان بعالم الغيب- وأن هذا الوعي يخالط كل نفس إنسانية،
(1) يمكن القول هنا باختصار: إن وجود الكون يحتاج إلى تعليل، وحركته وارتباط أجزائه واقتران أسبابه بمسبباته وانتظام قوانينه وسننه يحتاج إلى تفسير. وهل يصدق العقل أن القوة التي تدفع كل جزء في الكون في وجهتها، وكل حادثة في خط سيرها بحيث يتكون من المجموع كلّ متناسق متكامل في عالم الجماد وفي عالم النبات وفي عالم الأحياء
…
إلخ، هل يصدق العقل أن هذه القوة قوة ذاتية عمياء! ألا يثير موضوع «الخلق» من عدم نظر الإنسان إلى التفكير والاعتبار، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ انظر كتاب «نظام الإسلام» لأستاذنا محمد المبارك رحمه الله: الجزء الأول، ص 45 فما بعدها.