المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا- دورها وموقعها: - مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه

[عدنان زرزور]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌الباب الأوّل القرآن الكريم واللغة العربية

- ‌الفصل الأول لغة القرآن الكريم

- ‌أولا- اللسان العربي:

- ‌ثانيا- العرب والقرآن:

- ‌الفصل الثاني أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

- ‌أولا- أثره من الوجهة التاريخية:

- ‌(أ) القوة الدافعة:

- ‌ حول تخلف حركة التعريب عن انتشار الإسلام:

- ‌(ب) القوة الواقية:

- ‌ثانيا- الأثر الموضوعي للقرآن في اللغة العربية:

- ‌الفصل الثالث أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية

- ‌الباب الثاني قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه

- ‌الفصل الأول القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة

- ‌أولا- تعريف القرآن والفرق بينه وبين الحديث:

- ‌ثانيا- مقارنة سريعة مع هذه الكتب السماوية:

- ‌العهد القديم: تعريف وملاحظات:

- ‌العهد الجديد: تعريف وملاحظات:

- ‌ثالثا- النتائج والملاحظات:

- ‌رابعا- أسماء أخرى للقرآن، ولون آخر من ألوان الحفظ:

- ‌الفصل الثاني الوحي أو مصدر القرآن الكريم

- ‌أولا- ظاهرة الوحي:

- ‌(أ) مقدمة عن عالم الغيب:

- ‌(ب) معنى الوحي وصوره:

- ‌ثانيا- مع المتخرصين في تفسير ظاهرة الوحي:

- ‌ثالثا- صدق ظاهرة الوحي:

- ‌الجانب الأول- رحابة الموضوعات القرآنية:

- ‌الجانب الثاني- أحوال النبيّ مع هذه الظاهرة:

- ‌الفصل الثالث نزول القرآن والحكمة من تنجيمه

- ‌أولا- الوحي والتنزيل:

- ‌ثانيا- مدة نزول القرآن وأول ما نزل منه وآخر ما نزل:

- ‌ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن:

- ‌رابعا- إضافة وتعليق:

- ‌(أ) توثيق وقائع السيرة النبوية والدلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين:

- ‌(ب) تصويب حركة التطبيق والتنفيذ:

- ‌(ج) وأخيرا:

- ‌الفصل الرّابع جمع القرآن وتدوينه

- ‌أولا- حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم:

- ‌(أ) الحفظ والجمع في الصدور:

- ‌(ب) الكتابة والتدوين:

- ‌ثانيا- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه

- ‌ثالثا- نسخ المصاحف على عهد عثمان- رضي الله عنه

- ‌رابعا- قاعدة عثمان في الجمع ومزايا المصاحف العثمانية:

- ‌خامسا- حرق الصحف والمصاحف الأخرى: (شبهات وردّ):

- ‌سادسا- رسم المصحف أو الرسم العثماني:

- ‌الفصل الخامس الآيات والسور وترتيبهما

- ‌أولا- تعريف الآية والسورة:

- ‌ثانيا- عدد السور وأسماؤها واختلاف مقاديرها:

- ‌ثالث‌‌ا- ترتيب الآياتوالسور:

- ‌ا- ترتيب الآيات

- ‌(ب) ترتيب السور:

- ‌رابعا- حكم مخالفة ترتيب المصحف:

- ‌الباب الثالث إعجاز القرآن

- ‌الفصل الأول الإعجاز: وقوعه ومعناه

- ‌أولا- مدخل وتمهيد:

- ‌ثانيا- الإعجاز حقيقة تاريخية:

- ‌ثالثا- معنى الإعجاز، أو الإعجاز الذي وقع به التحدّي:

- ‌الفصل الثاني آراء ونظريات حول الإعجاز

- ‌أولا- فكرة الصرفة:

- ‌ثانيا- النظم القرآني:

- ‌(أ) الإمام عبد القاهر الجرجاني وفكرة النظم القرآني:

- ‌(ب) تعريف النظم القرآني:

- ‌ثالثا- التصوير الفني:

- ‌1 - التخييل الحسّي والتجسيم:

- ‌2 - التناسق الفني:

- ‌رابعا- النظم الموسيقى:

- ‌خامسا- تعقيب عام: البيان .. والإنسان:

- ‌الفصل الثالث الفاصلة القرآنية

- ‌أولا- تعريف الفاصلة:

- ‌ثانيا- دورها وموقعها:

- ‌(أ) اختلاف الفواصل في آيات متماثلة:

- ‌(ب) التصدير والتوشيح:

- ‌ثالثا- لمحة عن أنواع الفاصلة:

- ‌رابعا- بين الفاصلة والسجع والشعر:

- ‌الباب الرّابع لمحة عن نشأة التفسير وتطوّره

- ‌الفصل الأول حول نشأة التفسير

- ‌أولا- بين التفسير والتأويل:

- ‌ثانيا- مصادر التفسير ومراحله:

- ‌الفصل الثاني معالم التفسير البياني

- ‌الفصل الثالث التفسير «العلمي» لآيات الكون والطبيعة

- ‌أولا- معنى التفسير العلمي وأسباب ظهوره:

- ‌ثانيا- بين التفسير العلمي والمنهج العلمي:

- ‌ثالثا- خطوات المنهج العلمي في القرآن:

- ‌رابعا- شروط التفسير العلمي:

- ‌الفصل الرّابع تعريف بظلال القرآن

- ‌أولا- الصحابة وتفسير القرآن:

- ‌ثانيا- المفسّرون والغرض الأساس للقرآن الكريم:

- ‌ثالثا- الظلال وشروط التفسير المعاصر:

- ‌(أ) من أخطاء التعامل مع الظلال:

- ‌(ب) الظلال يتجاوز عصر الخلاف الجدلي أو الكلامي:

- ‌(ج) الظلال والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية:

- ‌(د) طريقته في التأليف:

- ‌(هـ) تفسير وتفسير

- ‌الفصل الخامس من ألوان التفسير المعاصر

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌أولا- المعنى الإجمالي للسورة:

- ‌ثانيا- أقسام السورة وموضوعها الرئيسي:

- ‌ثالثا- خصائص النص الفكرية:

- ‌رابعا- فن العرض أو الطريقة الأدبية:

- ‌خامسا- صياغة الآيات، أو التراكيب والجمل

- ‌سادسا- الموسيقى في السورة:

- ‌ والخلاصة:

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ثانيا- دورها وموقعها:

وقال تعالى:- في الآيتين التاليتين: 77 - 78 - : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78).

وفي هذا، وشبهه من ضروب الفواصل الأخرى التي يمكن ملاحظتها في الآيات القرآنية، ما يدل على شدّة التحام أجزاء الكلام، وما توحي به آيات التنزيل من ضروب «الإيقاع» الخفية والظاهرة والمتماثلة والمتقاربة. وتدخل هنا قضية «الوقف والابتداء» - أو القطع والائتناف- كذلك، كواحدة من الأدلة على وقوع الفاصلة في الجملة، وليس في الآية فحسب، وبخاصة في الوقف اللازم، كما لاحظت في بعض الشواهد السابقة؛ حيث يجب الوقف على كلمة «قولهم» في الآية 76 من السورة المذكورة.

‌ثانيا- دورها وموقعها:

إذا أردنا جلاء الدور الذي تؤديه «الكلمة» التي تختم بها الآية من القرآن- وهو أوضح لنا بطبيعة الحال من سائر الكلمات الأخرى التي قد لا تقلّ عنها أثرا في بناء الآية القرآنية، كما لاحظت من محاولة الرافعي التي أشرنا إليها- فلا بدّ لنا من الإشارة السريعة إلى البناء المجمل لهذه الآية: إنّ أدق ما يوصف به هذا البناء بأنه «محكم» وهو الوصف الذي جاء في القرآن الكريم نفسه: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) فالآية القرآنية بناء قد أحكمت لبناته أوثق الإحكام، لا تحس فيها بكلمة تضيق بمكانها، أو تنبو عن وضعها

«وتأتي الفاصلة هنا متمكّنة في مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة! يتعلّق معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما، بحيث لو طرحت اختلّ واضطرب الفهم» (1).

(1) البرهان للزركشي 1/ 79.

ص: 192

أي إن الفاصلة تقوم بدورها في «إحكام» بناء الآية في الشكل والمضمون، أو في المبنى والمعنى على حد سواء؛ لأن منهج الآية في التقديم والتأخير، والحذف والزيادة، والفصل والوصل، لا يقوم على اعتبارات شكلية محضة، بل يتبع كذلك المعنى فيسهم في «إحكامه» أيضا على أوثق وجوه الإحكام. وهذا هو ما أشار إليه الزمخشري في «كشافه» القديم (1).

أما الإحكام اللفظي، أو النظم الموسيقى فإن دور الفاصلة فيه شديد الوضوح .. حتى إن هذه الفواصل أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وحروف المدّ واللين .. وتلك هي الحروف الطبيعية في الموسيقى نفسها؛ قال سيبويه- رحمه الله:«أما إذا ترنّموا- أي العرب- فإنهم يلحقون الألف والواو والياء؛ ما ينوّن وما لا ينوّن؛ لأنهم أرادوا مدّ الصوت» . قال: «وإذا أنشدوا ولم يترنموا: فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنّم: وناس من بني تميم يبدلون مكان المدة النون» (2).

أما «إحكام» المعنى فيجب النظر فيه في سياق الآية أو الآيات ذاتها. ونحن هنا نقطع بأن إحكام المعنى هنا قرين إحكام اللفظ، حتى ولو لاحظنا أن «إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل» - بحسب تعبير الزركشي- كان بتأخير ما أصله أن يقدّم، أو إفراد ما أصله أن يجمع، أو جمع ما أصله أن يفرد، أو تثنية ما أصله أن يفرد

إلى آخر هذه الأسباب التي عددها الزركشي في باب إيقاع المناسبة هذا!! لأننا لا نفهم هذا «الأصل» الذي يشير إليه- ولا ندري كيف صار أصلا- إلا من زاوية ذلك الإحكام الدقيق في المبنى والمعنى جميعا

والذي لم تسهم فيه الفاصلة فحسب، بل توّجته وأوضحته وجلّته تمام الجلاء! وقبل أن أورد لك بعض

(1) البرهان 1/ 72.

(2)

الكتاب 2/ 298.

ص: 193

الشواهد التي توضح ما نقول، أورد لك من باب «إيقاع المناسبة» ذاك بعض الشواهد:

(أ) قال تعالى:* ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)[سورة الكهف، الآية 51]: والفواصل السابقة: «موعدا، أحدا، بدلا»

- قال ابن سيده: أي أعضادا، وإنما أفرد ليعدل رءوس الآي بالإفراد. والعضد: المعين.

ولا ننقض هذا القول بما في كلمة «أعضادا» من نبوّ وثقل؛ لأن هذا ليس هو موضوع الرد الأساسي؛ ولكن إذا كانت «عضدا» هي الأليق من هذه الجهة، ومن جهة الالتحام مع

سائر الفواصل

فإنها كذلك هي الأحكم من حيث المعنى؛ لأن المضلّين جميعا هم من الهوان والعجز في الموضع الذي يستغني الخلاق العليم عن معونتهم .. واحدهم في ذلك كجميعهم، وجميعهم كواحدهم .. ولهذا «العدول» - ولا أدري لم كان عدولا، ولم كان الجمع هو الأصل- أسباب وفوائد أخرى على كل حال.

(ب) وقال تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)[سورة إبراهيم، الآية 31]:

والفواصل السابقة: «البوار، النار» . قال الزركشي: «فإن المراد: «ولا خلّة» بدليل الآية الأخرى، لكن جمعه لأجل مناسبة رءوس الآي»!!

والآية الأخرى التي يشير إليها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)[سورة البقرة، الآية 254].

ونحن ننفي أن يكون (المراد: ولا خلّة) بل المراد: ولا خلال!! لأن ورودها بصيغة المفرد في آية لا يعني ضرورة أن تأتي بهذه الصيغة في آية أخرى .. بل لعل

ص: 194

العكس أقرب إلى الصواب؛ وذلك في ضوء ما أشرنا إليه في المتشابه اللفظي وفي صدر هذا الفصل.

وفي وسعنا أن نثبت هنا- بتعليق عابر- أن «الأصل» في آية سورة إبراهيم «ولا خلال» - والحديث هنا: من حيث المعنى، بالطبع- وفي آية سورة البقرة:

«ولا خلّة» . والخلّة هي المودة والصداقة، فآية الجمع- ولا خلال- جاءت في سياق الأمر بإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله، سرا، وعلانية

قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا تنفع فيه المودّات والصّداقات

وبعض الناس كما هو معلوم يتهاون بأمر الصلاة في الدنيا خجلا أو مراعاة لبعض هذه الصداقات ..

وبعضهم ينفق مما رزقه الله على حال دون حال من السر أو العلانية بحسب الأغراض والنيات، أو بحسب الظروف والأحوال .. كل هذا- وغيره كثير- يناسبه:«ولا خلال» تنفع هنا أو هناك!.

أما الآية الثانية فقد وردت في سياق واحد هو الأمر بالإنفاق، أو مجرد الأمر بالإنفاق مما «رزقناكم» دون ذكر كذلك لحالتي السر والعلن، فقد يكون ناسبه لذلك الإفراد .. ثم إن هذه «الخلّة» قد عطف عليها بالشفاعة .. فعاد «الجمع» الذي تحدث عنه الزركشي .. لأن الشفاعة أعلى من المودّة والصداقة .. وهذا على مذهب من يرى في مثل هاتين الآيتين أن الجمع هو الأصل، على عكس ما أشار إليه الزركشي! .. ولا «أصل» هنا أو هناك سوى مراعاة النظم، وملاحظة الدور الذي أدّته الفاصلة في المكان الذي جاءت فيه من حيث إحكام المبنى والمعنى جميعا.

(ج) وأختم لك هذه الأمثلة بشاهد ثالث لا أعلّق عليه بشيء

وإنما أدع فيه المناقشة والرد- على إيجازه- لابن قتيبة- رحمه الله، قال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46)[سورة الرحمن، الآية 64].

قال الفرّاء: «هذا باب مذهب العرب في تثنية البقعة الواحدة وجمعها» ،

ص: 195

كقوله: «ديار لها بالرّقمتين» وقوله: «بطن المكّتين» . قال: «وأشير بذلك إلى نواحيها (1)، أو للإشعار بأن لها وجهين، وأنك إذا وصلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت في الناحيتين ما يملأ عينيك قرّة، وصدرك مسرّة» . ثم قال: «وإنما ثنّاهما هنا لأجل الفاصلة؛ رعاية للتي بعدها على هذا الوزن. والقوافي تحتمل في الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام» .

قال الزركشي (2): «وأنكر ذلك ابن قتيبة عليه، وأغلظ- قلت: وحقّ له ذلك- وقال: «إنما يجوز في رءوس الآية زيادة هاء السكت أو الألف، أو حذف همزة (3)، فأما أن يكون الله وعد جنّتين فنجعلهما جنّة واحدة من أجل رءوس الآي فمعاذ الله! وكيف هذا وهو يصفهما بصفات الاثنين، قال: ذَواتا أَفْنانٍ (48) ثم قال فيهما: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50).

ثم قال ابن قتيبة في تعقيب أخير لطيف: «ولو أن قائلا قال في خزنة النار:

إنهم عشرون! وإنما جعلهم الله تسعة عشر لرأس الآية؛ ما كان هذا القول إلا كقول الفرّاء!!».

وإذا كان في هذه الشواهد- التي جاءت في سياق الرد والتصويب- ما يوضح دور الفاصلة الهائل في إحكام المبنى والمعنى جميعا، بما يغني عن مزيد من العرض، في سياق الإثبات وإقامة الدليل، إلا أننا نورد هنا شاهدا، أو شاهدين؛ مكتفين بالإشارة إلى أن الطريقة السابقة التي نقلها أو لجأ إليها الزركشي قد هدتنا إلى جوانب إيجابية واسعة في هذا الباب نرجو أن نفصل فيها القول في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى:

(1) يعني مكة المكرمة.

(2)

البرهان 1/ 65.

(3)

أي فيما يجوز مثله في سائر الكلام.

ص: 196

(أ) قال الله تعالى في سورة عبس: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

الآيات.

نزلت هذه الآيات الكريمة في عتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وقد جاءه يطلب سماع القرآن، وأن يعلّمه النبيّ شيئا مما علّمه الله سبحانه

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولا بنفر من كبار قريش يعرض عليهم الإسلام، يطمع في دخولهم فيه، وما يتبع ذلك من هداية من وراءهم

فعبس صلى الله عليه وسلم في وجه عبد الله وأعرض عنه؛ فنزلت الآيات مبيّنة أن ميزان الله هو الميزان، وأنه ليس للنبيّ الكريم أن يعرض عن رجل هو في ميزان الله فوق أولئك الرؤساء والزعماء، أصحاب الجاه الواسع، والمكانة العالية، والثراء العريض ..

حتى ولو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولا معهم بأمر يخصّ الدعوة والإسلام لا بأمر شخصي أو له علاقة بالنبيّ نفسه- عليه الصلاة والسلام

ونقف أولا عند الفاصلتين الأولى والثانية. إن دور هاتين الفاصلتين من حيث إحكام اللفظ، والنسق والموسيقى مع سائر الفواصل الأخرى واضح لا يحتاج إلى تعليل .. ولكن نقول: إن وراء هذا الإحكام إحكاما آخر كذلك من حيث المعنى والفحوى: فكلمة «تولّى» صوّرت إعراض النبيّ النفسي أو الداخلي إذا ما قارنتها بكلمة «عبس» التي صورت حالة النبيّ صلى الله عليه وسلم التي ارتسمت على وجهه الشريف. ومعنى ذلك أن هاتين الكلمتين استقلتا بتصوير حالة الإعراض التي ألمّت بالنبيّ الكريم من حيث الظاهر والباطن

واذكر مع هذا أن العبوس الذي صوّرته «عدسة» الآيات القرآنية عن الوجه الشريف لم يره عبد الله الذي عبس النبيّ في وجهه لأنه كان أعمى!! واذكر كذلك أن «التولي» الذي سجّلته الآية أو الكلمة القرآنية، والذي تعجز عن تسجيله العدسات وسائر أدوات الالتقاط والتصوير

هو حالة نفسية داخلية .. وأنها لا يراها البصير .. فقد يكون أحدنا مقبلا على

ص: 197

الآخر بحديثه من حيث الظاهر ولكنه معرض عنه من الداخل أو من الناحية النفسية الشعورية لأي سبب من الأسباب.

أقول: العبوس لم يره الأعمى، والتولّي قد لا يراه البصير، ثم كانت المقابلة الهائلة والتلخيص الدقيق بكلمتين اثنتين: عبس وتولى. ولا داعي للإشارة بعد ذلك إلى أن تقديم «عبس» على «تولّى» أو تأخير الثانية عن الأولى، هو الأصل من حيث ترتيب المعاني من حيث الظهور والخفاء .. وأنه هو الذي أسهم كذلك في بناء الفواصل على النسق الذي رأيت

يضاف إلى ذلك أن الذي هيأ ومكّن لهذه الفاصلة التي رأيت هو مجيء الآيتين الأولى والثانية بصيغة الغائب، أو الشخص الثالث كما يقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) ولم يقل الله سبحانه وتعالى: «عبست وتوليت» ! ولو حصل ذلك لكان مفسدا لأمر الفاصلة والنظم الموسيقى؛ ولكان فيه كذلك إيحاش لقلب النبيّ الكريم حين يفاجأ بصيغة الخطاب تلك .. أو لكانت نبرة العتاب أقسى من أن يخاطب بها الله سبحانه نبيّه الكريم أو يبتدئه بها- عليه الصلاة والسلام

وهذا كما هو واضح: من حيث المعنى، أو من حيث أدق المعاني النفسية والشعورية

ولولا أن الكلام في الآيات الكريمة استوى إلى وضعه الأصلي- الخطاب- في الآية الثالثة: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) لما علمنا ابتداء أن الآيات نزلت في شأن النبيّ الكريم- عليه صلوات الله وسلامه- مع بعض الصحابة في واقعة بعينها.

ونشير أخيرا إلى أن الفاصلة في الآية الثانية، وهي كلمة «الأعمى» جاءت بوصف الصحابي دون اسمه؛ كأنها تومئ أو تشير إلى سبب الإعراض عنه، أو تحمل في مدلولها العام والقريب إشارة إلى أن هذه العاهة يجب ألا تحمل أحدا إلى يوم الدين أن يعرض عن أعمى في أي موقف قريب أو مماثل! وفي هذا إخراج للنص القرآني من أن تراد به حالة «تاريخية» خاصة .. وقد فهم منها بعض

ص: 198

المفسّرين أنها تحمل- في إشارة أخرى- اعتذارا عن عبد الله بن أمّ مكتوم الذي اقتحم على النبيّ مجلسه مع القوم!

وهذا كلّه من حيث المعنى، أما من حيث دور هذه الكلمة في بناء الفواصل مع كلمة «تولّى» ثم مع سائر فواصل الآيات الكريمة «يزّكّى، الذّكرى، استغنى

» فأوضح من أن يشار إليه

ونكتفي بالحديث عن هاتين الفاصلتين، تاركين الكلام في سائرها إلى موضعه من باب التفسير إن شاء الله. وإذا أردت أن تتابع بنفسك نمطا من هذا القبيل- في ضوء ما تقف عليه من كتب التفسير- فإني أحيطك علما بأن في وسعك أن تكتب في كلمتي «يسعى، يخشى» قريبا مما كتبت لك؛ لأن سعي الأعمى في طرقات المدينة صوّر حالته الجسمية، وهو أمر ليس بالقليل في ميزان الله، ولأن كلمة «يخشى» صوّرت حالته الإيمانية الداخلية التي دفعته إلى ذلك السعي الذي لا يستوي فيه مع البصير!! وسبحان ذلك المقام الذي كانت تتنزّل منه هذه الآيات البيّنات

(ب) الشاهد الثاني: قال الله تعالى في سورة الحاقة في وصف القرآن الكريم: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ، قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42)[الآيتان 41 - 42].

ونقف هنا، سريعا، أمام الفاصلة موضوع البحث، وهي الكلمة التي تختم بها الآية، دون الفاصلة الأخرى الواضحة في هاتين الآيتين .. جاءت فاصلة الآية الأولى:«تؤمنون» وفاصلة الآية الثانية «تذكّرون» فتم بهما التنويع والتلوين في النغم والنظم الموسيقى، وكانت الآية الأولى يناسبها من حيث المعنى أن تختم بما ختمت به لأن انفصال القرآن ومخالفته لنظم الشعر أمر واضح بيّن؛ فمن نسب القرآن إلى الشعر فقد قال ما قال كفرا وعنادا خالصا

أو: لم يحمله على ذلك القول إلا الكفر والعناد، فناسب ذلك أن تختم الآية بقوله:«قليلا ما تؤمنون» !! أما

ص: 199