الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث التفسير «العلمي» لآيات الكون والطبيعة
أولا- معنى التفسير العلمي وأسباب ظهوره:
يعد التفسير العلمي أحد فروع أو ألوان التفسير المعاصر. ويراد به: الاستناد إلى حقائق العلم التجريبي- ونظرياته- في شرح آيات الطبيعة والإنسان- آدم وبنيه- والتي وردت في القرآن الكريم في سياقات شتى، ومواضع متعددة.
لقد عني بعض المشتغلين بالتفسير، وبعض الباحثين والكتّاب المسلمين بهذا الضرب من ضروب التفسير، أو بهذا النوع من آيات الكتاب العزيز، في ضوء الأسباب التالية:
1 -
الكشوف العلمية، التي امتاز بها العصر الحديث، والتي تناولت الطبيعة في مظاهرها وفروعها المتعددة: «النبات، الحيوان، الفلك، الجغرافية
…
الفيزياء
…
إلخ» وكذلك الإنسان في مراحل خلقه المختلفة وفي جوانبه المادية أو العضوية. فإذا علمنا أن القرآن الكريم أشار إلى بعض هذه الجوانب والمراحل، وأشار كذلك إلى الكثير من مظاهر الطبيعة تلك؛ أدركنا السبب في اتجاه بعض الباحثين والمفسّرين نحو هذه الكشوف يستعينون بها في التفسير، أو يحاولون فهم الآيات الكريمة في ضوئها أو انطلاقا منها. ساعدهم على ذلك- أو دفعهم إليه
فيما يبدو- ما وقفوا عليه من شروح المفسّرين القدامى لهذه الآيات! والتي عبّرت عن فهم غير سديد تارة، أو عن رأي لا يزيدنا علما بفهم الظاهرة تارة أخرى
…
بل إن الأمر وصل في كثير من الأحيان إلى حد الاستعانة بالروايات الإسرائيلية، انطلاقا من أن هذه الاستعانة لا ضرر معها، لأنها لا تنطوي على تحريم حلال، أو تحليل حرام! مع ما تضمنته بعض هذه الروايات من تصورات خرافية، كما تبين لنا فيما بعد.
ومن هنا، فإن هذه المشكلة، أعني مشكلة تفسير بعض الآيات القرآنية بمثل هذه التصورات، واجهت المسلمين في عصر لا حق، ولم يشعر بها من اعتمدها أو نقلها من المفسّرين السابقين، نظرا لأن الوقوف على التفسير الصحيح لتلك الإشارات القرآنية مشى في ركاب الكشوف العلمية التي جاء بها العصر الحديث.
2 -
محاولة بعض المسلمين اللحاق بركب التقدم العلمي، والتأكيد على عدم معارضة القرآن والإسلام للعلم! وإذا كان مثل هذا التأكيد لا يحتاج إلى بيان، كما سنشرح في الفقرة التالية، فإن الإصرار على تفسير آيات الطبيعة في القرآن بحقائق العلم التجريبي ونظرياته، تحمل في طياتها نقدا للمفسّرين السابقين أو اعتذارا عنهم، من جهة. كما تحمل الدلالة على أن القرآن الكريم لا يعارض العلم، وأن المعارضة إنما تكمن في بعض شروح المفسّرين، من جهة أخرى.
ولكن المشكلة في هذه المحاولة أنها وصلت في كثير من الأحيان إلى حد التبرير لقعود المسلمين وتخلّفهم في ميدان البحث والاكتشاف العلمي! أو أنها انطوت على معنى (التعويض) عن هذا القعود والتخلف، على أقل تقدير! وكأن لسان الحال يقول: وما علينا! وقد سبق القرآن هؤلاء العلماء بمئات السنين!
والعجيب في هذه النقطة أن أشد الناس غلوا في الدعوة إلى تفسير القرآن بتلك النظريات أو إلى التفسير العلمي للقرآن كما قلنا؛ والذي كاد أن يقلب كتب التفسير إلى كتب في علم الأحياء أو الفلك أو الطب، لم يخطئ في نقد العلماء
الأقدمين لإسرافهم في علم الفقه والتوحيد، وتقصيرهم في علوم الكون والطبيعة- حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من أخطاء في تفسير آيات القرآن الكريم- ولكنه أخطأ أو أسرف في ظنه أن الطريق إلى هذه العلوم هو تفسير المفردات والجمل والتراكيب. أو نقل ما اكتشفه الأوروبيون في هذا الباب، وحشو كتب التفسير فيه، لأدنى مناسبة، أو لمجرد أن آية من آيات الكتاب العزيز جاء فيها ذكر السماء والأرض، أو أشارت إلى نبات أو حيوان!
لقد أخلّ المفسّر المشهور الشيخ طنطاوي جوهري- رحمه الله في كتابه الجواهر- وهو المقصود بهذا الإسراف في الاعتبار الأول- برتابة كتب التفسير التي عرفها عصره، أو انحدرت إليه،
…
وهذا مما يحمد له، ولكنه أخطأ طريقه إلى التقدم العلمي، حين وقف عند حدود النقل، أو حين ظن أن هذا التقدم يتحقق بحشو كتب التفسير بهذه النقول، وبطريقة إجراء المطابقة بين كشوف القوم العلمية وآيات القرآن الكريم، وبغض النظر عن التعسف في إجراء هذه المطابقة في معظم الأحيان. لقد وصف الشيخ الطنطاوي جوهري كتابه بأنه يشتمل «على عجائب بدائع المكونات، وغرائب الآيات الباهرات» ! وقال فيه أيضا: «بهذا الكتاب وأمثاله سيستيقظ المسلمون سريعا، وسيجيء جيل لم تشهد الأرض مثله
…
أيها المسلمون هذا هو علم التوحيد في الحقل والجبل والزرع والشجر والثمر والشمس والقمر، لا في الكتب المصنّفة المشهورة، هي والله مبعدة عن حكمة الله، ومبعدة عن معرفة آياته» (1)!!
لقد أبعد الشيخ- رحمه الله النجعة، ولم يتحقق له ما أمّل أو أراد!
3 -
ويقرب من هذا السبب، أو يكمله ويتممه، أن المسلمين وجدوا في هذا اللون المعاصر من ألوان التفسير تأكيدا لإعجاز القرآن، أو بابا جديدا من
(1) تفسير الجواهر 1/ 66، طبع مصر 1352 هـ.
أبوابه، حتى دعوه بالإعجاز العلمي، بل يمكن القول: إن التفسير العلمي والإعجاز العلمي، صارا قرينين أو شيئا واحدا في عرف كثير من الدارسين والباحثين.
والواقع أن المسلمين وجدوا في هذا اللون من ألوان التفسير، أو في هذا الوجه من وجوه الإعجاز- كما دعوه- ميدانا ملائما للدعوة إلى الإسلام، وإقامة الدليل على أن القرآن وحى يوحى، وأنه تنزيل من حكيم حميد، في الوقت الذي ضعفت سليقة العرب اللغوية، وأضحوا غير قادرين على «تذوق» الإعجاز البياني للقرآن الكريم
…
وفي
الوقت الذي عدّ فيه هذا «الإعجاز الجديد» قادرا على مخاطبة العرب وغير العرب، كما يقوى على إدراكه المسلمون وغير المسلمين، بل إن غير المسلمين من الأوروبيين المكتشفين للسنن، أو أصحاب التقدم العلمي المشار إليه، يأتون في مقدمة من يعقل عن القرآن هذا الإعجاز، أو بعبارة أدق:
هذا السبق العلمي الباهر الذي جاء به القرآن الكريم قبل مئات السنين.
ونحن هنا نؤرخ لظهور هذا اللون من ألوان التفسير، ونتحدث عن أسباب نشأته في هذا العصر، أو على هذا النحو. ولا ندقق في صحة هذا السبب الأخير، أو في صواب هذه التسمية:«الإعجاز العلمي» والذي يمكننا أن نقوله- باختصار شديد- إن الإعجاز الحقيقي في هذا الجانب، وأعني جانب الحقائق العلمية عن الكون والإنسان التي أشار إليها الكتاب العزيز، يمكن في طريقة القرآن في التعبير عن هذه الحقائق، لا فيما سمّيناه تفسيرا علميا قد نخطئ فيه أو نصيب! لقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقائق على نحو يفهم خلال العصور! بمعنى أن أسلوب القرآن ونظمه وبيانه- الذي جعلناه مناط الإعجاز فيما سبق- اتّسع للتعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في أي عصر، ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. كما قلنا في ختام الفصل السابق. هذا هو وجه الإعجاز عندنا في هذه المسألة.