الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس من ألوان التفسير المعاصر
سورة «الفجر»
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)«صدق الله العظيم» .
هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا [الجزء] الأخير في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر. ولكنها تتضمن ألوانا شتى
من الجولات والإيقاعات والظلال، ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدّد النغمات موحد الإيقاع!
في بعض مشاهدها جمال هادئ رقيق ندي النسمات والإيقاعات، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد
…
وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ.
وفي بعض مشاهدها شدّ وقصف، سواء مناظرها أو موسيقاها، كهذا المشهد العنيف المخيف: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى. يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ.
وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض، وطمأنينة، تتناسق فيها المناظر والأنغام كهذا الختام: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي.
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين، وإيقاعها بين بين، بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ
…
».
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم: كَلَّا* بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا.
ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم، فقد جاء بعده كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا
…
فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير!
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة.
وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها. كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي بحسب تنوع المعاني والمشاهد، فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني. فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس!
فأما أغراض السورة الموضوعية التي يحملها هذا التعبير المتناسق الجميل فنعرضها فيما يلي بالتفصيل:
وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ. هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة. وَالْفَجْرِ ساعة تنفس الحياة في يسر وفرح، وابتسام وإيناس ودود نديّ، والوجود الغافي يستيقظ رويدا رويدا، وكأن أنفاسه مناجاة، وكأن تفتّحه ابتهال.
وَلَيالٍ عَشْرٍ أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى
…
قيل هي العشر من ذي الحجة، وقيل: هي العشر من المحرّم، وقيل: هي العشر من رمضان. وإطلاقها هكذا أوقع وأندى. فهي ليال عشر يعلمها الله، ولها عنده شأن.
تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة. وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف!
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب، جو الفجر والليالي العشر
…
«ومن الصلاة الشفع والوتر» - كما جاء في حديث أخرجه الترمذي- وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة، بروح الوجود الساجية! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة. وروح الفجر الوضيئة.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ
…
والليل هنا مخلوق حي، يسري في الكون، وكأنه ساهر يجول في الظلام! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة! يا لإناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويا لجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر! إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي أنسام من أنسام الفجر، وأنداء مشعّة بالعطر! أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟
واللمس الموحي للضمير؟ إنه الجمال .. الجمال الحبيب الهامس اللطيف ..
الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية اللطيفة. لأنه الجمال الإبداعي، المعبّر في الوقت ذاته عن حقيقة. ومن ثم يعقب عليه في النهاية: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟ وهو سؤال للتقرير. إن في ذلك قسما لذي لبّ وعقل، إن في ذلك مقنعا لمن له إدراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام- مع إفادتها التقرير- أرق حاشية، فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق!
أما المقسم عليه بذلك القسم، فقد طواه السياق ليفسره ما بعده، فهو موضوع الطغيان والفساد، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ؟ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي
الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات.
والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ابتداء، ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه، ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة. وإضافة الفعل إلى «ربك» فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة. وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة وعسف الجبارين من المشركين، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد. وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم. مصرع:«عاد إرم» وهي عاد الأولى. وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن. وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد. وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في ذلك الأوان وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ .. وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام. وقد قطعت الصخر وشيّدته قصورا، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات.
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ .. وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان. وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار.
هؤلاء هم الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ .. وليس وراء الطغيان إلا الفساد، فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء، كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة، ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف المعمر الباني إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال.
إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد، ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف، وكذلك قال فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى عند ما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد. ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين، والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفّن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد
…
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة .. وهو فساد أي فساد!
فلما أكثروا في الأرض الفساد، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ!
…
فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم؛ فلما أن كثر الفساد وزاد صبّ عليهم سوط عذاب. وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب، حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد!
ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان. ومن قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تفيض طمأنينة خاصة. فربك هناك راصد لا يفوته شيء، مراقب لا يندّ عنه شيء.
فليطمئن بال المؤمن، فإن ربه هناك! .. بالمرصاد .. للطغيان والشر والفساد!
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ .. يرى ويحسب ويجازي، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء. فأما الإنسان فتخطئ موازينه، وتضل تقديراته، ولا يرى إلا الظواهر، ما لم يتصل بميزان الله.
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ
…
فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال، ومن بسط وقبض، ومن توسعة وتقدير
…
يبتليه بالنعمة والإكرام، بالمال أو المقام. فلا يدرك أنه الابتلاء تمهيدا للجزاء، إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلا على استحقاقه عند الله للإكرام، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره، فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة! ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك، ويحسب الاختبار عقوبة، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه
…
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير. فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده، ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر، ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر، والجزاء على ما يظهر منه بعد. وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء. وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا، ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض. فهو يعطي الصالح والطالح، ويمنع الصالح والطالح. ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعوّل؛ إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي. والمعوّل عليه هو نتيجة الابتلاء!
غير أن الإنسان- حين يخلو قلبه من الإيمان- لا يدرك حكمة المنع والعطاء، ولا حقيقة القيم في ميزان الله .. فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنا لك. وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء، فعمل له في البسط والقبض سواء. واطمأن إلى قدر الله به في الحالين، وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء!.
كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا
…
كلا ليس الأمر كما يقول الإنسان الخاوي من الإيمان. ليس بسط الرزق دليلا على الكرامة عند الله، وليس تضييق الرزق دليلا على المهانة والإهمال.
إنما الأمر أنكم لا تنهضون بحق العطاء، ولا توفون بحق المال؛ فأنتم لا تكرمون اليتيم الصغير الذي فقد حاميه وكافله حين فقد أباه، ولا تتحاضون فيما بينكم على إطعام المسكين: الساكن الذى لا يتعرض للسؤال وهو محتاج، وقد اعتبر عدم التحاضّ والتواصي على إطعام المسكين قبيحا مستنكرا. كما يوحي بضرورة التكافل في الجماعة في التوجيه إلى الواجب وإلى الخير العام، وهذه سمة الإسلام.
…
إنكم لا تدركون معنى الابتلاء. فلا تحاولون النجاح فيه، بإكرام اليتيم والتواصي على إطعام المسكين، بل أنتم- على العكس- تأكلون الميراث أكلا شرها جشعا، وتحبون المال حبا كثيرا طاغيا، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام.
وقد كان الإسلام يواجه في مكة حالة التكالب على جمع المال بكافة الطرق، تورث القلوب كزازة وقساوة. وكان ضعف اليتامى مغريا بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث في صور شتى. وبخاصة ما يتعلق بالميراث، كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام، وهي سمة الجاهليات في كل زمان
ومكان! حتى الآن.
وفي هذه الآيات، فوق الكشف عن واقع نفوسهم، تنديد بهذا الواقع، وردع عنه يتمثل في تكرار كلمة «كلا» ، كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه. وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا! ..
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته، بعد الابتلاء ونتيجته في إيقاع قوي شديد:
كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ.
ودك الأرض: تحطيم معالمها وتسويتها، وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة. فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض، ولكنا نحس وراءه التعبير بالجلال والهول! كذلك المجيء بجهنم: نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى. فأما عن حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم.
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم، الشديدة الأسر، مشهد ترجف له القلوب، وتخشع له الأبصار. والأرض تدك دكا دكا! والجبار المتكبر يتجلّى ويتولّى الحكم والفصل، ويقف الملائكة صفا صفا.
ثم يجاء بجهنم متأهبة هي الأخرى!!
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ .. الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء، الذي أكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جما، والذي لم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، والذي طغى وأفسد وتولى
…
يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى، ولكن قد فات الأوان وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ..
ولقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحدا! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا!.
وحين تتجلى له هذه الحقيقة: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي .. يا ليتني قدمت شيئا لحياتي هنا، فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة، وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها. يا ليتني .. أمنية فيها الحسرة الظاهرة، وهي أقصى ما يملكه الإنسان في الآخرة!
ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ .. إنه الله القهار الجبار، الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد. والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد. وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله. ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم، أو من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم، وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثّلين في عاد وثمود وفرعون، وإكثارهم من الفساد في الأرض مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال. فها هو ذا ربك- أيها النبيّ وأيها المؤمن- يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم.
ولكن شتان بين عذاب وعذاب، ووثاق ووثاق
…
وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر، وجلّ ما يفعله صاحب الخلق والأمر. فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون، فسيعذبون ويوثقون عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون!!
وفي وسط هذا الهول المروع، وهذا العذاب والوثاق، الذي يتجاوز كل تصور تنادى «النفس» المؤمنة من الملأ الأعلى:
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي
…
هكذا في عطف وقرب «يا أيتها» وفي روحانية وتكريم «يا أيتها النفس» ..
وفي ثناء وتطمين «يا أيتها النفس المطمئنة» وفي وسط الشد والوثاق، الانطلاق والرخاء:«ارجعي إلى ربك» ارجعي إلى مصدرك بعد غربة الأرض وفرقة المهد.
ارجعي إلى ربك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة .. «راضية مرضية» بهذه النداوة التي تفيض على الجو كله بالتعاطف والرضى .. «فادخلي في عبادي» ..
المقربين المختارين لينالوا هذه القربى «وادخلي جنتي» .. في كنفي ورحمتي
…
إنها عطفة تنسم فيها أرواح الجنة .. منذ النداء الأول: «يا أيتها النفس المطمئنة»
…
المطمئنة إلى ربها .. المطمئنة إلى طريقها .. المطمئنة إلى قدر الله بها .. المطمئنة في السراء والضراء، وفي البسط والقبض، وفي المنع والعطاء ..
المطمئنة فلا ترتاب، والمطمئنة فلا تنحرف، والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق، والمطمئنة فلا ترتاع في يوم الهول الرعيب!
ثم تمضي الآيات تباعا تغمر الجو كله بالأمن والرضى والطمأنينة، والموسيقى الرخيّة النديّة حول المشهد ترف بالود والقربى والسكينة.
ألا إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية، تطل من خلال هذه الآيات .. وتتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية (1).
(1) في ظلال القرآن 29/ 152 - 160.