الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير- فإن الذي تحسن الإشارة إليه هنا هو التعريف بهذا التفسير المعاصر- الظلال- الذي يعتبر من أكثر كتب التفسير رواجا، وأقربها من نفوس الطلاب والدارسين، وبخاصة طلبة الجامعات على اختلاف اختصاصاتهم واهتماماتهم. وسوف نحاول من خلال ذلك وضع هذا التفسير في موضعه .. ولو اضطرنا ذلك إلى تلخيص ملاحظاتنا العامة على التفاسير القديمة مرة أخرى.
أولا- الصحابة وتفسير القرآن:
كان جيل الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- هو الجيل الذي ربّاه القرآن الكريم، وأخرجه للناس جيلا نموذجيا لم يسبق له وجود في تاريخ بني الإنسان. وكان هذا الجيل الكريم الأمثل هو الجيل الذي تمثل فيه الهدف العملي للقرآن، أو الهدف العملي الواقعي القريب في هذه الحياة الدنيا، وهو إنشاء الأمة الوسط، أو الأمة المثال والأنموذج، وتبديل واقع الناس من الضلال إلى الهدى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور!
ولقد تحقق ذلك في هذا الجيل القرآني الفريد، وهو جيل الصحابة الذي تربّى خطوة خطوة، ويوما بعد يوم، وقام بناؤه الشامخ لبنة لبنة؛ على نحو نزول القرآن الكريم سورة بعد سورة، ومجموعة من الآيات رواء مجموعة أخرى، على اختلاف الأوقات والأزمان، والدواعي والأسباب
…
حتى تحقق ذلك الغرض العملي من كتاب الله الكريم. ويدل على ذلك- بإيجاز- قول أنس بن مالك- رضي الله عنه: «كنا إذا نزلت علينا الآيات لم نتجاوزها حتى نعمل بما فيها، فتعلمنا العلم والعمل جميعا» .. هذا العمل أو هذا السلوك الحي، أو الاستلهام للروح القرآنية، والعمل بموجبها ومقتضاها هو ما انصرفت إليه همة الصحابة، وتجردوا له- رضي الله عنهم.
ولهذا نجد أن الصحابة- وكثيرا من التابعين من بعدهم- لم يعنوا بتدوين التفاسير المطولة للقرآن الكريم، يثقلونها بتفصيل القول في علوم القرآن، أو علوم التفسير الواسعة، ومدلولات الآيات البعيدة، أو إشاراتها العميقة
…
ولم يكن ذلك لنقص في علمهم بكتاب الله، كما ظن بعضهم، بل لمزيد من هذا العلم من حيث الفهم الصحيح والمتكامل لكتاب الله؛ نظرا لمعرفتهم باللغة، ومعاصرتهم للتنزيل، وفهمهم لجميع نصوصه في سياقها وسباقها الصحيح، ومناسبتها الواضحة- بناء على ذلك التدرج- ولاستلهامهم لتلك الروح القرآنية العالية، وعملهم بموجبها يوما بعد يوم .. يخلون أمامها الطريق وهي تهدم كل رواسب الجاهلية، وأفكارها، وتصوراتها، وقيمها، وموازينها
…
حتى علا ذلك البنيان الشامخ الفريد.
ولهذا فإن ما خلّفه لنا الصحابة والتابعون في تفسير القرآن الكريم لا يصوّر لنا الغرض الأساس الذي نزل القرآن من أجله، والذي وعاه الصحابة- رضوان الله عليهم- وطبقوه، وعاشوه واقعا وعملا. وإذا رجعنا إلى ما أثر من تفسيرهم للقرآن الكريم لوجدنا أنه نوع من التفسيرات اللغوية، أو شرح لبعض الجمل والتراكيب، بالإضافة إلى بيان المناسبات ونحوها مما يتصل بالأماكن والوقائع والأعلام وبعض الأحكام، والذي كانوا يجدون فيه ما يكفي لرفع قارئ القرآن إلى مستوى إدراكهم وتحسّسهم للغرض الأساسي من القرآن الكريم، بدليل أن ابن عباس- رضي الله عنهما لم يؤثر عنه، وقد دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، لم يؤثر عنه في تفسير القرآن إلا نحو من مائة أثر أو مسألة كما قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه. وهذا قدر قليل جدا من ترجمان القرآن إذا ما قسناه بالمطولات وكتب
التفسير التي دونت فيما بعد.
ولهذا: كان اختلاف الصحابة والسلف في التفسير اختلاف تنوع لا اختلاف
تضاد، كما لاحظ ابن تيمية- رحمه الله (1) ولهذا أيضا كانت كتب تفسير القرآن في مرحلة نشأتها كتبا شارحة للغريب، لأن من الراجح أن سبيل التفسير في ذلك العصر القريب من عصر التنزيل كان يستوي بمثل هذا الشرح. ومن هنا كانت هذه الأسماء:«غريب القرآن» و «معاني القرآن» و «مجاز القرآن» أو استعملت في عرف المتقدّمين مترادفة أو كالمترادفة.
أما فيما وراء ذلك، فالقرآن الكريم النابض بالحياة، المبدّل للنفوس والعقول، والذي أوجد ذلك الجيل، وأوجد هذه الأمة- وفي العصور الأولى على وجه الخصوص- هذا القرآن لا يمكن تحصيل معانيه من خلال تراث الصحابة- رضوان الله عليهم- في تفسير القرآن، وإنما ينبغي تحصيله- لمن قدر على ذلك- من خلال ذلك التمثل الكامل للقرآن، والذي تجلى في حياة الصحابة وسلوكهم وفهمهم عن الله سبحانه، ومن خلال روحهم العظيمة تلك التي سرت في العالم فأحيت موات النفوس، ونشرت دوارس العقول، ووصلت الخلق بالخالق بحبله المتين، ونوره المبين
…
هذا القرآن الكريم.
بل ينبغي تحصيل هذا التفسير، قبل ذلك، من خلال السيرة النبوية الشريفة وخلق النبيّ الكريم- صلوات الله عليه وسلامه- .. هذا الخلق الذي كان الصورة العملية الكاملة للقرآن الكريم، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها، وقد سئلت عن خلقه- عليه الصلاة والسلام فأجابت بتلك الكلمة العبقرية الفذّة:«كان خلقه القرآن!» ولهذا صح لعلمائنا السابقين- رحمة الله عليهم أجمعين- ما قالوه في تعريف التفسير بالمأثور من أنه «ما أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة- والتابعين- تفسيرا للقرآن الكريم» ولكن ما أثر عنهم- كما رأيت- لا ينبغي أن يكون مقصورا على الأقوال، بل يجب أن يتعداه أو يسبقه، إلى السلوك والأعمال.
(1) انظر مقدمته في أصول التفسير، نشر دار القرآن الكريم ص 38.