الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفواصل المتفقة في الحرف الأخير، وتسمى: متماثلة. والقسم الثاني: ما عداها وتدعى متقاربة، وهي التي تقاربت حروفه في المقاطع ولم تتماثل. ولا تخرج الفواصل عن هذين النوعين.
هذا، وقد تتفق الفاصلتان لا في الحرف الأخير فحسب، ولكن في حرف قبله أو أكثر .. حيث يبلغ النظم الموسيقى وسائر ضروب الإيقاع قمة السلاسة واللين والجمال؛ على عكس ما تراه في السجع المتكلّف عند الأدباء والكتّاب.
مثال التزام حرف- أي قبل الحرف الأخير- قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)[سورة الشرح، الآيات 1 - 4].
وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)[سورة الضحى، الآيتان 9 - 10].
ومثال ما اتفقا في حرفين قوله تعالى: وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28)[سورة القيامة، الآيتان 27 - 28].
وقوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2)[سورة الطور، الآيتان 1 - 2].
وفيها أيضا: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)[سورة الطور، الآيتان 7 - 8].
ومثال التزام ثلاثة أحرف: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)[سورة الأعراف، الآيات 201 - 202].
رابعا- بين الفاصلة والسجع والشعر:
يظهر من هذا أن الفواصل تفترق عن الأسجاع عند ما تكون هذه الفواصل متقاربة أو متماثلة. أما الفواصل المتماثلة فكلها مسجوعة بالطبع، ولهذا قال ابن
سنان في تعريف الأسجاع إنها «حروف متماثلة في مقاطع الفواصل» قال: «وأظن أن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعا: رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المرويّ عن الكهنة وغيرهم!» .
ونحن لا نرى مانعا من تسمية ما تماثلت حروفه سجعا على كل حال.
وإذا كانت الفاصلة في الآية كالقافية في الشعر، فقد رأينا كذلك بعض ما تختلف فيه الفاصلة عن القافية؛ حينما تتقارب الفواصل ولا تتماثل. ولكن القوافي في واقع الأمر فواصل لأنها تفصل آخر الكلام، وخصت فواصل الشعر باسم القوافي لأن الشاعر يقفوها، أي يتّبعها في شعره لا يخرج عنها. قال الزركشي:
والأمر البلاغي، أو النقدي، الذي تفترق فيه الفاصلة القرآنية من القافية الشعرية أن من المعيب في الشعر أن تتكرر القافية قبل سبعة أبيات، وليس ذلك بعيب في الفاصلة؛ اقرأ إن شئت قوله تعالى في آخر سورة مريم: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)[سورة مريم، الآيات 88 - 95] وانظر الآيات الثلاث المتبقية من السورة الكريمة.
ولكن يجب البحث عن سرّ هذا التكرار في سياق الآيات ذاتها التي تكررت
(1) البرهان 1/ 58.
فيها هذه الفاصلة
…
وقد حاولنا ذلك في بعض المواطن القرآنية
…
والذي يمكن قوله في الشاهد السابق- على سبيل المثال- أن هذا التكرار جاء في معرض الرد على هذه الدعوى الكاذبة، فناسبها أن تردّ هي عينها
…
وبحروفها، دون أدنى زيادة أو نقصان، إلى جانب ما تحمله من دلالة أخرى واضحة كذلك، وهي التي مهّد لها بقوله:«وما ينبغي» وهي أن مقام الألوهية أعلى من أن ينفعل لمثل هذه الفرية الكاذبة، وهذا التطاول الأرعن
…
فلم تزد الآية الكريمة على أن ردّت عليهم قولهم- كما هو- بقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي
…
وهذا هو طابع الكبرياء والعظمة الذي يطالعه القارئ لكتاب الله، يتراءى له أو يقف عليه في هذا السياق القرآني، جليا دقيقا، من خلال هذا التكرار للفاصلة القرآنية!
وأخيرا: تحسن الإشارة هنا إلى مجيء بعض الفواصل المفردة، وبخاصة في نهاية بعض السور القرآنية، وإن كانت قد وردت كذلك في ثنايا بعض السور- وكل هذا مما يجعلها مغايرة للسجع والشعر-.
وحينما تنتهي السورة بفاصلة منفردة تكون لها كالمقطع- أو اللحن- الأخير. ويمكن لنا هنا أن نتذكر ما قدمناه، في الطرف المقابل، من الدلالة الفنية- أو الموسيقية- والدور الاستهلالي لفواتح السور. قال تعالى في ختام سورة الضحى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)[سورة الضحى، الآيات 9 - 11].
وقال تعالى في ختام سورة العلق: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)[سورة العلق، الآيات 15 - 19].
ولهذه الفواصل كذلك دلالات أخرى لا مجال للإفاضة فيها، ولمن شاء أن يطلبها في سياق الآيات كما هو معلوم. ونقول مثل ذلك في الفواصل المفردة التي توسطت بعض السور- راجع سورة عبس، وسورتي البلد والانشقاق- والتي تشير
في بعض الأحيان إلى الموضوع الرئيس الذي تدور حوله السورة، أو إلى أمر بارز يجدر بالقارئ ألا يدغمه في سائر ألحان النص الأخرى المتقاربة أو المتماثلة- وهذا الأمر كما لاحظنا يحمل طابع التفرد على وجه العموم بغض النظر عن مكان ورود هذه الفاصلة- وغالبا ما يكون «فاصلا» بين نوعين من أنواع فواصل النص وألحانه
…
غير مقطوع الصلة باللحن الأول .. وممهدا في الوقت ذاته للحن الثاني الذي يليه
…
والله تعالى أعلم.